حوار بين جيلين| عبد الرحيم جيران: مازلت أقوم بدور الكاهن المؤتمن على صياغة التاريخ
في الحلقتين السابقتين تحدث الناقد والمبدع عبد الرحيم جيران باستفاضة حول أهمية ودور استعادة الذاكرة، وموقفه من الترجمة وضرورة وأهمية المعرفة في محاورة الآخر، إلى جانب تفهم ما يريد الغرب منا، ونظرته لمنجزنا الثقافي وكيف يتعامل الغرب معه، وأشار إلى التبعية الفكرية التي يجب علينا أن نواجهها.
• في الصراع الأزليِّ بين الناقد والمبدع نجد أنَّ لكلِّ منهما وجهة نظر. ولكن ما هي نظرة الناقد والمبدع معا المتمثِّلين في شخصية عبد الرحيم جيران؟
أظنُّ أنّني ما زلت أقوم بدور الكاهن، قبل حدوث المقسَّم في المجتمع الإنسانيّ بمروره من المرحلة الأسطوريَّة إلى المرحلة الدينيَّة، فالمراحل الأخرى. لقد كان الكاهن هو المؤتمن على صياغة تاريخ الجماعة بوساطة الحكاية (السرد)، والمؤتمن على إنتاج أناشيدها (الشعر)، والمؤتمن على ابتكار طقوسها (المسرح)، إلى جانب مهامٍّ أخرى بطبيعة الحال، من قبيل الاتِّصال بعالم الأرواح، وتطبيب المرضى. بيد أنَّني كاهن كثير الريبة حيال ما يقوم به، وحريص على أن يخون الجماعة بترك مسافة تجاه الدوكسا والأفكار العامّة والإيديولوجيا الحاثة على الانصياع لحقيقة معطاة سلفا. بيد أننيعلى الرغم من هذا التعدد فإنني أحرص على وحدتي التي تميزني، والتي من دونها أجدني مثل زجاج مكسَّر فَقَدَ الإطار الذي يجعله متعيِّنًا في هوية ما، وأقصد بهذا أنَّ هناك ناظميْن فكريَّيْن يتخفَّيان وراء كلِّ أعمالي النقديَّة والإبداعيَّة: ناظم متَّصل بالمغزى أُجمله في التنافر بين التطلُّع والتحقُّق، وناظم أسلوبيّ يتعلَّق بمحاورة النصوص بعضها بعضًا.
• إلى أي مدى يحتاج الناقد إلى الاطِّلاع على العلوم الطبيعية إلى جانب العلوم الإنسانية؟ أسألك هذا السؤال لأنني أعرف اطلاعك الواسع على علوم الرياضيات والبيولوجيا وغيرها. هل يحتاج الناقد إلى ذلك فعلا أو أنّها الضرورة الموجهة هي التي تحدد هذه الحاجة؟
إذا كانت مهمَّة الناقد ماثلة في إضفاء حكم قيمة على النصوص فإنَّه ملزم لكي يكٌون جديرًا بهذا الدور المسند إليه بأن يحوز نوعين من الزاد: الخبرة والمعرفة؛ الخبرة بالنصوص، وتاريخ تشكُّلها، وتقاليد الكتابة، والأساليب المختلفة، فضلًا عن مهارة التصنيف، ومعرفة العلوم المساعدة لها في فهم الكيفيات التي تُنتج بها النصوص، وتأويلها؛ ذلك أنَّ النصَّ الأدبيّ- حسب بول ريكور- شبيه بالمكعَّب، فهو ذو أوجه متعدِّدة، ولا يُدرك وجه من هذه الوجوه إلَّا بحيازة قدْر من العلوم التي تُمَكِّن من فهمه.
ولعلَّ أهمَّها العلوم الإنسانيَّة أو الرخوة، فهي معارف ضروريَّة لا غنى للناقد عنها في هذا الصدد. وأعجب لمن يشتغل اليوم بما يُسمَّى الأدب الرقميّ من دون أن يكُون ملمًّا بالذكاء الاصطناعيّ والمعلوميات، وعلم الأعصاب، وعلم النفس. لكن لا يعني التزوُّد بالمعارف المساعدة تحويل النصِّ الأدبيّ إلى صدى لها؛ بحيث يُصار النقد إلى أن يكُون مجرَّد سعي إلى تأكيد نتائج هذه المعارف، وإنَّما معرفة الكيفية التي تصوغ النصوص بوساطتها أسئلتها الخاصَّة حيال موضوعات هذه المعارف، ومن ثمَّة لا يعدو الإلمام بالمعارف المختلفة كونه ذخيرة تُمَكِّن الناقد من فهم المسافة التي يُؤسِّسها الأدب تُجاهها بفعل خصوصيته في فهم الإنسان انطلاقًا من ملامسة مناطق لم تقربها تلك المعارف.
