كيف انتصرت اجتهادات عبد المتعال الصعيدي الفقهية لتطور مصالح المجتمع؟
لأن قضية تعدد الزوجات تتعلق بحياة الأسرة والمجتمع، وأن اضطراب الأسرة سيؤثر على تماسك بنيان المجتمع ككل يرى الشيخ عبد المتعال الصعيدي: "الإسلام جاء يمنح حكمًا عامًا، فالإسلام قد أعطى تعدد الزوجات حكم الإباحة ليتصرف المسلمون فيه في كل زمان ومكان بحسب المصلحة، فيأخذون به إذا اقتضت مصلحتهم أن يأخذوا به، ويكفوا عنه إذا اقتضت مصلحتهم أن يكفوا عنه، ويكون بهذا حكماً صالحاً لكل زمان ومكان كما هو شأن سائر الأحكام فلم يجعله سنة أو فرضاً على المسلمين حتى يؤخذ فيه شيء عليهم، ولم يضيق عليهم بتحريمه كما ضيق غير من الأديان لأن هذا التضييق لا يلائم كل زمان ومكان"، ولا يعني الصعيدي بإباحة الإسلام للتعدد أن يكون محلاً لإطلاق الشهوات، فالتعدد من المباحات غير المرغوب فيها لأن الله قال: "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا" النساء "3".
ويؤكد الصعيدي أن المسلمين الآن ليسوا عدولاً، كما كانوا في الصدر الأول، فلا تجرى تصرفاتهم في تعدد الزوجات بالحكمة بل بالشهوة، ولا يعدلون بين نسائهم وأولادهم، ولقد كان هذا سبباً في فساد الأسرة الإسلامية، لأن الأسرة لا يستقيم حالها بغير العدل، ولقد جر فساد الأسرة إلى فساد الأمة، لأن الأمة تتألف منها فيصلح حالها بصلاح الحال ، ويفسد حالها بفساد حالها.
ــ حجية تحريم تعدد الزوجات كما ذكرها الشيخ عبد المتعال الصعيدي
يوضح الدكتور أحمد محمد سالم، أستاذ الفلسفة الإسلامية بآداب طنطا في كتابه "العمامة المستنيرة.. تجديد الفكر الديني عند الصعيدي": وانتهي الصعيدي إلى ما انتهى إليه محمد عبده من القول بأن تعدد الزوجات طالما نتجت عنه مفاسد اجتماعية فعلى ولي الأمر أن يحرم تعدد الزوجات، وأن لولي الأمر أن يقلب المباح حراماً لمصلحة المجتمع.
ونجد الصعيدي هنا يؤكد أهمية مصلحة المجتمع: "لولي الأمر أن ينهي عنه إذا أساء المسلمون استعماله فيصير حراماً لنهيه عنه، وإن كان في ذاته مباحاً، وهذا معروف بين العلماء، لأن الله تعالى لم يبح لنا الأشياء إلا في حدود المصلحة، فإذا انتفت المصلحة انتفت الإباحة، بل قضى العلماء على أن المندوب ما ينقلب مكروهاً لسبب من الأسباب"، وهنا يتضح مدى تركيز الصعيدي على ما فيه مصلحة المجتمع، وذلك لتغير أحوال المسلمين، وتغير طريقة استخدام المباح من التشريع، وهو ما يعني مدى اهتمام الصعيدي في اجتهاده الفقهي بمراعاة أحوال الاجتماع، ولو كان الأمر مختلف عليه بين العلماء فلولي الأمر أن يأخذ ما فيه مصلحة المجتمع فيقول :"نحن إنما نرى النهي عن المباح عند الحاجة إليه، عند إساءة المسلمين له، وإذا كان في ذلك خلاف بين العلماء، فمن الواجب أن يعطي الأمر لوليّ الأمر لما فيه من المرونة في التشريع وعدم الوقوف في المباح عند حالة واحدة، حتى نراعى لو تغيرت الظروف والأحوال وصارت الإباحة مصدر بلوى للمسلمين" ويتضح مدى أهمية اجتهاد الصعيدي المجدد الذي نظر في مسألة مباحة مؤكداً على أن الإباحة حتى لو نتجت عنه مفاسد وشرور للأسرة والمجتمع فعلى الحاكم أن يحرم المباح لسوء استعمال هذا المباح بما يهدد أركان المجتمع، فالمصلحة الخاصة بالعباد والمجتمع هي ما كان يضعها هذا الإمام المجدد نصب عينيه في مسألة التجديد في الفقه وفقاً لتطور المجتمع، وتطور أحواله.
ــ لهذه الأسباب رفض عبد المتعال الصعيدي الطلاق الشفوي
وناقش الصعيدي قضية الطلاق، وسعى إلى تقييد الطلاق لما لهذا الأمر من آثار اجتماعية سلبية على الأسرة والمجتمع، فيرى "أن الطلاق الثلاثة يقع كطلقة واحدة وذلك رعاية لتماسك الأسرة، وكذلك رأى أن الطلاق لا يقع في حالة الغضب، ولا يقع في حالة الشجار، ولا يقع في حالة الهزل، ولا يقع في حالة السكر لأنه فاقد لعقله في هذه الحالة". ولاشك أن تأكيد الصعيدي على نفي وقوع الطلاق في الحالات السابقة لتعيد الاعتبار للحالة التي يتم فيها الطلاق، وضرورة أن يكون الإنسان الذي يقع منه هذا الفعل في حالته الطبيعية، وكامل وعيه وعقله حتى تراعي فيها العواقب المترتبة على هذا الفعل، والآثار السلبية الناجمة عنه، وأكد الصعيدي على أن الطلاق ينبغي أن يقع كتابياً، كما يتم عقد النكاح حتى يحافظ للزوجة على حقوقها المترتبة عليه، وحتى يكون فيه تأني.
