الانتحار ليس له سبب واحد والمنتحر «هش» نفسيًا
بمناسبة انشغال مواقع التواصل الاجتماعى مؤخرًا بحالات الانتحار، أود أن أُلقى الضوء على عدة جوانب مهمة بعيدًا عن حالات التضخيم الشديد أو الحساسية المفرطة فى الحديث عن الظاهرة لأسباب مختلفة:
أولًا: الانتحار هو محاولة من جانب شخص ما لإيذاء نفسه بغرض التخلص من حياته «بالموت»، وقد يموت الشخص بفعل محاولة الانتحار أو لا يموت، ومع ذلك فالانتحار ظاهرة اجتماعية ونفسية شديدة التعقيد، وهى تعبير عن أزمة حادة تصيب بعض الأشخاص فى حياتهم، ويفسرها بعض نظريات علم الاجتماع بأنها تعبير عن فقدان المعايير، بمعنى فقدان الشخص للإيمان بأى مبدأ أو معتقد أو قيمة أو مُثل عليا يعيش من أجلها، كل المبادئ والمعتقدات والقيم والمثل تسقط فى نظره وتفقد قيمتها وفاعليتها، وهذا لا يحدث بين يوم وليلة بل نتاج تراكمات كثيرة ومحاولات كثيرة فاشلة للتمسك بأى قيمة، وبالتالى يصل الشخص إلى حالة أطلق عليها أحد علماء الاجتماع إميل دوركايم «أنومى- anomie» أى فقدان المعايير.
والمعنى الأقرب لهذه الحالة فى لغتنا وثقافتنا العربية تعبر عنه بكلمة «القنوط» وتعنى الوصول لأشد حالات اليأس، وهى الحالة التى يجد فيها الشخص أن حياته أصبحت مستحيلة، وعبئًا عليه، وعليه التخلص منها بيده، عن طريق إيذاء نفسه بأى وسيلة من الوسائل الشائعة، والتى تختلف من مجتمع لآخر، ومن فئة اجتماعية لأخرى. وهذا عكس المنتحر لأسباب دينية.
ثانيًا: الأرقام تشير إلى أن أكثر من ٨٠٠ ألف شخص حول العالم يموتون سنويًا بمحض إرادتهم بموجب محاولات الانتحار، وهو ما يشكل ضعف عدد حالات القتل سنويًا، ومن ثم تحدث هذه الظاهرة فى كل المجتمعات الإنسانية وفى كل زمان ومكان، بغض النظر عن مستوى التقدم، فالانتحار قائم فى المجتمعات المتقدمة والأقل تقدمًا على السواء، وتشير البيانات إلى أن الدول متوسطة الدخل أكثر عُرضة لحدوث حالات انتحار.
ويشهد المجتمع المصرى عبر تاريخه حالات من الانتحار دون توافر المعلومات عنها سواء من الجهات الرسمية، أو بموجب ميل الناس إلى عدم الاعتراف بالظاهرة لأسباب تتعلق بالوصمة الاجتماعية للمنتحرين وأسرهم، والتى تتلخص فى أمرين، أولهما: ارتباط الانتحار بالصورة الذهنية السلبية للمرض النفسي والعقلي، والثانى ارتباطه بالكفر.
ولهذا يتحاشى الناس أقرباء المنتحر العار الذى يمكن أن يلحق بهم بموجب وصف المنتحر بالجنون وخطايا الخارجين على الدين، ومن ثم تحدث محاولات الانتحار دون الإفصاح عنها ومحاولة التعتيم عليها، وإذا انتهت بالموت يميل الناس عمومًا إلى الصمت بشأنها عملًا بالقول الشائع: «اذكروا محاسن موتاكم».
