أبوبصير الطرطوسي.. مفتى الدم والتكفير
ليس هناك أخطر ولا أقسى على أي أمة من أولئك الذين أضلهم الله على علم، فالجاهل يُعلم وصاحب الهوى ليس لأحد عليه سبيل، فهو يتحرك في كل مكان، ينشر سمومه، ولا يردعه رادع، حجته جاهزة دائما، لا يقدر على مجادلته إلا الأكابر، يفتي بالقتل فيُجاب، يأمر بالذبح فيطاع، وما أكثر هؤلاء الذين ضاعت بسبب فتاواهم وأهوائهم بلاد وبلاد، تحت مسمى محاربة الكفر والتصدي للطواغيت، وهي الحجة المشتركة لكل الجماعات المسلحة التي تتحدث باسم الإسلام، يكفرون الحكام ثم يكفرون الشعوب ويستحلون دماءهم وأموالهم.
من بين هؤلاء مفتي "الثورة السورية" عبدالمنعم مصطفى حليمة الملقب، (بأبي بصير الطرطوسي) الذي رضع التكفير من منبعه الأصلي، جماعة الإخوان في سن مبكرة قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره، على يد الإخواني عدنان عقلة زعيم الطليعة المقاتلة في سوريا، وأحد الإخوان الذين شاركوا في مذبحة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979، وكان الطرطوسي مقربا من عدنان عقلة بشكل كبير، واعتقل في هذه الأثناء عندما ضبط متلبسا أثناء كتابة عبارات تحرض على الطائفية والجهاد.
وقد ذكر لأحد المقربين منه أنه نشأ على الجهاد- بمفهوم الجماعة- وقال: " منذ وعيت الحياة، وأنا أعي حقيقتين: الأولى أن الإسلام هو دين الله، وهو حق مطلق، لا يجاريه ولا يوازيه دين. والثانية أن هذا الحق المُطلق لا تَقوم له قائمة، ولا يسود له سلطان، إلا بقوة تحميه، وجهاد في سبيل الله".
لم يكن عدنان عقلة المعلم الوحيد للطرطوسي لكنه التقى عبدالله عزام رائد الجهاد الأفغاني في بيشاور عام 1981، عندما انضم إلى المجاهدين العرب في أفغانستان، كما تعرف على عدد كبير من أمراء الجهاد هناك ثم عاد من أفغانستان إلى الأردن والتقى هناك القيادي بتنظيم القاعدة أبي مصعب الزرقاوي عام 1987، وبعدها أصدر كتابه "قواعد في التكفير" الذي تسبب في ترحيله من الأردن إلى اليمن التي سجن بها لمدة 3 أعوام، ثم تركها واستقر به المقام في بريطانيا بعد رحلة إلى ماليزيا وتايلند، وذكر لأحد المقربين أنه وجد في بلاد "الكفر"-يقصد أوروبا- من حرية الدعوة إلى الله ما لم يجده في بلاد المسلمين التي يحكمها "الكافرون" حسب تعبيره.
ظل أبوبصير في أوروبا إلى أن وقعت الثورة السورية وبدأ يصدر فتاواه، التي كانت مرجعا للجماعات المسلحة دون أن يلتقوه، فكانت كلماته بالنسبة لهم عرائس من الشمع، حينما تصل إليهم تنتفض وتبث فيها الروح فتصير واقعا يفجر ويدمر كل ما يقع تحت أيديهم.
الطاغوت والحاكمية
كعادة كل التكفيريين ينطلق الطرطوسي من قاعدة "الحاكمية"، التي ترى أن جميع الحكام المسلمين طواغيت، وأن الشعوب الإسلامية التي ترضى بحكمهم قد خرجوا من الإسلام، كل حسب درجة رضاه بنظام الحكم، ولا يكتفي بوصف الحكام وحدهم بالطواغيت، إنما يوسع الدائرة لتشمل فئات كثيرة من الشعوب الإسلامية، ولا ينسى الهجوم على العلماء الذين يواجهونه ويبينون انحراف فكره، وهي الطريقة التي يتبعها كل الجماعات المتطرفة الذين ينفرون أتباعهم من السماع لغيرهم باعتبار أنهم احتكروا الصواب وغيرهم علماء ضلال.
