حوار بين جيلين عز الدين بوركة يحاور صلاح بوسريف
حوار بين جيلين (3_3).. صلاح بوسريف: الشِّعر هو الهواء الوحيد المتبقي لنا
في الحلقة الماضية، من حوار بين جيلين ذهب الشاعر والناقد صلاح بوسريف، إلى التأكيد على ان الشِّعر معرفة، ولم يعد إلهاماً، وأكد في حواره مع الناقد والشاعر الشاب عز الدين بوركة على ضرورة أن ينفتح الشاعرعلى الفلسفة، وعلى حد تعبيره لا يمكن لأفق الشاعر أن يكون رحيبا دون ذلك الانفتاح الشِّعري، ولا يستطيع، نظرياً، أن يُبَرِّر شيئاً في ما يكتبه ويقوله.
وإلى نص الحوار
-حديث عن النص الشعري في فكر صلاح بوسريف، يقودنا إلى الوقوف عند مفهوم "المشروع الشعري"، لماذا مصطلح مشروع؟ الذي يحيل إلى كتابة لم تكتمل بعد، أو مسودة، أي أنها كتابة مفتوحة على التعديل والتصويب والتصحيح، وبالتالي على صعوبة النشر... لكن في ذات الوقت تصدر في كتب: تسمونها "مؤلفات شعرية"؟ وأين يتجلى هذا المشروع في المدونة الشعرية العربية والمغربية اليوم؟
وجودنا على الأرض، هو مشروع وجود، هو وجود في طور التَّشَكُّل. لا شيء في الوجود نهائي، مكتمل ومغلق، أو انتهى. كلمة مشروع التي تعطيها أنت هذا التفسير، هي تعبير عن تواضعنا ليس أمام الشِّعر، بل أمام الوجود نفسه.
مثل دانتي، حين ذهبت في عملي الأخير «كوميديا العدم»، إلى ما وراء الوجود، فأنا، في «الذبول الأخير من الحلم»، رغبتُ في توسيع الرؤية، في افتراض هذا النقصان حتَّى في ما بعد الوجود. الشِّعر، عندي، وفق هذا المنظور، هو عمل في اللانهائي، في ما لا يكتمل، ولن يكتمل، هو مشروع، أفق وطريق، هو ما اعتبرتُه في سيرتي الشعرية الثقافية زُرقةً.
كل اكتمال، هو انتهاء وحَسْم، هو انحسار وموت. هل اكْتَمَل المتنبي ورامبو وأبي تمام، ولوركا، وبيسوا، ودرويش..!؟ الشاعر الذي يعمل في سياق مشروع ما، هو من يرى في وجوده وجوداً بمن سيستمر فيه، في ما بعده، في أفق وطريق آخر، وهذا ما ذهبتُ إليه، من خلال الشُّعراء الذين كانوا لي أفقاً، لا لأكونَ هُم، بل لاكون أنا نفسي، في مائي وتُربتي، وفي لغتي وخيالاتي.
الشِّعر، إذا أردتُ أن أستحضر قولة الجرجاني، هو شدَّةُ اكتمال في شِدَّة نقصان. وهذا هو معنى، ومفهوم المشروع، ما يبقى منفتحاً، أو ماسمَّيْتُه في كتابي «حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر» بالشِّعرية الدينامية المفتوحة.
-هل سيقودنا هذا المشروع لاستنبات نظرية أدبية ومعرفية تنطلق من المحلي: المغربي والعربي، لتغزو العالم؟ كما أحدثت نظريات بارت مثلا التي تناولت نصوصا فرنسية خالصة، لكنا وجدت لها موضع قدما في العالم بأسره؟
لماذا، كلما فكرنا في شيء، قابلناه بثقافة الغرب، ونقده أو تصوراته النظرية. هناك تصورات في النقد العربي القديم، هي عربية صرفة، ارتبطت بـ «القصيدة»، بالسِّياق الشِّعري الفني والجمالي العربي. أشير فقط، إلى الجرجاني. وأنا بصدد قراءة بعض أعمال هنري ميشونيك في الشعرية المُعاصرة، وجدته يتحدَّث عن «المعنى الأول» و «المعنى الثاني»، وهذا مفهوم وُجِد عندنا وله تصوراته التي بُنِيَ عليها في ماضي النظرية النقدية العربية، مثلما في نظرية النَّظْم، التي هي نوع من الشِّعرية في الكتابة عموماً وليس في الشِّعْر فقط.
