النفسية فى زمن الوباء.. «أكل العيش» يهزم الخوف
سألنى صديق مقرب وهو يزورنى وأنا على فراش المرض هذا السؤال: لماذا لا يخاف المصريون من كورونا؟
قلت له: لكى أجيب عن هذا السؤال أحتاج إلى إجراء بحث موسع واستطلاع رأى ألف شخص على الأقل فى كل محافظات مصر، ثم أبدأ فى تحليل النتائج والإجابات الصادرة عن هؤلاء الأشخاص، وهذا العمل يحتاج منى إلى شهر على الأقل، وأنا الآن على فراش المرض كما ترى، لأنى أعانى من آثار الإصابة من كورونا.
استوقفنى صديقى وقال لى: أريد منك إجابة سريعة، إجابة بحكم ما تشاهده أنت فى الشارع وتهاون الكثيرين فى الإجراءات الاحترازية.
فقلت لصديقى: ماذا الذى يدفعك لتسألنى هذا السؤال؟
قال لى صديقى إنه لاحظ حالة من الاستهتار فى أغلب الأماكن التى يتردد عليها.. لا أحد يرتدى الكمامة.. لا يوجد تباعد اجتماعى.. القهاوى ممتلئة عن آخرها.. الشيش فى كل مكان.. الولائم والعزومات والتجمعات فى كل مكان.. والأسر والأطفال فى الأندية والمولات أغلبها لا يتبع الإجراءات الاحترازية والزحام فى العيادات.
وتابع: اختفت حالة الهلع والخوف الشديد والحرص والحذر التى كانت موجودة العام الماضى واستبدلت بحالة من التبلد والاستهتار، رغم أن صفحات «فيسبوك» انقلبت إلى صفحات تعازى ووفيات ونعى كل يوم لقريب أو صديق بسبب كورونا، إلا أن هذا لم يعد يخيف المصريين من هذا الوباء، ويتم التعامل معه باستهتار.
قلت له: لا أستطيع أن أبنى إجابتى على التعميم، فالتعميم آفة من آفات التفكير.
اعترض صديقى وقال لى: إذن تريد أن تقول لى إن المصريين يخافون من كورونا وملتزمون ويتبعون الإجراءات الاحترازية والتزموا بالحصول على اللقاح.
قلت له: سأقف عند آخر كلمة من كلامك، وهى اللقاح، وسأبنى عليها إجابتى، فقال لى: ولماذا بالتحديد «اللقاح».. قلت له: لأن عدد من سجلوا للحصول على اللقاح وعدد من حصلوا عليه رقم معلوم ومعلن، ومن خلال هذا الرقم أستطيع أن أحلل وأفسر وأقارن بين هذا الرقم وبين دول أخرى، بجانب أننى شخصيًا حصلت على اللقاح فأستطيع أن أتكلم عن تجربتى دون تعميم.
واستكملت كلامى، إلى صديقى، وقلت له: عدد الذين سجلوا وتلقوا التطعيم سيكون مؤشرًا جيدًا لى لمعرفة هل فعلًا لا يخاف المصريون من كورونا؟
قلت لصديقى: بدهيًا معلوم ومعروف أن اللقاح يوفر حماية ووقاية من الفيروس، فأجاب صديقى: نعم معلومة معروفة لغالبية العامة.. وأكمل بالعامية «زى ما طعمنا ولادنا كلهم ضد شلل الأطفال والحصبة والدرن».
فأوقفته وقلت له: اذكر لى عدد من حصلوا على تطعيم كورونا حتى الآن.
فبحث سريعًا فى محرك البحث «جوجل» فظهر هذا الخبر على موقع قناة «سكاى نيوز» الإخبارية بتاريخ ٤ أبريل، أى منذ نحو شهر، وكان نص الخبر كالآتى:
«أعلنت وزيرة الصحة المصرية هالة زايد تلقِّى ١٤٨ ألفًا و٩٨٧ من الأطقم الطبية، والمواطنين من الفئات المستحقة، لقاح فيروس كورونا المستجد حتى السبت، فى إطار خطة الدولة للتصدى للجائحة».
ثم طلبت منه البحث عن أخبار أقرب أو مواقع أخرى تذكر عدد من تلقوا اللقاح، فوجد «جوجل» يقدم خريطة وإحصائيات لعدد من تلقوا اللقاح حول العالم ويتم تحديثها كل يومين.
وهذه صورة لمن يحب الاطلاع، والإحصاء تشير إلى أن هناك ٦٦٠ ألف جرعة تم إعطاؤها من اللقاح، والمعروف أن هناك جرعتين يتم إعطاؤهما من اللقاحات المتواجدة فى مصر، وأوضح الإحصاء أنه حتى الآن عدد قليل جدًا هو من حصل على الجرعتين.
يعنى حتى الآن الرقم لا يصل إلى واحد فى المئة من الشعب، وهذا مؤشر مبدئى على احتمالية أن المصريين لا يخافون من كورونا ولا يسعون للحصول على اللقاح الذى هو السبيل الوحيد حتى الآن ليقيهم منها.
قال لى صديقى: أخيرًا وصلنا لنقطة الاتفاق، وأحتاج منك إلى تحليل وربط بين عدم إقبال المصريين على اللقاح وبين عدم خوفهم من كورونا.
تفسيرات كثيرة، أهمها ما تذكره مراجع علم النفس الاقتصادى وهو أن العامل الاقتصادى يلعب دورًا مهمًا فى تصرفات وسلوكيات المواطن عن الأزمات، خاصة الأوبئة العالمية.
وهذا ملخص لإحدى الدراسات الحديثة، حيث تبين أن الدول النامية والدول الفقيرة مثل البلدان الإفريقية ذات الهياكل الصحية الضعيفة قد تأثرت بشكل كبير مقارنة بالدول المتقدمة.
صديقى قال لى: كلام الأبحاث معقد أريد تبسيطًا، فقلت له: بالبلدى كده «الناس نازلة تدور على أكل عيشها وخايفين يموتوا من الجوع ومش مركزين فى كورونا»، بكى صديقى وقال لى: لقد ظلمت الناس واعتقدت أنهم مستهترون، ولكن ماذا عمَّن يقيمون الولائم والعزومات الفاخرة ويحضرون الحفلات فى الكمبوندات الفاخرة؟
قلت له: هؤلاء أيضًا كانوا يعيشون نمط حياة معينًا، أو كما يقولون «لايف ستايل» معين، ولكن الفيروس أثر على رفاهيتهم واستمتاعهم بالحياة، ومنهم من فكر فى الانتحار بسبب تغيير نمط حياته، فقرر العيش فى مرحلة إنكار كورونا، والتعامل معه على أنه انتهى وأن يعيش حياته كما هى حتى لو مات.. العيش فى خوف بالنسبة لمن يحبون الحياة هو الموت.
قال لى صديقى: وما العمل؟
قلت له: نحتاج إلى إعلام طبى حقيقى فى مصر يستطيع توعية الناس وطمأنتهم دون خوف، ونحتاج إلى خطاب دينى متجدد مناسب لهذه الأزمة، مقنع للناس يريح القلوب ويزيد إيمانهم بالله، عز وجل، ويجعلهم يلتزمون بطرق الوقاية.
ختم صديقى كلامه بجملة: «يعنى لا الغنى مرتاح ولا الفقير مرتاح».. فطلبت منه أن يتركنى لأنى مجهد بشدة وما زلت أعانى من آثار كورونا.