محمد جاد الزغبي يكتب: المواجهات السياسية بين مصر وإيران (3)
كيف استمالت إيران القوميين العرب
حركة القومية العربية التى أشعلها عبد الناصر وصنعت سمعة العرب الدولية فى العالم كجبهة تتصدى لمؤامرات الإستعمار الغربي، هذا الفكر القومى القائم على توحيد المصير بين مصر والدول العربية كان متصادما بمنتهى القوة مع إيران التى لم تقم فيها دولة إلا بالقومية الفارسية العنصرية تجاه الجنس العربي تحديدا.
ويرجع هذا لسبب تاريخي عميق الجذور منذ نجاح العرب المسلمين فى إسقاط دولة فارس بالضربة القاضية عبر جهود الفاتحين العرب الكبار فى العراق مثل المثنى بن حارثة الشيبانى وخالد بن الوليد ثم سعد بن أبي وقاص الذى وضع كلمة النهاية للإمبراطورية الفارسية بعد موقعتىّ القادسية ونهاوند، مما أورث الفرس مرارة لم يمحها الزمن قط حتى اليوم.
وزاد من كثافة المرارة والحقد الفارسي على العرب أمران متداخلان وهما:
* أن الفرس فى العهود الفارسية كانوا يحتقرون العرب احتقارا شديدا ويعاملونهم بهذا الأساس، ويكفي أن إمبراطور فارس هو الحاكم الوحيد الذى قتل رسول النبي عليه السلام، عندما راسل النبي عليه السلام ملوك مصر والشام وفارس للدعوة للإسلام بينما استقبل إمبراطور الروم والمقوقس الحاكم الرومانى لمصر رسل النبي عليه السلام وأكرموا وفادتهم، بل إن المقوقس رد الرسالة بهدية لائقة بالنبي عليه السلام أيضا.
فالحكم الكسروي فى فارس توارث بغض العرب بغضا شديدا، وبالذات بعد نجاحهم ـــ قبل ظهور الإسلام- بسنوات قليلة فى التوحد لأول مرة ضد جيوش كسرى الذى غدر بأحد زعماء العرب المشاهير وقتله، فرد العرب بالحشد من كافة القبائل بزعامة بنى شيبان ليخوضوا معركة غير متكافئة مع جيش الفرس فى موقعة ذى قار. وللغرابة أن المعركة انتهت لصالح العرب بانتصار ساحق.
* السبب الثانى أن إمبراطورية فارس سقطت وانهزمت فى المواجهات مع الخلافة الإسلامية الوليدة وانتهى أمرها للأبد، بينما ظلت إمبراطورية الرومان بعد سقوطها فى الشام متماسكة إلى حد كبير تمارس حكمها من خلال عاصمتها التاريخية القسطنيطينية لقرون عديدة حتى سقطت عاصمتهم على يد الخلافة العثمانية وفتحها محمد الفاتح، فهذا الإنهيار السريع والذريع لإمبراطورية الفرس مع بقاء عدوهم اللدود وهم الرومان، كل هذا زاد من ضراوة العداء الفارسي للعرب.
وفى زمن تفكك الخلافة فى العصور الوسطى الإسلامية نشأت بإيران دول قومية فارسية تتستر بعقيدة التشيع التى صكها وصاغها الفرس لهدم الإسلام من الداخل، وكانت تلك القومية الفارسية ناضحة وواضحة إلى أبعد مدى فى تلك الدول وهى دولة القاجاريين ودولة الصفويين ودولة البهلوية التى قامت عليها ثورة الخمينى ثم أخيرا دولة الخمينى صاحب إختراع دولة ولاية الفقيه.
وقد كانت المواجهات بين مصر وإيران فى عصر عبد الناصر فى مواجهة دولة البهلوية أو دولة الشاه رضا بهلوى ثم ولده محمد رضا بهلوى، والذى توفي عبد الناصر قبل سقوط حكمه بتسع سنوات، وكان القوميون منسجمون فى العداء لإيران لتوافر أسباب العداء كاملة مع دولة الشاه وهى عقيدته القومية الفارسية المعادية للعرب فضلا على كونه عميلا مفضوحا للغرب.
لكن الكارثة الكبرى تكمن فى أن القوميين بعد وفاة عبد الناصر وتولى السادات الحكم، لم يحتفظوا بهذا العداء لإيران فى عهد الخمينى بل آزروه وناصروه فى مواجهة عداء السادات له !