في الشعر المعاصر، هناك تصوُّرات نظرية، عند عدد من الشُّعراء، بصورة خاصَّة، في كتبهم النظرية والنقدية، وفي حوارتهم. دورنا اليوم، هو أن ننكب على استخلاص النظرية من هذه الكتابات، وهذا دور الجامعة التي ما تزال جد متخلفة عن الواقع الشِّعري الجديد، في نصيته ونظرياته، إذا شئنا أن نتكلم بلغة الجمع.
ولا يهمني، هنا العالَم، بل يهمني ما علينا إنجازه. العالم يأتي من تلقاء ذاته، مهما تأخر الوقت. كما حدث مع ابن عربي، مثلاً، الذي لم يكن مفهوماً في كتاباته، وهو اليوم مُتاح في عدد من لغات العالم.
-دعنا نعود إلى البدايات، بدأت تجربة صلاح بوسريف صوفية ومن ثم اهتمت بالأسطوري والسردي –شعرا- ومن بعد عادت إلى الصوفي، ومن ثم مزجت بينهما.. لماذا هذا الترحال ذهابا وإيابا من وإلى الصوفي؟
لم أُراوِح بين الأسطوري والصُّوفي، فهُما معاً، عند اكتشافنا لهما، نفس الشيء. الأسطوري هو بدايات دهشة الإنسان إزاء الكون، ما شرعَ في التساؤل عنه من مظاهر وأشياء مفاجئة وطارئة عليه. والصُّوفي، هو أيضا دهشة واكتشاف، وهو رغبة في معرفة أصل الوجود والأشياء، وكلاهما ارتبط بـ «غَيْبٍ» ما. الأسطورة خلقت آلهتها بنفسها لِتُفَسِّر بها بعض ما التبس على الإنسان في علاقته بالكون، والتصوف، عاد ليتساءل حول الله، في كيف يمكن أن نتمثله، أو نستعيد وجودنا بالحلول فيه، أو حلوله فينا، كما شرع الحلاج، مثلاً، في اختراق هذا المعنى، وعُوقِبَ عليه، لأنه فاجأ الجميع بشيء لا أحد فكَّر فيه، أو جرؤ على التفكير فيه، بمن في ذلك الصوفية، وبينهم الجُنَيْد.
ثمة، دائماً، بحث في أصل الخلق، وفي أصل الوجود، وفي العدم أيضاً، في الأسطورة وفي التصوف. ذهابي إليهما، هو ذهاب إلى الأصول، أو البدايات بالمعنى النتشوي، حتَّى في اللغة التي شرعتُ أكتب بها. هي غير اللغة التي نجدها في الشِّعر، وهذا ما أغراني بالتساؤل عن شعر آخر، غير ما نعرفه من شعر.
علينا أن نوسع أفق النظر، وأن نُحْدِثَ الاختراق بمعناه الشامل، وهنا تتدخل المعارف والثقافات والفنون في حل ما قد يعترضنا من ضَيْق في اللغة، لأن اللغة وحدها لا تكفي في قول ما لا ينقال، ما لم نُوسِّع زرقتها.
-هل يرى بوسريف بأن الأسطوري منقذا لنا، في عصرنا المشوش هذا، ما دام قد اهتم بالأساطير الكبرى في القارات الثلاث؟.. وهل يبحث بوسريف عن تأسيس ملحمة معاصرة، ترسم لنا "الأسطورة" المعاصر التي نحياها ولا ندركها؟.. وما دور التصوف في هذه العملية؟
الزمن الذي نحن فيه، بكل مفارقاته، وما يجري فيه من التباسات، هو زمن أسطوري بامتياز. زمن كوني، بكل المقاييس، أصبحنا نعيش في أمكنة عديدة ونائية، في نفس اللحظة، وهذا، في ذاته، عنصر مدهش ومُثير، ويضفي النَّفَس الأسطوري على زمننا.