ويذهب الصعيدي إلى أن عقد الزواج ليس عقداً لملكية الرجل للمرأة كما يذهب بعض الفقهاء فيرى الصعيدي: "إن من يتعمق في فهم تشريع الإسلام في النكاح يجد أنه أعطى الزوجة من الحقوق مثل ما أعطى الزوج، لأنه فرض فيه أن يكون بعقد يقوم على رضا الطرفين به، فلا يصح أن يقوم على مظهر من مظاهر القوة، كما كان يحصل أن يذهب الرجل إلى من يريدها زوجة فيأخذها بالقوة من أهلها، ويعاونه بهذا أهلاً لأن يكون زوجاً لها لما أظهره في أخذها من القوة والشجاعة والبطولة، ولا يزال لهذا أثر في بعض مظاهر الزواج عند بعض الأمم، ولا شك أن عقد النكاح ليس عقد تمليك، وإلا فقدت الزوجة حريتها، وكانت رقيقة عند الزوج، إنما هو عقد يباح به للزوج ما هو محرم إليه قبله من الزوجة، ليسكن إليها وتسكن إليه، ويكون بينهما تماسك، ويزيد في رابطة الزوجية ويقوى بناء الأسرة" .
ويؤكد أن ثمة حق للمرأة في الطلاق مثل حق الزوج، وهذا لا ينافي الإسلام، ولكنه تحدث عن طلاق الزوج، ولم يتحدث عن طلاق الزوجة للزوج لأنه راعى في سكوته ظروف الناس في عصر ظهوره، وحال المرأة في هذا العصر، فجاء بما يقتضى إثبات حقها، وإن لم يكن بطريق التصريح حتى يمكننا أن نصل إلى إثباته بالاجتهاد والاستنباط عند تغير ظروف المرأة، وملاءمة الزمن لإعطائها ذلك الحق، حيث طرح الصعيدي في رؤيته حق المرأة في الخلع من الزوج إذا حدث كراهية بينها وبين زوجها فيقول: "أن الخلع حق مطلق للزوجة، كما أن الطلاق حق للزوج سواء بسواء، ولكن هذا لا يمنع له الحرمة إذا كان من غير سبب، فالطلاق يحرم إذا كان من غير سبب أيضاً، وعلى هذا يحمل حديث "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق فحرام عليها رائحة الجنة" حديث أبي هريرة، المختلفات هي المنافقات، وإذا ثبت أن الخلع من حق الزوجة فإنه يجب أن يكون في إطلاقه وتقييده مثل حق الزوج في الطلاق، فإذا أطلقنا حقه في الطلاق، ولم نقيده بشيء من رضاها أو نحوه فإنه يجب ألا نقيد حقها في الخلع برضاه أو نحوه كحقه في الطلاق لتستقل به إذا شاءت كما يستقل الرجل بالطلاق، وإذا أردنا أن نقيد حقه في الطلاق حتى لا يسئ استعماله قيدنا حقها في الخلع أيضاً"
والواقع أن الصعيدي كان مع تقييد حق الرجل في الطلاق حفاظاً على الأسرة، ولهذا كان يساير الآراء الفقهية التي تقول أنه لا طلاق لغاصب أو مسكر أو في هزل، والطلاق الثلاثي مرة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة، وكل هذا كان من أجل الحفاظ على تماسك كيان الأسرة وكيان المجتمع، كما أكد أن الطلاق ينبغي أن يقع كتابياً كما هو الحال في عقد الزواج، وقد أخذت مصر بقانون الخلع في نهاية القرن العشرين رغم أن الصعيدي قال به منذ مطلع القرن العشرين، والآن في ظل ارتفاع معدلات الطلاق في مصر ترغب السلطة الحاكمة في مصر أن يكون الطلاق كتابي كما هو الحال في عقد النكاح حتى تحافظ على حقوق المرأة، حتى من تقلل من ارتفاع معدلات الطلاق في مصر الآن، ولنا في اجتهادات الصعيدي عبرة في كيف يمكن أن نشرع للطلاق كتابياً وليس شفاهياً، ولكن مازالت مؤسسة الأزهر تصر على أن الطلاق يقع شفاهياً، وتقف أمام رغبة السلطة السياسية في ذلك، واعتقد أن الاجتماع البشري سينتصر في المستقبل لكون الطلاق كتابياً كالزوج تماماً.
ويختتم سالم حديثه: "تلك مجموعة من الاجتهادات الفقهية التي تكشف مدى مركزية المصلحة البشرية في الاجتهادات، ومدى إدراكها للعلاقة المتغيرة بين الدين وحركة المجتمع، والتي عمد الصعيدي من خلالها إلى الانتصار لتطور حركة الاجتماع ومصالح البشر، وفتح الآفاق للعقل من أجل الاجتهاد في النصوص الأساسية لإبداء أحكام جديدة تخص الشأن الاجتماعي بحداثته، وما أكثر هذه الاجتهادات التي اخترنا بعضاً منها لنكشف عن الروح التجديدية لدي الصعيدي التي هي امتداد لفقه الإمام محمد عبده .