ويعود ذلك إلى سبب رئيسي يتمثل فى أن السادات بعد حرب أكتوبر انقلب على خط عبد الناصر وتوجه سياسيا ناحية الغرب ممثلا فى الولايات المتحدة وأنهى دور مصر القومى وسمح للصحف ووسائل الإعلام فى تناول خطايا العهد الناصري بشئ من المبالغة والتجنى لاسيما وأنه لم ينس موقف الناصريين منه الذين حاولوا الإنقلاب عليه فى أحداث 15 مايو 1971 م.
وهنا تفجر العداء كاسحا بين القوميين وبين السادات ووصل لدرجة لجوء كل طرف لتناسي العداوات المشتركة لهما مهما بلغ عمقها ومنها العداء لإيران وعقيدتها القومية.
لا سيما وأنه ــ للمفارقة الكبري ــ كانت دولة إيران فى عهد الخمينى أشد عداء للقومية العربية والفكر القومى من دولة الشاه بأضعاف مضاعفة.
يعود السبب فى ذلك إلى أن الفكر القومى يقوم بالأساس ــ كما قلنا ــ على عقيدة العروبة، كما يقوم على معاداة الرجعية بكافة أشكالها، وتتمثل الشرعية فى الفكر القومى بالدول الملكية والدول الدينية (الثيوقراطية ) ومن المعلوم عن فكر القوميين أن عداءهم للدول الدينية أعتى بمراحل من عدائهم للدول الملكية.
وقد جاء الخمينى متفوقا فى نزعته الفارسية على كافة الدول الإيرانية التى سبقته فقد أعلنها دولة دينية محضة يحكمها الفقهاء بنظرية ولاية الفقيه وهو ما يتناقض بشدة مع فكر التقدمية لدى القوميين، فضلا على أنه لم يكتف كسابقه بحكم إيران وحدها بل أعلن صراحة عن سياسة ( تصدير الثورة ) بغرض إسقاط كافة الدول العربية والعرب فى حبائل حكمه وكانت أول حروبه هى حربه مع العراق التى ساندته أيام الشاه !
وقد سماها حربا مقدسة ولم يلتفت فيها إلى العدد المهول من ضحايا الحرب من الإيرانيين وإلى تردى أوضاع إيران إقتصاديا واستمر فى الحرب ثمانى سنوات كاملة قبل أن يتجرع الهزيمة ويقبل وقف إطلاق النار على مضض!
بالشرح المبسط السابق يكون من الطبيعى أن يتصاعد عداء مفكرى القومية للخمينى ودولته، لكن المدهش أن هذا لم يحدث بل حدث العكس، وأصبح القوميون برياسة أستاذنا الكبير محمد حسنين هيكل رحمه الله هم خط الدفاع السياسي عن دولة الخمينى على طول الخط واستغل الخمينى ــ بشخصيته الخبيثة ــ موقفهم من السادات ليستميلهم إلى جواره لا سيما وأن الخمينى كان معاديا للسادات جدا، بعد أن وقف السادات إلى جوار الشاه أثناء الثورة عليه واستقبله فى مصر بعد هروبه من إيران.
وقد لعب الخمينى ببراعة على وتر العداوة المشتركة للسادات بينه وبين القوميين، فضلا على نجاحه فى إقناعهم أو ترضية ضمائرهم فى تأييده بالمتاجرة بمسألة قيامه بالثورة على نظام حكم ملكى رجعى، وابتلع القوميون هذا المبرر الساذج ليقعوا فى حبائله بعد أن تنكروا لكافة مبادئ القومية العربية التى تعتبر دولة الخمينى الدينية الطائفية أشد عداء من دول الرأسمالية، وغضوا الطرف عن العقيدة الفارسية للخمينى وحقده على العرب حقدا بالغ العنصرية.
واستمر دفاعهم عن إيران من عام 1979 حتى عام 2011 م، ليتراجع القوميون قليلا مع الحرج العنيف الذى شعروا به بسبب انكشاف وجه إيران القبيح إنكشافا فضائحيا بعد تسببوا فى تدمير عدة دول عربية وأعلنوا صراحة عبر تصريحاتهم عقيدتهم المجوسية فى إعلاء التاريخ الفارسي الذى يتمنون أن يقوم من جديد على أنقاض العرب.
وقد وقعوا فى رحلة دفاعهم عن إيران فى تناقضات مخجلة، سنستعرضها بإذن الله فى الحلقة المقبلة.