«القاهرة ـ كابول».. اتقان عم حسن وخلطة عبد الرحيم كمال
مسلسل "القاهرة ـ كابول" من المسلسلات التي كان ينتظر منها الكثير على مستوى الدراما، ضمن الأعمال الرمضانية لهذا العام، نظرا لتميز مؤلفه عبد الرحيم كمال، ولضم المسلسل عددا من النجوم المميزين.
بدأ المسلسل بتمهيد جيد يوحي بعمل ملحمي بحلقاته الأولى، خاصة المشهد الذي يجمع الأصدقاء الأربعة أبطال القصة بمنزل أحدهم، لكن المسلسل سرعان ما أخذ منحى مختلفا، باتجاه إنساني هادئ بخلاف ما أوحت به الدعاية! طالت المسلسل بعض الانتقادات، خاصة ما يتعلق بالشخصية المحورية، التي نالت الكم الأكبر من سهام النقد المشوب بالسخرية بمواقع السوشيال ميديا، وهي شخصية"عم حسن" التي قام بأدائها "نبيل الحلفاوي".. وهي شخصية لم تُنتقد لسطحية الأداء أو لرداءته، بل لإتقانها الشديد للدور المكتوب، وتجسيد الحالة المطلوب عرضها.
حيث تركزت الانتقادات بسبب وجود شخصية تمتلك هذه السمات بالأساس، شخصية يُرى أنها انتهت فنيا وإنسانيا منذ زمن، شخصية النبيل حامل المشعل.. فلا أبو العلا البشري عاد قادرا على جمع أفراد الأسرة، ولا الأسرة عادت تجتمع بالأساس! وكذلك نمط الحياة الآن لم يعد يسمح بتكوين شخصيات كتلك.
اختار المؤلف عم حسن ليبث من خلاله رسائله عن الحياة والحب والوطن والدين. الرجل الصوفي البسيط صاحب التسليم للسماء، الذي فقد ابنه الشاب في حادث إرهابي، فتخلى عن كل تمسك بماديات الحياة، لكنه يتمسك بالحياة نفسها! مشاهد متكررة تجمع عم حسن بشباب المقهى، أو بجاره الطالب الجامعي الساعي إليه ليسأله فيما اختلط على فهمه استيعابه من أمور السياسة والدين، فيوجه هذا وينصح ذاك ويسترسل كيفما شاء لخياله أن يذهب.. استقبلت هذه المشاهد من الشباب بالأخص بالسخرية والاستهجان، فيصعب وجود مثل هذه العلاقات حاليا، في ظل عصر سيطرت فيه المعرفة الرقمية ووسائط الإنترنت.. كذا تأثر المجتمع المصري بمتغيراته السياسية والاجتماعية، وتشوه علاقة الكبار بالصغار بداخله، يجعل علاقة عم حسن بالشباب عسيرة التشكل في الواقع.. والبادي أن الروابط بين الأجيال المختلفة ضعفت كثيرا، بدء من تجاهل تجربة الكبير وخبرته وحتى السخرية من أفكاره! على صفحات التواصل الاجتماعي، شبكة من السخرية، تنطلق من الجميع باتجاه الجميع، الآن أنت فقط حساب إليكتروني، ويقل الاعتبار للسن أو للحكمة أو ما شابه، فما تمتلكه برأسك يمتلكه جوجل ويفيض، ولا يطرق باب الكبير الآن طالب معرفة.. هنا تزداد صعوبة تقبل الشخصية كمعلم حكيم!.
حتى أن جزء من استقبال العمل الفني تأثر بشخصية بطله الحقيقي "نبيل الحلفاوي" من حيث استعراضه لآرائه في الشأن العام والرياضي عبر موقع تويتر، فاختلط استقبال الشخصية الدرامية بالشخصية المؤدية لها!.
ورغم ما نال شخصية عم حسن من انتقادات، إلا أن المفارقة تكمن في كونه هو ذاته الشخصية ذات السمات الأخلاقية، التي يتباكى على غيابها كثير من منتقديه، ويتمنون لو أن الشخصية المصرية لم يتبدل حالها من التسامح واللين إلى الانغلاق والتقليد والرجعية!.
فالروح الصوفية الغامرة بشخصية عم حسن في تناوله للأشياء والعلاقات، هي ملمح الرضا والتسليم والحس الأخلاقي الذي تلاشى بين الزحام والتطرف.. لكن دوره أوحى بالوصاية والخطابة، مما أحدث نفورا لدى البعض!
ربما ندعو لأفكار أن تسود بيننا، ثم لا نتحمل أن نراها تتجسد أمامنا على الشاشة لدقائق.
