فقه بني إسرائيل (6).. آمنوا بالإله واختلفوا على التلمود.. كيف تنظر الفرق اليهودية إلى العقيدة؟
العقيدة اليهودية لها عناصر ثابتة هي: التوحيد، وفكرة شعب الله المختار، والإيمان بأن الرسالة اليهودية العالمية هي نشر السلام بين بني الإنسان، وانتظار المسيح المخلص، والمبادئ الـ13 للدين اليهودي، التي ذكرها موسى بن ميمون، والتي تمثل مرجعًا أساسيًا لـ"بني إسرائيل" لفهم دينهم، العقيدة ثابتة لكن معتنقيها ليسوا كذلك، فاليهود وعلى مدى مراحل الزمن المختلفة انقسموا واختلفوا فيما بينهم، وبشكل مجمل فقد اتفقوا على الإيمان بالله ولكنهم اختلفوا على الشعائر أو بشكل أدق على "التلمود".
تاريخ الديانة اليهودية ممتلئ بالفرق اليهودية القديمة من أبرزها: الفريسيون، الغيورون، الصدوقيون، الإسينيون (أو الأساة أو المتقون)، البناءون، المعالجون (ثيرابيوتاي)، المغارية، عبدة الإله الواحد، القراءون، الكتبة، بحسب المراجع اليهودية فإن تلك الفرق القديمة لم يعد لها وجود حالي.
هناك الفرق المعاصرة التي لا تزال موجودة مثل اليهودية الأرثوذكسية (والتي تضم اليهودية الحريدية واليهودية الأرثوذكسية الحديثة)، وهي أكبر الحركات الدينية اليهودية، واليهودية المحافظة واليهودية الإصلاحية.
نشأة الفرق اليهودية المعاصرة
بعد هجرة اليهود إلى أوروبا، تعرضوا للاضطهاد من قبل المسيحيين بمزاعم أنهم هم الذين قتلوا السيد المسيح، وعلى أساس هذه الفكرة أنشأ اليهود الجيتو، حيث كان عليهم أن يعيشوا في أماكن خاصة بهم، ولا يحق لهم العيش في مناطق المسيحيين.
لقد كان على الفرد اليهودي الخضوع لمقررات سلطة ذلك الجيتو المتمثلة بالحاخام أو مجلس الربابنة وهم علماء اليهود المسمى ببيت الدين، ولم يكن بإمكان الفرد اليهودي الخروج عن هذا النظام، وإلا سيتعرض لمصادرة جميع أملاكه وربما القتل، وهذا ما جعل اليهود يعيشون حالة العزلة والانفصال عن المجتمعات من حولهم.
عندما بدأت الثورة الفرنسية في القرن السابع عشر والثامن عشر، بدأ فعليًا عصر التحرير اليهودي وكان أساسه وثيقة حقوق الإنسان التي أصدرتها الثورة، والتي تؤكد أن كل المواطنين الفرنسيين لهم كل حقوق المواطن وعليهم جميع واجباته، وبعد ذلك استمرت إجراءات التحرير في بقية دول أوروبا حتى سنة 1870، حيث حُرر جميع اليهود.
الحالة الاجتماعية الجديدة لليهود، فرضت عليهم العديد من التحديات والمشاكل الجديدة التي ينبغي مواجهتها، ومن هذه المشاكل ، كان أن تحرير اليهود كان ضمن الاتجاه العلماني في الغرب، وإقصاء الدين من الحياة، ولكن الفكر اليهودي كان لا يزال يرى السياسة أو الاجتماع أو غيرها من مجالات الحياة غير منفصلة عن الدين.
المشكلة الثانية كانت أن الفرد اليهودي قبل التحرير كان يعيش ضمن نظام الجيتو كعضو منتسب، وأما بعد التحرير فكان عليه أن يعيش كعضو في الأمة القومية والبلد الذي يعيش فيه، وهذا بالتالي سوف يؤدي إلى انصهاره في ذلك الشعب، وهو ما سبب بعض المخاوف لليهود من الاندامج وأنصهار اليهود داخل المجتمعات.
