يوم الطبيب المصري.. طبيبات احترفن الكتابة الإبداعية
تحتفل مصر اليوم ١٨ مارس، بيوم الطبيب المصري، وهو يوم يحتفل به سنويًا اعترافًا بفضل الأطباء المصريين وتكريمًا لمجهوداتهم م في كافة التخصصات، وبمناسبة ذلك الاحتفاء ننقل شهادات طبيبات احترفن الكتابة الإبداعية، وجاءوا ليكونوا امتداد لجيل من عمالقة ونجوم الأدب فقد سبقهن يوسف إدريس ، ونوال السعداوي ، والمنسي قنديل ، ومحمد المخزنجي هم أنفسهم اصحاب المعاطف البيضاء والقلوب الرحيمة ، والأقلام الرشيقة ، في التقرير التالي ننقل شهادات طبيبات احترفن الكتابة الإبداعية.
عزة رشاد .. أنا سجينة البالطو الأبيض
تفول الطبيبة والكاتبة الروائية عزة رشاد في شهادته للدستور "أن تجدين نفسك سجينة البالطو الأبيض، بينما روحك تهيم بين الكلمات والمعاني. هذا قدر من ينقسم بين مجالين لا يقبل أي منهما أن يكون له شريك فكل منهما يحتاج الوقت والجهد كاملًا. إنهما متنافسين لكن بنفس الوقت يترك كل منهما بصمته على الآخر.
وتتابع رشاد " لقد درست الطب ومازلت أمتهنه حتى اليوم. لست ممن حققوا ثروات من هذه المهنة، لكن المؤكد أنني استفدت من دراسة الطب لأنها توسع المدارك وتمنح من يريد أن يفهم لأن طريقة الامتحانات تمثل مشكلة، لأنها تحول الطلبة إلى حافظين أكثر منهم فاهمين تمنحه عمقًا وبعدًا فلسفيًا، حيث تتجلى فيها العلاقة الجدلية بين مكونات الجسم البشري بعضها البعض، ترابطها وتجاذبها وتنافرها، والشروط التي تحكم ذلك، ونفس الشيء ينطبق على مكونات الكون الواسع وعلاقاتها.
وتشير رشاد إلى ان " تظهر دراسة الطب وممارسته التأثير المتوالي وما اصطلح على تسميته "أثر الفراشة" وغيرها من القوانين العلمية وشبه العلمية التي هي شبه فلسفية أيضًا. كل هذا يطور طريقة التفكير، ويمنح المبدع زخما وآفاقا غير متوقعة للكتابة. كما ان التواصل اليومي مع الناس في أكثر حالاتهم ضعفًا واضطرابًا.. حالات المرض، يكون خلاقًا لشذرات إبداعية "عبارات، مواقف، مفارقات" يسرع السرد باتخاذها مثيرًا لعمل إبداعي. لكن وبنفس الوقت فالمبدعة بداخلي أفادت الطبيبة كثيرا، بمزيد من التقدير لحياة البشر، وتفهم ظروفهم واختلافاتهم النفسية والاجتماعية، وابتكار الرسائل المناسبة لاستنهاض عزيمتهم وتشبثهم بالحياة وعدم الاستسلام للمرض.
غادة العبسي .. تسرد تفاصيل المرة الأولي للخروج من متاهة المرض
من جانبها تشير تسرد الروائية والطبيبة غادة العبسي شهادتها للدستور قائلة "أتذكر الان تفاصيل المرة الأولى جيدا، المرة الأولى التي امتدت فيها يدي إلى جسد مريض لتقديم المساعدة، في استقبال الباطنة بمستشفى الدمرداش، حول منتصف الليل، تحيط بنا أجساد المرضى من كل جانب، لا يوجد موطيء لقدم، لا يوجد ما يكفي من أسرّة، مرضى واقفون وآخرون افترشوا الأرض يصرخون، أمشي بينهم مطأطئة الرأس، خجلى من عجزي، لأجدني بمفردي تماما أمام امرأة في الستين من عمرها، بصحبة زوجها، تتلوى من احتباس بولي، وقفتُ بين ساقيها أرتعش، طلبت منها أن تحدثني عن نفسها، عن أسرتها، حتى أنتهي من تركيب قسطرة البول، حكت عن ابنها الشاب الجامعي المثالي الذي مات دون مقدمات، جرت دموعها وبولها يتدفق عبر القسطرة، تعلو وجهها الباكي ابتسامة مرتاحة راضية شاكرة، بدوري أشعر براحة عظيمة خاصة عندما لامس يدي دفء ما احتبس في المريضة، كأنها تُشفى، كأنها تتطهر من حزن كائن يسري فيها، مازلت أذكر كيف اصطحبتها إلى خارج المتاهة وكيف التقطها من يدي زوجها المسن بشوق ولهفة..
وتشير العبسي "على مدار سنوات دراستي العملية ثم عملي بعد التخرج والحصول على الماجستير كنت مغرمة بالوجوه، أستقبل المرضى بالابتسام، أصارع القلق والخوف قبل المرض، لما يزيد عن عشر سنوات، عملت بتخصص الباثولوجيا الإكلينيكية، أثقب صدور مرضاي وظهورهم، أوخزها لكي أحصل على عينة من نخاعهم العظمي، كلهم يرتعش بمجرد رؤية المعطف الأبيض، أمسك بأيديهم فيتشبثون بها، أربت على أكتافهم في حنو، أستمع إلى دعواتهم وتوسلاتهم كي لا أوجعهم، أحاول عبثا تهدئتهم من شيء لم أجربه من قبل، يتعجبون إذ لم يزرهم الألم هذه المرة، يبكون فرحا، تظل دعواتهم تشيعني حتى أغيب عن أبصارهم، تنفلت دموعي في كل مرة امتنانا لله عز وجل الذي سخرني لخلقه ..
