العنف ضد المرأة فى السينما المصرية
على مدار تاريخها، كانت السينما المصرية رائدة فى مزج الفن السينمائى بالواقع المجتمعى، عبر تسليط الضوء على الأزمات الإنسانية والاجتماعية التى عاشها المصريون بشرائحهم وفئاتهم فى مختلف الأوقات والحقب التاريخية، فيما حظيت المرأة بمساحة واسعة عبر طرح قضاياها الرئيسية ومشكلاتها.
وأبرز ما يميز تناول السينما المصرية قضايا المرأة هو بحث جذور المشكلات التى عانتها النساء المصريات، ومناقشة جوهر الأزمات، ليصبح العديد من الأفلام التى تم إنتاجها بمثابة صرخة مجتمعية للمطالبة بحقوق المرأة وتمكينها اجتماعيًا ومهنيًا، إلى جانب الحد من ظاهرة العنف ضدها.
وفيما اعتبر بعض النقاد أن السينما فى فترة من الفترات لم تكن تُحسن تقديم دور المرأة فى المجتمع أو ترسخ لظواهر سلبية تؤدى إلى ممارسة العنف ضد النساء، اعتبر البعض الآخر أنه بفضل الأفلام التى ناقشت القضايا النسوية حصلت المرأة على مكتسبات عدة عبر سن بعض القوانين التى تحمى مصالحها وتجرم الاعتداء عليها بأى صورة أو شكل من الأشكال، وإصدار الدولة العديد من القرارات لتصحيح بعض المسارات الخاطئة فى آلية التعامل مع المرأة ودورها فى المجتمع.
«الدستور» تستعرض خريطة «العنف ضد المرأة» فى السينما المصرية، مبينة كيف تناولت الأفلام المصرية تلك الظاهرة، وهل تتسبب بعض الأعمال السينمائية فى تقديم صورة سلبية عن النساء أو ترسيخ العنف ضدهن، وغيرها من التفاصيل.
«الزواج» عن الارتباط القسرى.. «الثلاثية» تجبر باسم الطاعة.. و«المراهقات» ضد التسلط الذكورى
فى ثلاثينيات القرن العشرين، أخرجت السينما المصرية أوائل أفلامها عن قضايا المرأة تحت اسم «الزواج» وأدت بطولته فاطمة رشدى، الذى ناقش قضايا العنف ضد المرأة بأشكاله المتعددة، ومنها الزواج القسرى، وهيمنة الرجل على البيت.
وقدم الفيلم أزمة العنف الذى قد يصدر عن الأب أو الزوج وحتى الأخ ضد المرأة، عبر السيطرة عليها، وضربها فى حالات معينة، وكيف أن ذلك الاعتداء يعتبر أمرًا طبيعيًا فى المجتمع، وناقش الفيلم بوضوح أزمة الزواج القسرى، وإكراه الأسرة نجلتها على الزواج من شخص لا تريده.
وتدور أحداث الفيلم حول «سلمى» التى أحبت ابن عمها، لكن فقره حال دون موافقة والدها على الزواج، فيما أرغمت بعد ذلك على الارتباط بشخص ثرى لا يحترمها ولا يعيرها اهتمامًا، وينغمس فى حياة مستهترة هزلية لسنوات، حتى تتخذ قرارها بالابتعاد عنه والهروب منه بعد وفاة طفلتهما، لكن القانون، كعادته وقتها، يقف فى صف الرجل لا المرأة، فتجد نفسها ملزمة بتنفيذ طلبه فى بيت الطاعة، لكنها تفضل الموت.
وناقشت أفلام الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى قضايا العنف الأسرى بشكل أوسع، ربما كانت أشهرها «ثلاثية» ألفها الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ «قصر الشوق وبين القصرين والسكرية»، والتى قدمت شخصية المرأة المقهورة المتمثلة فى «أمينة»، التى كانت تربى بناتها كذلك على الطاعة العمياء لوالدهن.
وقدمت الأفلام الثلاثة صورة المرأة الريفية البسيطة «أمينة» التى لا تعرف شيئًا خارج حدود منزلها، حتى إن المرة الوحيدة التى تتجرأ فيها وخرجت دون إذن زوجها، يلقى عليها يمين الطلاق بسببها.
