لماذا وقعت «التأديبية» أقصى عقوبة على مسؤول بالمركزي للمحاسبات؟
أودعت المحكمة التأديبية بمجلس الدولة، اليوم، حيثيات حكمها بإحالة مدير عام الحسابات بالجهاز المركزي للمحاسبات للمعاش بعد ثبوت ارتكابه مخالفة إدارية جسيمة تمثلت في حرمان أرملة من الانتفاع بميراثها عن زوجها المتوفي، بأن احتجز حقا لها بين يديه مانعًا عنها مالها الشرعي دون مبرر مقبول.
ملف التحقيقات
وتبين من أوراق القضية أن النيابة الإدارية أقامت الدعوى الماثلة مشتملة على ملف التحقيقات في القضية رقم 75 لسنة 2020 رئاسة الهيئة، وتقرير اتهام ضد المحال م. ع، مدير عام الحسابات بالأمانة العامة بالجهاز المركزي للمحاسبات، لخروجه على مقتضى الواجب في إعمال وظيفته، وظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة، وخالف أحكام القانون ولائحته التنفيذية ومدونات السلوك الوظيفي الصادرة بشأنه.
وامتنع عمدًا عن تسليم الشاكية الإرث الشرعي الخاص بزوجها مما ترتب عليه حرمانها من الانتفاع بهذه المساحة ومعاناتها نفسيا طوال فترة الامتناع ودون مبرر مقبول، وانتهت تحقيقات النيابة الإدارية إلى إحالة المتهم للمحاكمة التأديبية العاجلة لارتكابه مخالفة إدارية مؤثمة بالمادتين رقمي 55 و 56 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 144 لسنة 1988 بشأن الجهاز المركزي للمحاسبات، والمواد أرقام 55 و 58 و 560 من لائحة العاملين بالجهاز والصادرة بالقرار رقم 196 لسنة 2019.
حيثيات المحكمة
وقالت المحكمة عبر أسباب حكمها أن الإخلال بالواجبات الوظيفية هو مخالفة الموظف أحكام القوانين واللوائح أو التعليمات الإدارية، في حين يقصد بالإخلال بمقتضيات الوظيفة أن يطأ الموظف مواطن الزلل وتحوم حوله الشبهات بما تضيع معه الثقة التي لابد من توفرها في الموظف العام، فإن كانت المسئولية التأديبية للموظف العام تقوم عما يرتكبه في حياته الخاصة، إلا أن ذلك رهين بأن يمس ويؤثر في حياته الوظيفية وسمعة وكرامة وظيفته، فالأصل أنه ليس كل ما يسلكه الموظف العام خارج نطاق وظيفته يرتب مسئوليته التأديبية، وإن مَثَّل في حقه مسئولية مدنية طالما نأى بمسلكه عن حدود المساس بكرامة وظيفته والنَيل من الاحترام الواجب لها.
وإذ ثبتت في حق المتهم المخالفات المنسوبة إليه، بما ينعكس سلبا على سمعته بذاته، وتلحقها بالتبعية كرامة وظيفته، إذ شكَّلت تلك المخالفات خروجًا على ما يتعين توافره في الإنسان من أمانة وحرص على رد الحقوق القانونية إلى أهلها، وهو ما يتعين بالأحرى توافره لدى الموظف العام بحسبان احترام القوانين والنهوض إلى تنفيذها هو من مقتضيات وظيفته ومتطلباتها، مما لا محاجة معه بقول بأن ما نُسب إلى المحال كان عن وقائع تتعلق بحياته الشخصية أو الأسَرية بمنأى عن حياته الوظيفية ومقتضياتها، مما تضحى معه مسئوليته التأديبية عما نسب إليه قائمة.
وتبين من الأوراق أن الحكم الجنائي الصادر بعقوبة مقيدة للحرية ضد المتهم قد صدر في وقائع ماسَّة بالأمانة، إذ احتجز حقا لورثة بين يديه مانعًا عنهم مالهم الشرعي، وهو فعل إن كان هناك مجال للخوض في مدى تأثيره على الموظف بمفهومه العام، وإن كان خوض مردود، إلا أنه يدق وصفه وسرد آثاره على عضو بجهاز رقابي دستورًا وقانونا وواقعا، يتطلب العمل به أقصى درجات الأمانة، إذ أن اختلال موازينها لدى عضو الجهاز إنما ينبئ بمظالم عديدة قد ينسجها بجهات شتى تقع تحت رقابة الجهاز، فيؤتىَ التشكيك في أعماله اللاحقة على إدانته جنائيا من كل جانب حتى وإن كان براء منها، إلا أن لها مَرَدُّها من شبهات تحيق بأمانته أججها حكم جنائي نهائي وهو ما يتأبى وشأن العمل العام على عمومه، وشأن العمل في جهاز رقابي ترتقي فيه مفاهيم الأمانة والثقة إلى قمة الاعتبارات.
وفي ضوء ما هو ثابت يقينًا في حق المحال فقد خرج قطعًا على مقتضى واجبه الوظيفي الذي لا ينفصم انفصامًا تامًا عن حياته الشخصية، غير مكترث للسَمت الأخلاقي المفترض والواجب على الموظف العام بمفهومه الشامل، فلم يدرأ ما يحيق به وبكرامة وظيفته والجهاز محل عمله، رغم جلاء مرامي لائحة العاملين به نحو حظر أي شبهة قد تفضي إلى اختلال الثقة في الجهاز وموظفيه على نحو ما ورد بالمادة (55) منها من وجوب مجازاة من يظهر من العاملين بالجهاز بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة.
وإذ تجاوز أمر المحال إلى ارتكاب ما ارتكب وصدور حكم جنائي نهائي ضده في جريمة قدَّرت المحكمة وبحق أنه بثبوتها أُهدرت الثقة في أمانته، مخلا إخلالا جسيما بكرامة وظيفته، ومن ثم وقر في عقيدة المحكمة أن غل يده عن وظيفته هو الجزاء الأوفى، وهو ما تقضي به.