يقول الطرطوسي:
"فمن يتأمل حال الأمة من هذه القضية المهمة- أي التحاكم إلى غير الله- يدرك أن هذا الدين قد عاد غريباً كما بدأ وأشد، حيث إن الحاكم والمشرع في أكثر الأمصار والديار هو "الطاغوت"، وإن الشريعة المتبعة هي شريعة "الطاغوت" والناس يتحاكمون إليها طواعية، ومن دون أن يجدوا في أنفسهم حرجاً من ذلك، فدخلوا في زمرة المشركين الذين يعبدون الطاغوت من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ولربما تجد منهم ـومع ذلك ـ من يصلي، ويزعم أنه من المسلمين"!!.
وبذلك فإن الطرطوسي يكفر المسلمين من أهل القبلة بتأويلات من عنده، فهو لا يرى إلا ما تعلمه في مدرسة سيد قطب، وعبدالله عزام، ويعتبر أن الحاكمية ركن من أركان الإيمان، من تركها فقد خرج من الملة وإن صلى وصام، كما ذكر في الفقرة السابقة، ورغم أن فكرة الحاكمية في فهم هذه الجماعات تظل مجرد مسائل نظرية، وأن توسعوا فيها، واستشهدوا عليها بالأحاديث النبوية التي يتأولونها ويصرفونها عن مواضعها ليأخذوا منها الشرعية لفكرهم المنحرف، إلا أنها تخالف المنهج الإسلامي الصحيح الذي لا يكفر أحدا من أهل القبلة أتى بمعصية، فإذا سألتهم" بنسبة كم من تطبيق الشريعة يصير العبد بها مؤمنا؟ أو كافرا؟" فلن تجد إجابة لديهم، وهو ما يخالف المنهج الإسلامي الصحيح الذي يرى أن الإيمان يزيد وينقص- يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية- ولا يخرج أحدا من أهل القبلة، من الملة بالمعاصي التي تجتمع بجوار الطاعات في العبد إلى أن يتوافاه الله، أما هؤلاء فما أسهل التكفير لديهم.
عدم العذر بالجهل
ويوسع الطرطوسي دائرة التكفير، لكم تحاكم إلى غير شرع الله - من وجهة نظره- في أقل جزئية من جزئيات حياته وينتقل من ذلك إلى منطقة أكثر خطورة وهي عدم العذر بالجهل.
يقول في كتاب "الطاغوت":
" التحاكم : كذلك مما يدخل في مسمى العبادة ومجالاتها "التحاكم" فإن كان العبد يتحاكم في جميع شئون حياته الخاصة والعامة إلى شرع الله تعالى فهو عبد لله عز وجل، وإن كان يتحاكم إلى شرع غيره - أنا كان هذا الغير - ولو في جزئية من جزئيات حياته فهو عبد لهذا الغير وداخل في عبادته من أوسع أبواب العبادة. وسر ذلك أن الحكم والتشريع وسن القوانين والقيم والموازين يعتبر من أخص خصوصيات الإلهية، فمن ادعاه لنفسه من دون - أو مع - الله عز وجل فقد ادعى الإلهية وزعمها لنفسه اختصاصا وعملا، وجعل من نفسه ندا لله عز وجل في أخص خصوصياته. وبالتالي من أقر له بهذا الحق وتحاكم إليه - من دون أو مع الله - فهو داخل في عبادته من دون الله أقر بذلك أم لم يقر، علم أم جهل".