وسلط فيلم «المراهقات» الذى أنتج عام ١٩٦٠، بطولة الفنانة ماجدة، على قضايا قهر المرأة أيضًا، عبر طرح شخصية «ندى» التى تتعرض للتسلّط من أمها وأخيها، بينما لم يكن يُساندها سوى الجد العجوز الذى يحاول إعطاء حفيدته مساحة من الحرية فى مواجهة قهر المجتمع. وتناول الفيلم نماذج أخرى مقهورة، منها شخصية «صفية» التى قدمتها زيزى البدراوى، التى قادتها قصة حبها فى النهاية إلى الموت.
كما طرح الفيلم شخصية «نفيسة» والدة «صفية»، والمتزوجة من رجل سكير قاسٍ لا يتوانى عن ضربها، بل وإجبارها على الإجهاض المتكرر، ما سبب لها العديد من الأمراض، فيما تتعرض تلك المرأة لأزمات قاسية منها وفاة ابنتها التى تناولت هى الأخرى عقارًا للإجهاض بعدما تيقنت من حملها من حبيبها.
«أريد حلًا» و«بريق عينيك» و«عفوًا أيها القانون» تُعيد التوازن لكفة المرأة
واصلت السينما المصرية تقديم هذا النوع من الأفلام لعرض أكبر عدد من القضايا الزوجية، من أهمها تلك التى تستغرق سنوات لإيجاد حل، مثل فيلم «أريد حلًا» لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة فى دور «درية»، وهو الفيلم الذى استطاع تغيير قوانين الأحوال الشخصية فى مصر لصالح المرأة، وأيضًا فيلم «بيت الطاعة» من بطولة ليلى علوى، الذى ناقش واحدة من القضايا المهمة فى الأحوال الشخصية، وهى فكرة نشوز الزوجة، وأحقية الزوج فى طلب زوجته لبيت الطاعة، الذى عادة ما يكون أقل من المستوى الذى اعتادت الزوجة العيش فيه.
الأمر نفسه بدأ بشكل أكثر قسوة فى فيلم «بريق عينيك»، من بطولة مديحة كامل، حيث الزوج المفقود لسنوات، والزوجة المعلقة دون زواج حقيقى أو طلاق، والتى ما إن وجدت حب حياتها حتى عاد زوجها من جديد، وطلبها فى بيت الطاعة بحكم قضائى. تضمن الفيلم العديد من الإشكاليات والقضايا، وهى هجر الزوج وبيت الطاعة والزواج الثانى أيضًا.
وحملت الثمانينيات موجة سينمائية أخرى تتعرض للعنف ضد المرأة، ورصد صورة المرأة الخاضعة المستكينة، والتى فى بعض الأحيان قد تتحول إلى الإجرام بسبب كثرة الضغوط التى لا تطيقها. من أشهر تلك الأفلام «زوجة رجل مهم» من بطولة ميرفت أمين والعملاق الراحل أحمد زكى.
جسّدت ميرفت دور الزوجة المقهورة لضابط متعجرف ملىء بالعقد النفسية. تتحمل الكثير من صفاته السيئة بسبب الضغط المجتمعى والأسرى، لكنها فى النهاية تنفجر وتقتله.
وفى فيلم «عفوًا أيها القانون» تناولت المخرجة إيناس الدغيدى التفرقة بين الرجل والمرأة فى القانون فيما يتعلق بقضايا القتل لعلة الزنا. حيث لا يُعاقب الرجل بعقوبة أكثر من الحبس عدة أشهر مع إيقاف التنفيذ، فيما تُعاقب المرأة بعقوبة القتل العمد. القهر نفسه عانته بطلة فيلم «الجراج» التى قدمت دورها الفنانة نجلاء فتحى، حيث الأم المُعيلة التى تتحمل الكثير من القهر، من زوجها اللامُبالى، وسكان العمارة الذين ينظرون إليها وأولادها نظرة دونية، بل ويتحرش بعضهم بابنتها الشابة. حتى إنها تتحمل المرض إلى النهاية من أجل أن يكبر أولادها ليفلتوا من دائرة القهر تلك.
أمّا المشكلة التى ما زالت سائدة رغم محاولات القضاء عليها، وهى بيع بنات الريف الفقيرات للأثرياء تحت مظلة الزواج، فقد طرحها فيلم «لحم رخيص» الذى تدور قصته حول ثلاث فتيات يذهبن مضطرات إلى سمسار ليوفر لهن عمل أو زواج بدافع الفقر المدقع وهوانهن على أهاليهن. فيكون مصير اثنتين منهما الزواج من أثرياء من الخليج والسفر معهما، والأخيرة العمل كخادمة بأحد المنازل.
