مفتي الجمهورية السابق يتحدث عن ثقافة الصجيج
علي جمعة: ثقافة الضجيج تبني العقلية الهشة التي لا تقدر على التفكير
قال الدكتور على جمعة، مفتي الجمهورية السابق، وشيخ الطريقة الصديقية الشاذلية، “طلب مني كثير أن أصل لثقافة الضجيج وثقافة التأمل، وابتداءً فأنا مع ثقافة التأمل وضد ثقافة الضجيج، وثقافة الضجيج تبني العقلية الهشة، التي لا تقدر على التفكير وعادة ما يسبق النشاط الفكر، وسبق النشاط للفكر أحد السمات العظمى في التأثير في الحضارات والفنون والآداب والحياة، وعدها عبد الواحد يحيى (رينيه جينو قبل أن يسلم) في كتابه عن الحضارة الحديثة أحد السمات التي قتلت الإنسان أمام نفسه”.
وأضاف جمعة عبر صفحته الرسمية “فيس بوك”: “أما تأصيل ذلك من القرآن والسنة فنراه - يحكي ربنا عن حال إبليس -وهو عنوان للشر والقبح- فيقول: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)، فوسائل إبليس تبدأ بالصوت الضجيج ؛ثم يتأكد الضجيج بقوله (واجلب) وهي من الجلب، ثم يتأكد الضجيج ثانية بالمشاركة وأن يصبح الضجيج جزء من حياتنا اليومية، وهي حالة يضيع معها كثير من التفكر والتدبر والتأمل، ويضيع معها شيء كثير من الراحة والهناء”.
وتابع : “إذا كان هذا من وسائل إبليس ـ عنوان الشر والقبح ـ فإنه منهج للتشويش على الحق يقول سبحانه في شأن المشركين: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فالمنع من سماع القرآن الذي يأمرنا بالتدبر والتفكر والتأمل واللغو أمامه، وعلو الصوت عند تلاوته يمثل ما بين الثقافتين من فوارق قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)، وقال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، وقال سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)، وقال تعالى في وصفه لحال المؤمنين الصادقين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، ثم كرر سبحانه مرات كثيرة (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، ويجعل سماع القرآن واستماعه جزء من الدعوة الطيبة. قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ)، وقال سبحانه: ( وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)”.
وأكمل: “ثم يجعل الله علو الصوت والضجيج خارجاً عن حد الأدب عند كل الناس، فيذكر من وصايا لقمان لإبنه وهو يعظه: (وَاقْصِدْ في مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ)، ويتحول هذا الأدب إلى تهذيب عام يشمل البصر والمعاملة بين الناس. قال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، وقوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، وقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)، ثم يتحول هذا إلى منهج حياة قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)”.
وزاد: “يأمرهم في خصوص النبي ﷺ بعدم الضجيج. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وامتدت الثقافتان إلى الصلاة. قال تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)، وقال سبحانه: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ،وقال: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)، وقال ﷺ لأصحابه حينما رفعوا أصواتهم بالدعاء: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا) [النسائي ، وسنن البيهقي]”.
وتابع: “كان النبي ﷺ يحب الصوت الحسن، فأمر بلالاً بالآذان وقال لعبد الله بن زيد، وقد كان عبد الله بن زيد هو الذي رأى رؤية الآذان حيث قال (لما أمر بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجلا يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس. قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، قال: تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع. قال: ثم استأخر بعيدا فقال: تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة”.
وأكد جمعة: “فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أرى فقال فلله الحمد) [أبو داود ، والترمذي، وابن حبان]، واتخذ أبا محذورة مؤذناً له بمكة وهو أوس بن معير بن لوذان ابن ربيعة بن سعد بن جمح وقيل اسمه سمير بن عمير بن لوذان بن وهب ابن سعد بن جمح وأمه خزاعية، يقول عنه الذهبي: كان من أندى الناس صوتا وأطيبه، وقد روى قصة آذانه واختبار النبي ﷺ للأصوات حيث قال: (لما رجع النبي ﷺ من حنين خرجت عاشر عشرة من مكة نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة فقمنا نؤذن نستهزئ، فقال النبي ﷺ : لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا فكنت آخرهم. فقال حين أذنت: تعال فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبارك علي ثلاث مرات، ثم قال: اذهب فأذن عند بيت الحرام. [سير أعلام النبلاء]”.
وأوضح: “وكان يقول ﷺ : (من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد) [ابن أبي شيبة، والطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك]. وقال لحسان بن ثابت عندما سمع شعره الذي ينصر فيه الإسلام: (إن روح القدس معك) [أحمد ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم]، وسمع كعب بن زهير في قصيدته التي افتتحها بقوله: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم إثرها لم يفد مكبول.. وما سعاد غداة البين إذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول”.
وتساءل جمعة: “هل لنا بعد هذا التأصيل أن نحاكم حالتنا الثقافية لنرى إلى أي جهة نميل أو ترغب أن تكون، إلى جهة ثقافة الضجيج أو إلى جهة ثقافة التأمل، وهل يصلح أن نبني معياراً من هذا كله للنقد الأدبي والفني يخرجنا من التيه أو يرسوا بنا على بر الأمان؟”.