زمنٌ الحروب فيه تلي بعضها بشراسة دموية أعنف مما قرأناه في «الإلياذة». طريقة القتل، والدمار الذي تسببت فيها الأسلحة النووية والبيولوجية، وما تركته الحرب العالمية من آثار على الإنسان، وعلى الطبيعة، هذه كلها أمور تجعلنا داخل الأسطورة، باعتبارها التفكير في الوجود، بتخَيُّل ما يمكن أن يُحايثه من وجود، والأسطورة هكذا جاءت، ما يتجاوز فكر الإنسان العادي وخياله، ما يجعله يندهش ويشك ويرتاب. بهذا المعنى ذهبت إلى الأسطوري، لأنه تعبير واقعي، عن واقع سريالي عجائبي وخارق.
صحيح، فأنا، كما تقول، أسعى إلى كتابة أسطورة زمننا، من خلال البدايات التي هي امتداد في زمننا، بوعي وبأفق وسياق فني جمالي آخر، وبفكر، بقدر ما ينتقد، يسأل ويتساءل. والفكر، هنا، هو من ضرورات الشِّعر، أو من ضرورات الوجود.
- دعني أسمي الأسطورة والتصوف تأويلا للعالم، والشعر أيضا هو تأويل لغوي جمالي للعالم.. هل نحن إذن بصدد تأويل مضاعف ومفتوح أم هي عملية إعادة كتابة النص الأسطوري والصوفي بنفس معاصر، من حيث إن "ما بعد الحداثة"، أو الحداثة المتجددة كما تسمونها، هي عودة إلى الماضي والتراث وإعادة ترتيب بنيانه واستخلاص الجمالي فيه وما يناسب عصرنا؟
ألسنا نحن، في وجودنا، تأويلات لوجودات أخرى، لعوالم وأطياف نختلقها لننخرط في توهماتها!؟
كل شيء تأويل، والشِّعر هو التأويل الكبير، في وضعه الأسطوري ـ الصوفي للوجود، للآلهة والشياطين، أو الخوارق. أنا لا أعود، في هذا إلى الماضي، الماضي هو ما يلح عليّ لأنه، في كثير من لحظاته، هو إضاءة لبعض ما يلتبس علينا في الحاضر. أنا لا أخاف من وجود الماضي في معرفتي، بل أخاف على فكري من وجوده دون ماض. ومن لا وراء له، لا أمام له، بل هو مُجْثَثّ، منفصل عن ذاته، موجود دون وجود سابق، أو دون أن يكون قرأ أسلافه، عرفهم من خلال نقدهم، ليكون هو بذاته، لا بأسلافه، حتَّى وهو يرفضهم قد يكونون عالقين في أثوابه، في كلماته وحروفه، بل في طرف لسانه، أو أطراف أنامله.
-أخيرا، ما الذي ينتظره بوسريف من نداء الشعر؟.. ونحن اليوم نعيش عصر الصورة وتجلياتها المتعددة..
نداء الشِّعر لم يعد عندي، بعد هذا العمر وبعد هذا التراكم، نداءً، هو عمل واشتغال وجُهْد. هو أفق وزرقة، كما أشرتُ قبل قليل. حين نعيش الشِّعْر بهذا المعنى، فنحن نكون في جوهر الصورة، وفي جوهر الموسيقى والإيقاع. الشِّعر صورة وموسيقى، وهو سابق في هذا على ما تُسَمِّيه عصر الصورة. العصر هو عصر ابتذال الصورة، عصر تحويل الصورة إلى سطح وظاهر، لا الصورة بمعناها الشِّعري الجمالي، أو الأنطولوجي، بالأحرى، أو بمعناها الفني التشكيلي، ما نبتكره، لا ما يَفْرِض علينا تصوراً وفهماً لا يد لنا فيهما. الصورة بهذا المعنى تصبح متعالياً آخر، سماء أخرى هي الحقيقة، لا الفكر والعقل والخيال. علينا أن نستعيد عصر الإنسان، لتكون الصورة هي ما يخلقه الإنسان، لا ما يأتي مُحَمَّلاً بأيديولوجية وشمولية الزَّيّ المُوحَّد، مثل الزّي العسكري، الذي هو الواحد في تناسُخاته، ناهيك عن لغة الأمر والنهي.
والشِّعر هو الهواء الوحيد المتبقي لنا، في ظل هذا التلوث القاتل الذي حجب عنَّا الزرقة، وأطفأها.