ثالثًا: يصعب اختزال تفسير الانتحار فى سبب واحد ولا لموقف واحد حدث قبل الانتحار مباشرة، بل تتعدد الأسباب وتتراكم مشاعر اليأس لدى المنتحر رويدًا رويدًا حتى تصل إلى منتهاها بمحاولة التخلص من الحياة، وتختلف أسباب الانتحار باختلاف المجتمعات والثقافات، وبعض البحوث يشير إلى أن هناك علاقة بين الانتحار والنوع والعمر، ومستوى علاقة الفرد بالجماعة، حيث تكثر حالات الانتحار بين الإناث «فى الدول الفقيرة» وتقل بين الذكور، على عكس الحال فى الدول المتقدمة، وتكثر لدى الفئات الأصغر سنًا فى سن المراهقة والشباب وكذلك الأكبر سنًا ممن يعيشون بمفردهم وفى حياة صعبة بعيدًا عن أى دعم اجتماعى ونفسى، كما تكثر حالات الانتحار فى ظل الفردية «أى انفصال الشخص عن الجماعة»، مقابل انخفاضها النسبى فى المجتمعات التقليدية المرتبطة بالثقافة الجماعية وارتباط الفرد الوثيق بالجماعة.
رابعًا: من المهم أن نفهم أن الفئات الأكثر هشاشة وعُرضة للسلوك الانتحارى هم المرضى النفسيون والمصابون باضطرابات عقلية، والذين لا يلقون رعاية أو دعمًا نفسيًا واجتماعيًا ممن حولهم، وكذلك الذين يقعون فى دوائر الإدمان، والبيئة الاجتماعية المرتبطة بالعنف الأسرى والجنسى، ومن يتعرضون بكثرة لمشاعر الإهانة وجرح الكرامة، وفيما بين المعرضين للبلطجة «أى التنمر والتحرش بمختلف صوره» وفيما بين الأقليات الذين يتعرضون للعنصرية والكراهية والإهانة، وأولئك الذين يتفاقم لديهم الشعور الحاد بالظلم والاضطهاد، وأنهم ضحايا- بغض النظر عن مدى صحة هذا الشعور من الناحية الواقعية، وكذلك بين المصابين بأمراض مزمنة ميئوس من شفائها، إضافة إلى حالات الصدمات الكبرى فى الحياة، والتى تتمثل فى فقدان الوظيفة أو الخسائر المالية الضخمة أو الخيانة والانفصال والطلاق وفقد الأحباب. كل هذه الفئات قنابل موقوتة بمحاولات الانتحار.
وكل ذلك يعنى ببساطة ضرورة أن نعى جيدًا هذه الظاهرة، وأن تتاح المعلومات الرسمية بشأنها، وأن تتجه الأبحاث الاجتماعية والنفسية لفهم أبعادها، وفوق كل ذلك أن تتوافر وسائل وتدخلات اجتماعية ونفسية استباقية للحد من محاولات الانتحار ووسائل علاجية لمن سبق لهم المحاولة، وأن نتسامح اجتماعيًا مع المنتحرين وكل من يحاول الانتحار، وأن نمنحهم القبول والمساندة والاحتواء النفسى والاجتماعى، وأن نكف عن الوصمة الاجتماعية والدينية للمنتحرين لكى يسهل علينا احتواء المعرضين للانتحار، والذين يحاولون الانتحار دون أن نسىء إليهم بالمرض النفسى أو الكفر، وأن يكف رجال الدين عن وصف الشخص المنتحر بأنه كافر، ومكانه فى النار يوم القيامة، ظنًا منهم أن هذا الوصم يقلل الانتحار، بل إنه يزيد الطين بلة للأسف.
ذلك أن المنتحرين فئات ضعيفة يتسمون بالهشاشة النفسية ويحتاجون إلى الرحمة والرفق بهم والصبر عليهم، كما لا يصح أن نتصور بأن العلاج يكمُن بالصلاة والإفراط فى الوعظ والإرشاد الدينى، لأن هذه الوسيلة غير ناجحة لشخص وصل إلى حالة يأس من أى معتقد أو مثل عليا.
وينبغى على كل من لديه سلطة على آخرين ضرورة الوعى بالعلاقة الوثيقة بين العنف الشديد والشعور باليأس ومن ثم احتمالات التفكير فى الانتحار، وضرورة الرفق بهذه الفئات المعرضة للانتحار بعدم الإفراط فى الضغوط النفسية والاجتماعية عليهم، والعقوبات التى تنال من كرامتهم الإنسانية والتى تنتهى دائمًا إما إلى الثأر بالعنف المضاد أو اللجوء إلى الانتحار.