نهى يحيى حقى: أدعو كُتاب السيناريو للنظر فى أعمال والدى وتقديمها على الشاشة (حوار)
الأديب الكبير الراحل يحيى حقى «عرّاب» لزمن وأجيال متلاحقة من الأدباء والمثقفين والمفكرين.. هو رجل يمكن أن نصفه بالثروة القومية التى لا تفنى، وتظل إبداعاته، فى جميع فنون الكتابة والأدب، علامات ثابتة وأصيلة فى الوجدان الثقافى العربى. واحتفاء بهذا الرائد والمُعلم المستنير، اختارت وزارة الثقافة يحيى حقى شخصية لمعرض القاهرة الدولى للكتاب الذى يفتتح خلال أيام، لتتعرف الأجيال الجديدة على جوانب من تراث هذا الرجل وتتطلع على إبداعاته الفارقة فى الأدب والرواية والقصة والترجمة. وبهذه المناسبة، حاورت «الدستور» نهى يحيى حقى ابنة الأديب الراحل، حيث تحكى عن جوانب خفية فى شخصيته الحكيمة، وتروى الكثير من المآثر الإنسانية فى مسيرته.
■ ما انطباعك على تكريم أديبنا الراحل خلال المعرض؟
- سعادتى كبيرة بالاحتفاء به، وعبقرية يحيى حقى تتلخص فى قدرة كتاباته على التواصل مع الأجيال، وتكريمه يعنى أن قنديله ما زال يضىء فى أفق الثقافة المصرية، وما زالت كلماته قادرة على الوصول لمختلف الأجيال، ويرجع ذلك إلى استشرافه المستقبل فى كتاباته الخالية مما نصفه بالاغتراب والتغريب، والمشغولة بالبساطة والممتلئة بالمعرفة والانفتاح على الثقافات المختلفة.
■ هل ظلم يحيى حقى فى اختزاله كقاص وروائى؟
- هذا الأمر كان يؤرقة جدًا، وكأنه لم يكتب إلا روايتى «البوسطجى»، و«قنديل أم هاشم»، لأن هذين العملين قدما على شاشة السينما وحظيا بالانتشار بين كل فئات المجتمع المصرى، بمن فيهم الذين لا يقرأون وغير المهتمين بالأدب.
ولو استعدنا رواية «قنديل أم هاشم» الآن ستقرأ من وجهة نظر العصر الحالى، لا وقت ما كتبت فيه، وستحمل رؤية اليوم رغم التغييرات الطارئة على المجتمع المصرى، وهى ما زالت تعبر عن نسيج المجتمع المصرى تمامًا.
وسألت والدى ذات مرة: «ماذا لو حبيت أعمل رؤية جديدة عن (قنديل أم هاشم)، فقال لى: يمكن أن تكتبى عن الجيل الثانى لـ(عباس).. هؤلاء الذين هاجروا إلى أوروبا وعادوا منها، وتغيرت أفكارهم ورؤيتهم واستقبالهم لأفكار الناس هنا، واستقبال الناس لأفكارهم كذلك».
■ ما أهم القضايا التى كانت تؤرق الراحل وانشغل بها فى مشروعه الإبداعى والثقافى؟
- قضيته الأولى والأخيرة كانت الإنسان وإرادته.
■ كيف انحاز إلى ذلك؟
- يحيى حقى كان يشبه كتاباته دومًا، وما يشير إليه من مواقف ومبادئ وقناعات كان يعيشها فى حياته قبل كتابته، لأنها نابعة من تجارب شخصية وواقع عاشه، ومن نظرته للحياة.
■ ماذا عن فترة عمله فى الصحافة؟
- كان يرى فى الأهرام مؤسسة صحفية كبرى، لأن صفحاتها كانت مشغولة بمقالات كبار الكُتاب فى كل الاتجاهات السياسية والثقافية والاجتماعية، كان يرى أنه يجب أن يكون مكانه فى صحيفة ما، يكتب فيها كل ما يريده، وتألقت كتاباته فى مجلة «المجلة» التى كان يرأس تحريرها، وكانت تسمى بسجل الثقافة الرفيعة، وكانت بالفعل سجلًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لأنها كانت تتناول كل اتجاهات الجمال والفنون، كانت كتاباته قادرة على أن تصل إلى كل الأطياف المجتمعية.
و«المجلة» كانت مفتوحة لكل موهبة جديدة وحقيقية، وكانت تلك قناعاته النابعة من إيمانه بدور الكلمة.
■ ما رسائله إليكِ؟
- هى رسائل عادية، الغريب فيها أنه كان يرسلها إلىّ وعمرى لم يتجاوز الـ١٢ عامًا، ولن يشعر القارئ بذلك، لأن الحوار بيننا كان على نفس الدرجة من الحنو والبساطة والرقة، وأحيانًا كان يسرب عبر رسائله همومه الثقافية والاجتماعية.
فى إحدى رسائله أخبرنى أن هناك فتاة تعمل «بوسطجية» فى حى الزمالك، وكانت عباراته فى قمة البهجة والفرح وهى تحكى عن خوض تلك الفتاة تجربة العمل ساعية بريد.