تعدد الطواغيت
ينطلق الطرطوسي في تكفير المجتمعات بداية كما بينا من تكفير الحكام، ثم المسئولين ثم العلماء، ثم كل أفراد المجتمع، الذي يرضى بحكم الطواغيت، والعجيب أن الطرطوسي نفسه أقام في بلاد غير المسلمين التي يحكها غير المسلمين ورضي بقوانينهم وتحاكم إليها، ولم يخرج عليهم بسلاح أو هاجم شعوبهم باعتبارهم عباد الطواغيت، كما فعل في بلاد المسلمين.
يقول الطرطوسي عن تعدد الطواغيت:
"مسألة هل كل طاغوت كافر؟!، عندما يثار مثل هذا السؤال لا شك أنه لا يراد منه الحجر أو الشجر التي تعبد من دون الله، كمن يفعل ممن يريدون أن يميعوا قضية الكفر بالطاغوت، وإنما يراد به شياطين الإنس والجن التي تعبد من دون الله".
وأضاف بعد أن ذكر أنواع الطواغيت: "ومنها: الحاكم بغير ما أنزل الله: الحاكم بغير ما أنزل الله رأس في الطغيان والجور لمجاوزته حكم الله تعالى وإعراضه عنه واستبداله بحكم وشرائع الجاهلية الأخرى".
وينطلق من هذا التقسيم إلى تكفير المجتمعات فيقول:
" تجد الأجيال كيف تُنَشَّأ على الولاء للطاغوت، وطاعة الطاغوت، والخضوع للطاغوت وقانونه، والخشية من الطاغوت ومن عصيانه، والتغني والهتاف باسم الطاغوت، والموت في سبيل الطاغوت، تجد طاقات وثروات الأمة تُهدَر ـ بسخاء ـ في سبيل تعبيد الناس للطاغوت، تجد طواغيت ـ بكل وقاحة ووضوح ـ يُخاصمون الربَّ في خصوصياته وصفاته وحقوقه، ثم كثير من الناس يقرونهم ويُتابعونهم على ذلك".
ويعلل سبب ذلك كتابه "الطاغوت" فيقول:
فالذي يقول للمخلوق - أيا كانت صفته وهيئته ونوعه، كان شخصا أو نظاما أو مجلسا أو غير ذلك فلا فرق : أنت لك خاصية التشريع، والتحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح، فما تقول عنه حسن فهو الحسن وما تقول عنه قبيح فهو القبيح، ولك الأمر من قبل ومن بعد، ولك علينا حق الطاعة في ذلك، فقد زعم له الألوهية التي زعمها فرعون لنفسه، وتحققت له عبوديته - وإن صلى وصام وقال إنني من المسلمين - وجعل منه ندا لله في أخص خصوصياته سبحانه وتعالى.
ونقل في كتابه "الطاغوت" أيضا عن كتاب "طريق الدعوة في ظلال القرآن لأحمد فائز الحمصي" أيضا:
"التحليل والتحريم - أي الحظر والإباحة - هو الشريعة، هو الدين، فإذا كان الذي يحلل هو الله، فالناس إذن في دين الله. وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحد غير الله، فالناس إذن يدينون لهذا الأحد، وهم إذن في دينه لا في دين الله، والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها، وهي مسألة الدين ومفهومه، وهي مسألة الإيمان وحدوده، فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر ؟ أين هم من هذا الدين ؟ وأين هم من الإسلام وإن كانوا لا يزالون يصرون على ادعائهم للإسلام".
ويتخلص فكر الطرطوسي في تكفير المجتمعات على القواعد التي يعتمد عليها كل الجماعات التكفيرية، يبدأون بتكفير الحكومات الإسلامية، ثم يكفرون كل المسئولين والموظفين والجيوش التابعة لهم، وينتقلون إلى تكفير الرعية.
وقد شارك الطرطوسي بفتاواه التي اتخذها الكثير من عناصر الجماعات المسلحة مرجعا ودستورا لهم في تخريب دولة سوريا وغيرها.