• ربَّما المغرب مثال جيِّد لوفرة المترجمين من معظم اللغات. ولعلَّ هذا ما يجعل تلاقي الأفكار بين الضفَّتين- العربيَّة والغربيَّة يمرُّ عبر طرق أسرع. فكثيرًا ما أجد الباحث المغربيّ متقنًا لأكثر من لغة أجنبيَّة على خلاف المشرق الذي تسود فيه اللغة الإنجليزية لغةً ثانية، ويندر أن تجاورها أخرى، فما العوامل الأخرى اليوم التي تُميِّز الناقد المغربيّ عن سواه في الوطن العربيّ؟
لا تنفصل المعرفة عن الجغرافيا والتاريخ. إنَّ الحدود الثقافيَّة كانت دومًا الأرض التي تتطوَّر فوقها المعرفة، وتتنقَّل بين الشعوب والحضارات. ولقد كان حظُّ المغرب أن يكُون أحد هذه الحدود، فهو معبر بين أوروبا وشمال إفريقيا، وموقعه هذا جعله مؤهَّلًا لتسهيل تنقُّل المعرفة بين الغرب وضفّة المتوسط الجنوبيَّة، وتفاعلها مع الثقافات المجاورة لها. وينبغي ألَّا نهمل دور الاستعمار- الذي جعل المغرب محتلًّا من قِبَل فرنسا (الوسط) وإسبانيا (الشمال والجنوب)- ووضع طنجة الدوليّ إبَّان فترة الحماية في نشر الألسن المختلفة بالمغرب. هذا ما جعل الترجمة نشيطة، حتَّى لا أقول مزدهرة، بالمغرب، ومكَّن الناقد من الإلمام بألسن متعدِّدة سهلت عليه الاطِّلاع على معرفة الغير ومواكبتها. ويُضاف إلى هذا عوامل أخرى، من أهمِّها عدم انفصال الجامعة المغربيَّة في حقبة السبعينيَّات بخاصَّة عمَّا يدور في المجتمع من صراع سياسيّ أفضى إلى تحيُّزات أيديولوجيَّة. لقد كان لهذا أثره في النقد، وبخاصَّة على مستوى البحث عن التصوُّرات النظريَّة السوسيولوجيَّة التي تُفسِّر الأدب. بيد أنّ ما يُهمُّ ليس هو التحيُّز الإيديولوجي في حدا ذاته، بل النزوع التفسيريّ فيه، والذي سيستمرّ فيما بعد منفصلًا عن أساسه السوسيولوجيّ في تصوُّرات نقديَّة أخرى. ومعنى هذا حدوث قطيعة بين المعرفة العربيَّة القديمة التي كان تنحو نحو ما هو عمليّ محض ومعرفة جديدة تُغلِّب ما هو نظريّ التفسيريّ على كلّ نزوع تجريبيّ نفعيّ.
• في المقابل نسمع بين حين وآخر أصواتا مغربية تندب مستوى التعليم في الجامعات والمدارس المغربية. فهل ما نسمعه مجرد نقد للذات من أجل بلوغ مستوى أفضل أو أن الحال على خلاف ما نراه؟
أكيد أنَّ حالة التعليم مقلقة بالمغرب. هذا واقع لا يمكن حجبه. وله علاقة وطيدة بمستقبل المعرفة بعامَّة والنقد بخاصَّة. وأظنُّ أن بيير بورديو ينفعنا في فهم ما يحدث. لا يمكن فصل التعلم وتنظيمه عن اللسان والتشكُّلات الاجتماعيّة، وعلاقة اللسان بالرأسمال الرمزي والسلطة. لقد أدَّت تقويَّة الطبقة البورجوازية الريعيَّة بالمغرب، وتفقير الطبقات الأخرى إلى ظهور تعليم خاصّ متراتب وفق التجذُّرات الاجتماعيّة وإلى إهمال المدرسة العمومية التي تستقطب أبناء الفقراء والمهمشين. وقد ترتب على هذا نشوء تعليمين: أحدهما جيد مخصص للقلة المحظوظة وتعليم ضعيف مخصص للأكثرية المسحوقة اجتماعيا؛ ونجم عن هذا بطبيعة الحال تقسيم للمعرفة تولد عنه تقسيم على مستوى الحظوة الاجتماعية والمكاسب: من يحظى بالمناصب الرفيعة ذات الأجور العالية، ومن يحظى بالشغل الأقل دخلا، أو لا يحظى به على الإطلاق. ولم يحدث هذا الفرز على المستوى الاجتماعي فحسب، بل على مستوى تصنيف المؤسسات التعليمية الجامعية أيضا؛ فكليات الآداب والعلوم صارت مؤسسات تستقطب الفئات الاجتماعية المتضررة التي تلقت تعليمها في المؤسسات العمومية، بينما تعد المدارس العليا وكليات الطب مؤسسات تستقطب الفئات الاجتماعية المحظوظة.
