أخبار أهرام جمهورية.. ميزة؟
في 6 سبتمبر 2019، بدأ الصحفيون يومهم على خبر فصل العشرات من الزملاء في صحيفة "التحرير" المصرية التي تأسست عقب ثورة 2011، كان يوما كئيبا بلا شك، إذ إن ذلك يعني تهديد عشرات الأسر بالتفكك، إضافة إلى كون الوضع السياسي في مصر لا يتحمل المزيد من الاعتصامات، في ظل دعوات فاشلة من جماعة الإخوان المسلمين إلى الفوضى، أملا في إسقاط النظام.
الجريدة الليبرالية التي نشأت على مبادئ الثورة المصرية، باتت مع الوقت شبحا من الماضي، تحولت نسختها الورقية اليومية إلى أسبوعية في البداية قبل أن تتوقف، ثم توقف الموقع الإلكتروني لها، رغم كون مالكها هو رجل أعمال مصري، صاحب عقلية اقتصادية.
وما بين هذا وذاك؛ عشرات الشكاوى من التخفيض المفاجئ في الراتب، أو الفصل التعسفي، وشهور ضائعة في الاعتصامات، وسط مفاوضات فاشلة لا تفضي إلى شيء.. كيف حدث ذلك؟ وهل يمكن تجاوزه؟
عشرات من الصحف والمواقع الإلكترونية تغلق كل عام، سواء بسبب ضعف التمويل، أو بسبب الأزمات الاقتصادية المتتالية في العالم كله، ورغم أن وكالة "ستاندرد أند بورز" "S&P" أبقت على النظرة المستقبلية المستقرة للاقتصاد المصري، إلا أن أحدا لم يدرس الوضع القائم ويحلل أسبابه بما يكفي للوقوف على حل جذري لأزمات الصحف التي تسير عكس كل التوقعات الاقتصادية، بل أكاد أجزم بأن هناك صحفيين لم يشغلوا بالهم بأسباب إغلاق مؤسساتهم، وكيف يمكن أن يصنعوا تجاربهم الخاصة؟
وككل مهموم بعمله ومستقبله، دارت في عقلي عشرات الأسئلة، كانت هذه أبرزها:
- هل تعد وسائل التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك وتويتر» مصدرا للمعلومات؟
- هل انتهت الصحافة الورقية حقا وأضحى وجودها نوعا من الحنين للماضي؟
- هل تنتهي الصحافة الإلكترونية بنفس نهاية الصحافة الورقية؟
- هل تلغي وسائل الإعلام الجديدة نظيرتها القديمة؟
- هل الجمهور مستعد لتقبل وسائل الإعلام القديمة مجددا إذا تم تطويرها؟
- لماذا لا توجد صحافة إقليمية جادة في مصر؟
- هل يمكن تطبيق نظام الاشتراكات الرقمية وجدار الدفع في مصر؟
تجيب عن عدد كبير من هذه الأسئلة تجربة سارة كوبمان، مديرة التسويق في صحيفة «ديلي مافريك» الجنوب إفريقية، والتي تمكنت من السير عكس التيار، فبينما تتجه معظم وسائل الإعلام إلى العمل الإلكتروني وتلغي نسخها الورقية، قررت إدارة الصحيفة تحويل تجربة إلكترونية إلى ورقية.
اعتمدت "ديلي مافريك" على نموذج عمل تم بناؤه برؤية دقيقة للسوق، بدءا بمواد صحفية عالية الجودة وتحقيقات صحفية لم تنشر من قبل، بجانب أهم أخبار الأسبوع التقليدية، ثم البحث عن شريك محلي.. اتفقت الصحيفة مع بائع تجزئة للأطعمة الوطنية لديه أكثر من 8 ملايين عضو مسجل.
كان الاتفاق أن يحصل عملاء بائع الأغذية على الجريدة مجانا عبر استخدام بطاقة الولاء، مقابل إعلان دائم في الصحيفة، وكانت النتيجة حصول المستثمر على مبيعات جديدة، إضافة لنمو علامته التجارية في السوق، والحفاظ على قيمتها في السوق من جانب، وتوزيع 25,000 ألف نسخة أسبوعيا في سبتمبر 2020، ارتفع إلى 33 ألف نسخة في يناير 2021، و20% زيادة في جمهور النسخة الإلكترونية للصحيفة من جانب آخر.. كانت النتائج باهرة.
إذا أردنا نقل تجربة "ديلي مافريك" للسوق المحلية فيجب أن ندرس كل سوق محتملة على حدة.. ففي مصر، وبنفس العام الذي أغلقت فيه صحيفة "التحرير" أبوابها، جرت تغييرات تتعلق بوسائل الدفع، إذ اكتسبت السوق أدوات جديدة، ورغم أن أغلب مالكي الصحف من شريحة رجال المال والأعمال، لم ينتبهوا إلى عدة نقاط، أبرزها أن الصحافة الإلكترونية قد تواجه نفس مصير الورقية إذا استمر الأمر كما هو عليه، وأن عقلية وسلوك المستخدم في مصر تغير للأبد، خاصة في ظل تفشي فيروس كورونا.
وكانت أبرز التغييرات- من وجهة نظر صحفية- هي إطلاق بطاقة ميزة للدفع الإلكتروني في 2019، والمدعومة من قبل الحكومة المصرية.. ففي نهاية نفس العام بلغ عدد البطاقات المصدّرة 4 ملايين بطاقة، ومع الزيادة المطردة في إصدار البطاقة، والتي شملت أصحاب المعاشات، ومع زيادة عدد إصابات فيروس كورونا، ازداد عدد مستخدمي وسائل الدفع الإلكتروني في مصر زيادة كبيرة جدا، ما يعني زبائن محتملين لمؤسسات صحفية تعمل بنظام بوابات الدفع والاشتراكات الرقمية.
لكن قطاع الصحافة في مصر لم يستفد من تلك التغييرات، ولم يدرسها أيضا، فلم يقدم أحد دراسة للمشكلات المتعلقة بالمهنة، أو «نموذجًا عاملًا» للاستفادة من تطورات السوق، أضف إلى ذلك هناك متغيرات عديدة في السوق، فكل محيط يختلف عن الآخر، فما بين مناطق تصلها وسائل إعلام دون أخرى، ومناطق أخرى فقدت الثقة في وسيلة ما كانت يوما مصدرا رئيسا للأخبار، تكمن عشرات الفرص التي تنتظر من يحصدها.
والسؤال الآن: هل يمكن استخدام كل ذلك، سواء تجارب الآخرين أو دراساتنا المحلية، لاستبدال الصحافة التقليدية، سواء المجانية متمثلة في مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أو المدفوعة متمثلة في الصحف والمجلات، بنموذج عمل لصحافة إلكترونية تعتمد على الدفع الإلكتروني، في سوق يتميز بحاجته الملحة لصحافة تحليلية بعيدا عن صحافة الشائعات والأخبار المستهلكة؟
أمام كل ذلك، أجدني حائرًا: لماذا لم يطلق المصريون حتى الآن صحيفة واحدة بنظام الاشتراكات الرقمية؟ لماذا لم يتم البحث عن نموذج عمل جديد يحافظ على استدامة عمل المؤسسة الصحفية؟، وكيف كان نموذج التبرع لدعم محتوى ما أقصى ما وصلنا إليه؟ ولماذا تندثر أي صحيفة إقليمية بعد إطلاقها بفترة وجيزة؟ وهل يمكن استعادة الصحافة الورقية؟.. عشرات الأسئلة تنتظر أجوبة قبل فوات الأوان.