وتلفت "علاقتي الأساسية بالمرضى تتحقق من خلال قطرات دمهم وكيميائه، أمام عدسة المجهر أتحول إلى بومة تبحث عن كنه المرض في الظلمة، أطارد الخلايا الخبيثة وأتأمل توحشها ورغبتها في الانفلات من النظام الصارم الذي يحكم الكون كله وليس الجسد فحسب، على مدار سنوات أحاول أن أفهم لماذا نمرض، وكيف يمرض الإنسان إذا عجز عن التكيف، وإذا تعطلت أجهزة الإنذار في جسده، ألهمتني العديد من القصص ودفعتني إلى الإيمان بأن لدى الإنسان طاقة لن تظهر سوى بتعريضه إلى أقصى درجات الألم، شيء ما يولد بالداخل لا نفهمه ولكنه يتصدى لأى محاولة هدم لهذا الإنسان ولروحه.
وتؤكد "عندما قررتُ أن أمارس الكتابة إلى جانب ممارسة الطب، أصبح كل منهما أوضح من ذي قبل، كأني في رحلة أبدية شيقة بين إدراك النفس واكتشاف الجسد..لا أشعر بغربة بين معشر الأطباء ولا الأدباء، ولا أصحاب الفنون كافة، في حضرة العلم والفن يفيض قلبي ويضيء عقلي، أكتشف أن سعادتي الكبرى لا تتحقق إلا بهما..
وتختم العبسي "في يوم الطبيب أقول كم كنت محظوظة بأساتذتي وزملائي، لكم تعلمت منهم، وفي كل مرة أقف أمام الكثيرين منهم في ذهول من قدرتهم على التصدى للمرض بثبات وذكاء، لا تثنيهم الظروف السيئة ولا تعطلهم عن أداء واجبهم، في يوم الطبيب لا يسعني سوى الدعاء بالرحمة لكل طبيب شهيد لقى ربه من جراء محاربته للمرض والوباء، والشكر والعرفان لأطباء مصر الذين صمدوا في محنة الكوڤيد، وإليهم أهديت روايتي الأخيرة كوتسيكا عرفانا بدورهم غير المسبوق.
شادن شاهين .. الأدب والطب وجهان لعملة واحدة
تقول الكاتبة القاصة شادن شاهين للدستور "إذا كان مبضع الجراح يعالج الجسد.. فقلم الأديب هو مشرط الروح، يمسسها مسا خفيفا، يحدد موضع الداء .. ثم يقطع .. فيحرر الضغط، تتخفف الروح من أثقالها القديمة، وتنسل رقيقة لتسبح في السماء.
بين زحام المرضى في المشفى ثمة عينين تستنجدان .. ثقةً ورجاءً، أماً تحتضن طفلها وتود لو أنها تحمل عنه آلامه، إبرة تمر عبر جلد طفل فينصهر قلب أبيه ألما، والكثير من النهايات..
نهاية المرض وعناق العودة الهادئ، أو نهاية الحياة وعناق الجثة المتشنج، محنة الولادة التي تنفرج بصرخة حياة، الأمراض النفسية على تنوعها، الضحكة التي تخفي وراءها مأساة، الخوف في عينين زائغتين، الهروب غير الشرعي من الواقع المر في قارب الإدمان .. ثم الغرق على ساحل الانسحاب القهري، الاحتضار وحيدا صامتا، الحياة ميتا على أجهزة التنفس الصناعي، أو الموت حيا حين تمسك بيد لا نبض فيها ولا حياة لك بدونها، البعث غير المبرَر لمحكوم عليه بالموت، كلها مشاهد مهيبة يعايشها الطبيب في كل يوم، وأي قلب ذاك الذي يمكنه أن يصمد أمام كل ذلك الضعف والألم والمشاعر الإنسانية المُزلزلة؟ فلا عجب أن يكون الطبيب أديبا، ولا عجب أن يتدفق نهر الكلمات بين يدي شاهدٍ يقظٍ على مسرح الحياة
وتؤكد شادن شاهين على ان "الطب والأدب وجهان لعملة واحدة، العملة الصعبة في ميدان الإنسانية. يسلمك المريض ذراعه لتحقنه بدفقة حياة، بينما لا يعرفك ولا يعرف ماهية الدواء، لكنها العلاقة المقدسة بين الطبيب والمريض منذ بدأ تاريخ التداوي. إنه قسم أبقراط.. مئات السنين قبل الميلاد ومازال القسم المقدس في قلوبنا. ولكن .. ربما لا يتسع العمر للمشرط والقلم معا، فيمضي العمر ولا يبوح قلم الطبيب الأديب بكل ما لديه من فكر وشعور، لكن عزاءه الوحيد أنه لم يخش ولم يضع سلاحه حين شهر الموت سيفه، عاش ومات جنديا مخلصا في ميدان الحياة.
وتختم شاهين "في يوم الطبيب المصري أنحني احتراما لكل طبيب وممرض وفني، وكل مساهم في المنظومة الصحية العالمية، آخذا على عاتقه آلام الإنسان، بانيا مجدا خالدا في قلوب الناجين من المرض والموت.