عم حسن يقطن بحي السيدة، ومن الوارد أن تقابل في رحاب الأولياء من يحاكيك بكلام غير المعتاد، وللسيدة مجاذيب، وقد انجذبت زوجته ابنة الطبقة الراقية إلى المكان لتقطن معه.. لكن لو ذهب عم حسن خارج ميدانه لمقابلة الند السلفي مثلا، لانتهى أثره على الفور، فلا يستطيع حديث الحب أن يصمد أمام جهامة التزمت، ولا بقاء لسعة المعنى أمام ضيق العبارة. لذا أتى المؤلف بشخصية الإرهابي وبالشباب الساذج إلى المقهى، وليس بالمنظّر الفقهي ليتجنب صداما مؤلما لبطله..
فهو شخص لا يمتلك أسلحة للاشتباك، بقدر ما يدفع الآخرين نحو رحابة العيش.
يحتمي عم حسن بأجواء السيدة، فلو انتقل لحي آخر، لفقد درعه الذي يحتمي خلفه!
وهو ما حدث بالفعل، حينما انتقل بأقواله إلى صفحات الفيسبوك، فصارت مثارا للسخرية على الفور.. وتحولت الحكمة من لوحات الحوائط إلى الصفحات الساخرة.. ينتصر عم حسن في المسلسل، ويخسر بالسوشيال ميديا! لسوء حظه أن الحكمة أيضا في مجتمعنا كلمة منبوذة، فحتى ورودها بالقرآن الكريم، فسرها النقليون بأن معناها هو السنة النبوية، لتُحال من براح الفكر إلى ضيق النص، ولاقى هذا قبولا في النفوس..
هنا يُفضل الزجر والنهي والأوامر على التفكير الحر.. عم حسن هو مواطن تطمئن إلى وجوده، وقد تفرح بأنه ما زال موجودا بالحياة، لكن المساحة الزمنية التى يشغلها صارت عبئا، لأن الكاتب أراد أن يتحدث من خلاله!
والعمل بكل تفاصيله ينضح بروح هذه الشخصية، والتي هي بالتقريب رؤية المؤلف للحياة بحسب ما صرح هو نفسه سابقا.. فكل شخصيات العمل خيِّرها وشريرها، استطاع المؤلف دمجها في إطار رؤيته للحياة، فالإرهابي الذي يقتل بدم بارد، يستعرض المؤلف جانبه الإنساني أكثر من مهاراته الفقهية والجهادية، ويجعل حبه للشعر والموسيقى يشغله عن تعاليم السلف، حتى لربما ورّط المشاهد فى التعاطف معه، بحجب شخصية القاتل المحترف لصالح العاشق المتأمل، أو حين يبكي والدته المتوفاة بأرض بعيدة، أو الأب المغدور بابنه أمامه.. نفس الأمر يحدث مع الإعلامي المتسلق، يجعلك المؤلف تشعر بالأسى عند تعرضه لبعض الإحباطات!
والضابط دائرة علاقاته الإنسانية بجيرانه وأسرته، أكبر من علاقاته المهنية.
صديقهم الرابع الفنان يُقتل بأمر من أحدهم، ربما لأن الواقع أقسى من احتمال وجود الفنان الحالم داخله، فانسحب مبكرا بأمر المؤلف.. ووضع عم حسن بديلا ودليلا للمشاهد دون التورط فى الصراع.
أحال المؤلف الصراع إلى تعايش نسبي، بإظهار جوانب متعددة لأبطاله.. ورسم سمات ضعف إنسانية للشخصيات تخفي حقيقتها.. حتى أن خطة الإيقاع بالإرهابي أمنيا تمت عبر استغلال قصة حبه، فيسقط في قبضة الأمن في لحظة عذبة مع حبيبته، وليس عبر مطاردة مثلا!
رؤية عم حسن للإرهابي مثالا، تتمثل في كونه طفلا لم يقوّم كما يجب، وعقابه ظل مؤجلا منذ بداية الانحراف الفكرى له بطفولته، فلطمه بصفعة متأخرة بعد القبض عليه! نهاية العمل وخواتم الأحداث، يعاد فيها تدوير علاقة الأبطال ببعضهم في دورة حياة جديدة بأثر متغيرات 2011.. بقيت نهاية بها الحد الأدنى من التشفي والانتقام، وبأقل قدر من الحدة والعنف.. ربط المؤلف شخوص العمل بجيرة وقرابة وصداقة، ودماء وموت وحب.. واشترط الصراع ضرورة لبقائهم، تماما كالحياة!.