في ذكرى إبراهيم أصلان.. كيف حول «مالك الحزين» اللقطات العادية لإبداع
قبل عشر سنوات غادر عالمنا مالك الحزين، صاحب عصافير النيل، حجرتان وصالة، وردة ليل، يوسف والرداء، حكايات فضل الله عثمان، بحيرة المساء، خلوة الغلبان، وردية ليل، وشيئ من هذا القبيل. إنه الكاتب القاص والروائي إبراهيم أصلان، الذي تحل اليوم الذكرى العاشرة لرحيله عن الحياة.
وعلى قلة أعماله الإبداعية التي أنجزها في حياته، إلا أن أثر إبراهيم أصلان لا يمحى من ذاكرة الأدب العربي عامة والمصري خاصة. فكتاباته تلك التي عبرت عن شريحة كبيرة من المجتمع المصري المهمشة والمنسية في ركن قصي منه، عاشت وما زالت كما خلدها "مالك الحزين"، خاصة أهالي حي الكيت كات الذي عاش "أصلان" بينهم، فخلد شخصياتهم الأسطورية في تاريخ الأدب بعبقرية تجسيده لهم.
فمن منا يمكنه أن ينسى "الشيخ حسني" بطل فيلم "الكيت كات"، والمأخوذ عن رواية "مالك الحزين" إبراهيم أصلان، رغم أن بطل الرواية كان ولده "يوسف". أو ينسى "نرجس" بطلة "عصافير النيل" وزوجها "البهي أفندي". وعشرات من الشخصيات التي أسطرها أصلان وحفر لها حتى صارت شخصيات حقيقية من لحم ودم تعيش بيننا.
ــ "التلغرافجي" صاحب عصافير النيل
في كتابه "كعب عمل.. الأدباء وأكل العيش" يذكر مؤلفه الكاتب حسن عبدالموجود، أن إبراهيم أصلان عمل موزع برقيات لفترة وجيزة، ثم انتقل إلى هذا المبنى ليلتحق بقسم الإداريات، أو التلغراف الدولي في الستينيات. وفي تلك الفترة نشرت مجلة المجلة التي كان يرأس تحريرها يحيى حقي، في عددها 116، الصادر في أغسطس 1966، تعريفًا به جاء فيه أنه يعمل بإدارة المواصلات اللاسلكية التي كان بعض موظفيها ـ ومنهم إبراهيم أصلان ـ يطلقون عليها اختصارًا اسم إدارة المواصلات.
ويضيف "عبدالموجود": توازى صعود نجم أصلان مع عمله في الهيئة. ولمعت موهبته لمعان الذهب، حتى أن مجلة جاليري خصصت ملفًا كاملًا له وعنه في عدد فبراير 1971، ومن يعرف المجلة فهو يعرف بلا شك أن ذلك الملف يعد أمرًا استثنائيًا وحدثًا فارقًا، فالمجلة منبر لجميع الاتجاهات الطليعية في الفن والكتابة، والمشاركون المعتادون فيها أو المشرفون عليها هم من أمثال إبراهيم فتحي وغالب هلسا وإدوار الخراط وإبراهيم منصور. خصصت جاليري 68 ـ المستقلة عن جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها والتي بدأت بذرتها من مقهى ريش ـ ملفًا كاملًا عن إبراهيم أصلان بدون أن يكون له سند يدعمه، فلا شهرة، ولا جائزة، ولا انتماء إلى مؤسسة ثقافية، أو صحفية، ولا يعني هذا أن المجلة كانت تحابي أصحاب الجوائز، أو موظفي الثقافة، أو الصحفيين، بل يعني أن كتابة أصلان وحدها كانت كافية لأن تضعه المجلة في صدارة المشهد الثقافي المصري الطليعي في ذلك الوقت.
- الدبابة فعلًا كائن جميل
وفي كتابه الأخير المعنون بـ"انطباعات صغيرة حول حادث كبير"، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب يسجل إبراهيم أصلان لمحات خاصة أشبه باليوميات التسجيلية لمعايشته خلال أحداث ثورة يناير 2011 به لا تلتقطها سوي عين مبدع فاحصة مدققة بتأنٍ وحرص على التقاط ما أغفلته عيوننا، مستعينًا وشاحذًا كل حواسه السمعية والبصرية وحتى حاسة الشم.
في انطباعاته الحميمية لم يكن أصلان كاتبًا عاديًا، بل جاءت كتابته شديدة الخصوصية، تشبه ملامح وجهه التي ظلت تحتفظ بألق فرحها الطفولي وهي تري حلمها يتحقق أخيرًا في ثورة يناير٬ وكان أصلان شاهدًا علي بهجة دموع الفرح في عيون أصدقائه الكتاب وهم يشهدون سقوط الديكتاتور.
أثرت الفترة التي قضاها أصلان في العمل موزعًا للتلغرافات يتنقّل بالبدلة الكاكي والقبعة، بين الأزقّة والحارات٬ بين الميادين والشوارع التي عاش فيها وكتبها، يدقّ على الأبواب وتحتضن ذاكرته ملامح كل من ناوله رسالة من مكان وأشخاص ما٬ تركت تلك التجربة في أصلان شغف وحنكة تمعن التفاصيل الإنسانية الخاصة بالبسطاء تقتنصها وتعيد ترتيبها بأناقة السرد العميق في بساطته فتخلدها في تاريخ الفن.
لن يستطيع متلقي انطباعات صغيرة أن يسقط من ذاكرته تلك السيدة الشغوفة كعادة المصريات "بتنفيض" سجادها في شرفة المنزل ولا وسواسها القهري بالنظافة التي تسبب إزعاجا للآخرين بسبب مواعيدها الباكرة، لكنك ستقع في حب تلك السيدة التي تلتمس إحساسها بالأمان بوجود دبابة خارج منزلها تبادلها الحب والونس٬ ترى أن عليها أن تقوم بنصيبها من علاقة الود بأن :"تمرر اللوفة لتزيل بها الغبار عن جسد الدبابة من خلف ومن أمام".
قلم إبراهيم أصلان وخصوصيته هي وحدها القادرة على التقاط صورة ذاك العجوز، والوقوف أمامه طويلا والانشغال بالتفكير فيه أثناء انقطاعه عن مهمته اليومية المعتادة، عندما: "يأتي في الصباح الباكر قبل الثورة ويركع جوار هذا السبت وفي يده سكين صغير حادة وينتقي بعض هذه الثمرات سواء كانت حبة بطاطس أو كوسة.. قال إنه يعمل فيها هذا السكين الصغير مثل الجراح ويستأصل ما بها من عطب يتركه بالقفص ويأخذ ما تبقى منها مهما كان ضئيلًا". ذاك المشهد الذي ربما نمر به في كثير من شوارعنا لكننا لا نتوقف عنده أو يلفت انتباهنا، إلا أن إبراهيم أصلان خلده في قصة مبهرة.