وليد علاء الدين: أيقنت بعد التجربة أن الخطط مهما بدت متماسكة فإنها تتهاوى
نهاية العمل الأدبي أو ما يمكن أن نسميه إذا جاز التعبير "القفلة"، سواء في القصة القصيرة أو الرواية، أمر شديد الأهمية للكاتب والمبدع، وهو ما يطرح السؤال، هل نهاية العمل الأدبي تكون مسبقة في ذهن الكاتب، أم أنها تتغير من حين لأخر، أم أن سير السرد وحبكته، ومصائر شخصيات العمل الأدبي وموضوعه هي التي تفرض هذه النهاية؟ وغيرها مما يخص هذه الجزئية شديدة الأهمية في العمل الإبداعي الكتابي.
وحول هذا الأمر قال الكاتب وليد علاء الدين: لم أنجح أبدًا في إنجاز رواية وفق مخطط مُسبق، لا أقول إنني لا أخطط، بل أفعل، ولكنني أيقنت بعد التجربة أن الخطط -مهما بدت متماسكة- فإنها تتهاوى عند أول منحنى في سكة الكتابة، حين تجد نفسك منغمسًا في لذة تتبع ذلك الصوت الذي يملي عليك، فتجري يدك بالحروف والكلمات والجمل والمشاهد. هو ليس وحيًا بالتأكيد، فقد ثبت علميًا أن ثمة زمنًا ضئيلًا يقدر بجزء من الثانية تستغرقه عملية تحول الفكرة من الخيال إلى أمر عقلي قابل للتنفيذ: اكتب. فنكتب وكأن صوتًا يملي علينا.
وأوضح علاء الدين: هل يعني ذلك أن التخطيط غير مفيد؟ في ظني أن التخطيط هو ما ساعد الخيال على الإنتاج. لدينا جميعا مخزون هائل من الصور والروائح والأوصاف والألوان والشخصيات والمواقف… إلخ، مخزونة بشكل ما في الذاكرة. إضافةً إلى الأفكار والقناعات والرغبات والأحلام… إلخ، كلها مواد خام مخزنة بطريقة ما لنستدعيها حين نحتاجها، في إقامة حوار اجتماعي أو مقابلة لوظيفة أو إقناع زبون أو الإيقاع بضحية. ما يفعله التخطيط أنه يجهز هذا المخزون، يرسل طلبات لبعض الذكريات لتستعد، وطلبات لبعض المواقف لتتجلى، ولبعض الشخصيات لتساعد… وهكذا ينجح التخطيط في تجهيز الجيش والسلاح، أما الحرب فإنها أمر آخر لا يمكن التكهن به سوى في وقت النزال. في وقت الكتابة فقط يفاجئك الخيال بألعابه بالجيوش والأسلحة التي استدعيت، ويقدم لك خلطات جديدة وطروحات مبتكرة وتفاصيل مبهرة تقودك وتقود العمل في اتجاهات أخرى.
وأضاف: في روايتي "ابن القبطية" مثلًا، كان على يوسف أن يصل إلى مرحلة الفصام التخشبي، معنى ذلك أن يسقط في بئر خيالاته، ولا تعود له علاقة على الإطلاق بالواقع، المعنى المنطقي لذلك أن يخرج يوسف من الرواية، وهو أمر لا يجوز. لو كانت رواية تقليدية بمنطق الراوي العليم لكان الأمر سهلًا، سيصف لنا الراوي ما يحدث ليوسف وننتهي، ولكني أردت أن نسمع تيار وعي يوسف وهو داخل بئر خيالاته، وهو ما جعلني أعيد وضع تصور النهاية عدة مراتٍ إلى أن وصلت للشكل الذي صدرت به والذي اعتبره البعض غامضًا وغير مفهوم، لكنها النهاية التي لا يليق بالرواية سواها.
واستطرد علاء الدين: في روايتي الثانية، "كيميا"، واجهتني مشكلة كيف تنتهي رحلة البحث عن قبر فتاة رحلت قبل ثمانية قرون! وهو قبر تؤكد الدلائل التاريخية كلها أنه غير موجود، وأنا أعرف ذلك مسبقًا لأنني قرأت عشرات الكتب عن الرومي وحياته وطريقته وظروف العصر الذي عاش فيه، كان لهذه المعرفة أن تحدد شكل نهاية العمل إذا كان الأمر مجرد تخطيط مسبق، ولكن ما حدد شكل النهاية في كيميا وربما شكل الكتابة كلها هو مقاومتي لهذه المعرفة المسبقة، مقاومة عاطفية إنسانية، لا ينبغي لروح الفتاة كيميا أن تظل أسيرة قبر مجهول، عاشت مظلومة وماتت قتيلة، فعلى الأقل نضع لها شاهدًا يذكر الناس بها. لذلك جعلت البطل يغامر باختراق ضريح الرومي ليلًا ليضع أمامه في حرمه شاهدا لقبر الفتاة يستعيد بعض حقها من قاتليها، رمزيًا.
وفي روايتي الثالثة "الغميضة"، كنت محكومًا بمنطق ثلاثي الأبعاد: بين قواعد اللعبة "الغميضة"، وإغراء فكرة المسرحة، أي كتابة رواية على خشبة المسرح، وفلسفة الحلم الذي يرويه الولد للبنت.. ولكني قاومت هذا الثلاثي لآخر لحظة، منتظرا أن تصنع النهاية نفسَها من خليط يجمع بين المحاور الثلاثة، وهو ما أظنه حدث بالفعل.