• كيف تنظر إلى المشهد النقدي بالمغرب اليوم، وفي الوطن العربي بشكل عام؟
- ليس من طبعي التشاؤم، لكنَّ سوء الحال يُنبئ عن مستقبل غير مطمئِن البتَّة، حتَّى لا أقول عن مستقبل مظلم. وسأتحدَّث أوَّلًا عن النقد بالمغرب الذي أُلمُّ بسياقاته جيِّدًا. لقد ارتبط النقد عندنا بالجامعة أساسًا؛ فجلُّ النقَّاد هم أستاذة جامعيُّون، وقلَّما نجد ناقدًا لم يكن خرِّيج الجامعة. ومعنى هذا أنَّ جودة الناقد كانت مرتبطة بقوَّة التكوين الجامعيّ. وإذا ما انهار هذا التكوين انهارت القيمة النقديَّة.
ولا أظنُّ أنَّ النقد بالمغرب سيستمرُّ في التوهُّج الذي عُرف به. والأسباب واضحة لا يُمْكِن الالتفاف عليها؛ فكلِّيات الآداب التي هي مشتل إنتاج النقَّاد لم تَعُد تستقطب الطلبة المكوَّنين جيِّدًا، بل من لم يُفلح في المراحل ما قبل الجامعة في التفوُّق.
وأغلب هؤلاء الطلبة يُعاني من عدم إتقان الألسن الأجنبيَّة، بل عدم إتقان اللسان العربيّ. ولم يختاروا كلَّيات الآداب حبًّا في الأدب، بل دخلوها اضطرارًا، لأنَّ ضعف تكوينهم لا يسمح لهم بولوج مِؤسَّسات أخرى. وهؤلاء شرعوا في اقتحام المشهد الثقافيّ، وليس لهم من الأداة ما يُتيح لهم إمكان تطوير أنفسهم وفهم النصوص، وقد ضاعف من أزمة النقد الحالية استشراء نزعة التظاهر العلميّ، وقد ساهمت المباريات التي تسمح لحاملي الدكتوراه بالانتساب إلى الجامعة أو الترقِّي في تفاقم سوء الحال؛ حيث صار من لا قدرة له على النقد يُصدر شبه كتب لكي يرفع رصيده من الإصدارات.
ولعلَّ دور النشر غير المتخصِّصة أو التجاريَّة ساعدت على هذا، لأنَّها تُشرط النشر بدفع مبالغ ماليَّة، من دون مراعاة الجودة وإخضاع الأعمال التي تنشرها لتقويم لجان القراءة. والغريب أنّ بعضًا من هؤلاء صار يحكم الجوائز في العالم العربيّ. أمّا المشهد العربيّ فلا أعرفه إلَّا من خلال الكتب التي أطَّلع عليها، فهو لا يكاد يخرج عن التوصيف الذي ذكرتُ.
• بعد كتبك النقدية الستة، هل يشعر عبد الرحيم جيران أن مشروعه النقدي قد اكتمل؟ وما الجديد الذي يشغله حاليا؟
لا يوجد مشروع تامٌّ ومكتمل على نحو نهائيّ، ولهذا فما أصدرته حتى اليوم من كتب نقديَّة لا أعدُّه دالًّا على ما أطمح إليه؛ ففي جعبتي مخطَّطات تنتظر الإنجاز، وأذكر منها: كتابا حول الهوية، وكتابا حول نظرية الأدب، وكتابًا حول التأويل، وهناك مشروع ضخم حول أسس الحكي العربيّ، وهو يتكوَّن من كتب عدَّة، منها كتاب "لمّا تكلم الحكي" الذي أصدرت المجلَّد الأوّل الذي يعالج هوية المدوِّن في ألف ليلة وليلة، وأنا منكبٌّ حاليًا على مراجعة المجلَّد الثاني الذي يعالج الذاكرة المقنَّعة في ألف ليلة وليلة، وما أن أنتهي من المراجعة سأشرع في المجلَّد الثالث حو المعنى في ألف ليلة وليلة. ويتخلَّل هذا بالطبع إنجاز كتب إبداعية في الشعر والرواية والقصَّة القصيرة. ويتوافر لي الآن نصف ديوان بعنوان "الفارس والراقصةّ"، ونصف رواية بعنوان "البندول ودودة القزّ".