الحرب على التحرش فى «٦٧٨».. و«أسرار البنات» و«دنيا» يواجهان شبح الختان
فى عام ٢٠٠١، عُرض فيلم «أسرار البنات»، الذى تناول ختان الإناث الذى يجرى بشكل عقابى للفتيات.
قدّم الفيلم قصة مراهقين تورطا فى علاقة جنسية، ما أدى إلى حمل الفتاة، وإخفائها هذا السر إلى أن داهمتها آلام المخاض، فتنقلها أسرتها إلى المستشفى حيث يجرى الطبيب عملية ختان للفتاة عقب توليدها، رغم مخالفة ذلك للقانون، ودون إعلام ورضا أسرتها، ليعكس ذلك بوضوح نظرة الكثيرين لختان الأنثى، وبينهم أطباء باعتباره ضامن الطهارة والعفة.
كذلك فى عام ٢٠٠٤، تناول فيلم «دنيا» ما يسببه الختان من برود جنسى للأنثى، عبر قصة فتاة تترك موطنها فى صعيد مصر وتنتقل إلى العاصمة لدراسة فن الرقص الذى تهواه وتبحث فيه عن حريتها، فى الوقت الذى تحاول فيه التغلب على الألم النفسى والجسدى الذى سببه لها الختان.
لاقى الفيلم صعوبات شديدة قبل وبعد عرضه بدور العرض المصرية، حيث تأخر عرضه حتى ديسمبر ٢٠٠٦ بسبب ضغوط من المتعنتين وبعض رجال الدين، لأن الختان لم يكن مجرمًا قانونيًا حتى ذلك الوقت. فيما بعد، جرى تعديل قانون العقوبات المصرى وإضافة مادة تتعلق بتجريم الختان فى عام ٢٠٠٨.
ويُعتبر فيلم «٦٧٨» نقطة تحول فى معالجة السينما قضية التحرش الجنسى، واستلهم المؤلف محمد دياب قصة الفيلم من واقعة تعرضت لها شابة تدعى نهى رشدى، حين تحرش بها جسديًا سائق عربة نصف نقل، فأصرت على الإمساك به وتحرير محضر تحرش له، واستمرت فى قضيتها، حتى قضت المحكمة على المتهم بالحبس ٣ سنوات.
وفى عام ٢٠٠٩، عُرض فيلم «احكى يا شهر زاد» فى بطولة نسائية مطلقة، حيث قدّمت الفنانة منى زكى دور مذيعة، انتقلت من البرامج السياسية إلى برامج المنوعات، فاختارت أن تستضيف بطلات لهن قصص مختلفة من التعنيف.
وفى نهاية الفيلم تعانى هى نفسها من العنف الزوجى، حيث تصير بطلة آخر حكايات الفيلم.
أما فيلم «هى فوضى» الذى قام ببطولته الراحل خالد صالح، فى دور أمين شرطة فاسد، فقد شمل عدة أشكال من العنف ضد المرأة، منها تعامله مع غرفة السجن النسائية فى القسم باعتبارها ملكًا خاصًا له يُمكنه استباحة نسائها فى أى وقت يشاء، وممارسة سلطاته على امرأة فقيرة تتضرع من أجل إطلاق سراح ابنها، وفى النهاية يقوم باغتصاب الفتاة التى رفضت الزواج منه.
أما أحدث أفلام العنف ضد المرأة، فهو فيلم «النهارده يوم جميل»، الذى جرى طرحه فى السينمات الأربعاء الماضى، بالتزامن مع اليوم العالمى للعنف ضد المرأة. قصة الفيلم مأخوذة من المجموعة القصصية «سوق العرسان» للكاتب علاء سليمان، وتدور أحداثه عن العلاقات المعقدة ما بين الرجل والمرأة، حيث يناقش العنف الزوجى بطريقة جريئة.
وهكذا سجلت السينما تطور أشكال العنف ضد المرأة وتنكرها فى أشكال تصبح أكثر نعومة وقدرة على المراوغة والتخفى مع مرور الزمن لكن العنف يبقى هو العنف والمرأة هى المرأة.