ومن أراد أن يدرس يحيى حقى عليه أن يقرأ تلك الرسائل، وسيجد فيها الخطاب الإنسانى الذى يوجهه إلى ابنته، بدءًا من النصائح التى يسربها بغاية الرقة والسماحة، وصولًا إلى الحديث عن همومه الثقافية والاجتماعية.
■ متى كان يغضب؟
- أنا التى كنت أغضب، وكان ينصحنى بضبط النفس، كان متسامحًا إلى أقصى درجة، وقد روى لى واقعة حدثت معه تمثل تلك الصورة من التسامح، «كان راكب المترو إلى مصر الجديدة، وكان واقفًا مستندًا على أحد الأعمدة فى عربة المترو، مشغول الذهن، إلى أن لمس يد أحدهم، وكانت قد وصلت إلى جيبه الذى يحفظ فيه ساعته، ربت على يد الرجل، وقال له: إنها ساعة والدى، أرجوك اتركها لى، فأخرج الرجل يده ونزل فى أول محطة مبتسمًا».
كان يمكن أن يصرخ ويمسك بيد الرجل ولكن لم يحدث، فقد رأى أنه يكفى شعور الرجل بالخجل من نفسه، ورأيى أن هذا تصرف راقٍ جدًا.
ومن المواقف التى تشير إلى رقته وسماحته أيضًا أنه كانت لدينا قطة لا تنقطع عن المواء، فأخذتها وحبستها فى حمام البيت حتى لا تزعجه، وفى اليوم التالى ذهبت إلى الحمام فلم أجد القطة، وذهبت إلى غرفته فوجدت القطة نائمة إلى جواره، قال لى إنها «صعبت عليه، فأخذها لتنام جواره». هذه ومضات تظهر معنى التسامح الطيب تجاه البشر والحيوانات.
■ ماذا عن إبداعاته الأخرى بعيدًا عن الرواية والقصة؟
- هناك العديد من الإبداعات، مثل المقالات المليئة بالكنوز التى لا تنتهى، إلى جانب الترجمة، وهو جانب قد يكون غائبًا عن الكثيرين من جمهور وقراء يحيى حقى، وقد قدم الراحل فى حقل الترجمة أحد أبرز الكتب التى تتحدث عن تاريخ القاهرة للكاتب الصحفى الإنجليزى ديزموند ستيوارت، ونقله إلى العربية بمنتهى الأمانة الأدبية، وجاء الكتاب احتفالًا بمرور ألف عام على إنشاء القاهرة، وهو من أمتع وأجمل وأبدع الكتب عن العاصمة من الناحية التاريخية والاجتماعية والمعمارية.
لم يكتفِ يحيى حقى فى هذا الكتاب بالترجمة، بل أضاف إليه دراسة حول وعن القاهرة، وقد كتب مقدمة هذا الكتاب الدكتور جمال حمدان أحد أهم وأبرز المتخصصين فى المجال الجغرافى.
ويحيى حقى قدم أكثر من كتاب فى مجال الترجمة، كانت كلها بمثابة طواف ثقافى حول حضارات العالم، منها كتب «دكتور نوك»، و«العصفور الأزرق»، و«لاعب الشطرنج»، و«القاهرة».
لذلك أنا أخاطب كُتاب السيناريو فى السينما والتليفزيون لكى يبحثوا وينقبوا ويختاروا من أعمال يحيى حقى، ما يصلح لتقديمه على الشاشات.
■ ما أقرب كتبه إلى قلبك؟
- «صفحات من تاريخ مصر»، هو رصد لحقب مختلفة من تاريخ مصر، يناقش فيه الكثير من عادات المصريين بدءًا من الألعاب وصولًا إلى التقاليد فى الحارة الشعبية، حتى الصناعات المحلية وتاريخها، بأسلوب قصصى، وأتمنى أن تتم ترجمة هذا الكتاب من العربية إلى اللغات الأخرى.
ودار نهضة مصر قدمت الأعمال الكاملة ليحيى حقى، ومؤخرًا أصدرت الأعمال القصصية القصيرة فى مجلد، ولكن آمل أن تنظر إلى الأعمال الأخرى له، ومنها «عطر الأحباب، وخطوات فى النقد، وكناسة الدكان»، وهذا النداء ليس لكونى ابنته، لكن لأنه تراث عريق علينا أن نلتفت إليه، وهو قال ذات يوم: «ستعرفون يحيى حقى، لكن ليس الآن»، وقد صدقت نبوءته.
■ قيل إن «عبدالناصر» غضب منه؟
- الرئيس عبدالناصر أعطى يحيى حقى جائزة الدولة التقديرية، ولم يكن هناك أى خلاف معه.
■ ماذا عن علاقته بنجيب محفوظ؟
- يحيى حقى قال جملة واحدة توضح طبيعة تلك العلاقة ومتانتها وهى «يكفى لى عندما تكتب سيرتى الذاتية أن يقال إنه كان يعيش فى عصر نجيب محفوظ»، ولم يكن غريبًا أن نجيب محفوظ كان أول الحاضرين فى عزاء الوالد، بل كان هو من يأخذ العزاء مع العائلة.