المشكلة الثالثة كانت أن اختلاط اليهود بالمسيحيين جعلهم يواجهون مشكلة أخرى تتعلق بسبل العيش مع النصارى من حيث المأكل والمشرب والطهارة والزواج وغيرها من الأمور التي كانت تشكل مشكلة للفرد اليهودي.
أما المشكلة الرابعة، فكانت مشكلة الكتاب المقدس، حيث تعرض الفكر الديني اليهودي والمسيحي في القرن التاسع عشر للنقد العلمي على أثر الاكتشافات التاريخية والآثار، بالإضافة إلى انتشار الفكر العقلاني، فأصبح الكتاب المقدس مشكلة محل نقد.
وعلى أثر تلك المشاكل برزت الفرق اليهودية الجديدة حيث تبنت كل فرقة محاولات لحل لتلك المشاكل.
تشابهات واختلافات
الاختلافات الرئيسية بين هذه المجموعات هي مقاربتهم للقانون اليهودي، وأهمية دولة إسرائيل، حيث ترى اليهودية الأرثوذكسية أن التوراة والشريعة اليهودية إلهية في الأصل، وأبدية وغير قابلة للتغيير، وأنه ينبغي إتباعها بصرامة.
بينما تُعتبر اليهودية المحافظة والإصلاحية أكثر ليبرالية، فيما تعزز اليهودية المحافظة بشكل عام التفسير الأكثر تقليدية لمتطلبات اليهودية بالمقارنة مع اليهودية الإصلاحية.
أما الإصلاحية فترى أنه يجب النظر إلى القانون اليهودي على أنه مجموعة من المبادئ التوجيهية العامة وليس كمجموعة من القيود والواجبات التي يتطلب احترامها من جميع اليهود.
اليهودية الأرثوذكسية
اليهودية الأرثوذكسية وهي أكبر الحركات اليهودية الآن، تعترف بكل التوراة والتلمود، وتقبل كل القوانين اليهودية، وتعتقد أن الله أوحى بذلك كله إلى موسى مباشرة في جبل سيناء.
وأهم مبادئها أن الدين اليهودي ليس عقيدة كما هو الحال في المسيحية، والخلاص أو الفلاح ليس بالإيمان بل بالعمل، فالدين اليهودي نظام حياة قبل أن يكون عقيدة دينية.
وترى الأرثوذكسية أن مصدر التوراة هو الله فهو صانعها ومؤلفها وكاتبها حرفًا بحرف، وكذلك التوراة الشفهية التي دونت في ما بعد في التلمود، وتؤمن بأن التوراة أزلية تطبق على مدى العصور وفي جميع الأمكنة بدون أي تغيير أو تبديل ، ومن أهم طوائفها الحريديم الذي ينقسمون إلى "الحسيديم والليتوانيين".
اليهودية الإصلاحية
اليهودية الإصلاحية بدأت مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، إذ شكك بعض اليهود في كيفية ظهور الكتب المقدسة، وانتهوا إلى أن التلمود عمل بشري غير موحى به، ومن ثم ضعفت مصداقيته لديهم.
ولا يؤمن الإصلاحيون إلا بالتوراة، ويعتقد الإصلاحيون أن التعاليم الأخلاقية والسلوكية أهم أجزاء اليهودية، ولا يولون أهمية للطقوس، وفي عام 1880م عقد مؤتمر الإصلاحيين في مدينة بيشبرغ، عرض فيه مبادئ اليهودية الإصلاحية ليتبناها المؤتمر كدستور نهائي لحركة الإصلاح، وهم ثمانية مبادئ: إن الكتاب المقدس هو أعظم وثيقة خلقها الإنسان، والكتاب المقدس وثيقة يسجل فيها الشعب اليهودي نفسه لتحقيق رسالته ككاهن للإله الواحد، ولا صلاحية ضرورية لأي شيء في الكتاب المقدس سوى القانون الأخلاقي والشعائر التي تقدس الحياة، وأما التشريعات المخالفة للعصر فهي مرفوضة، ولا يقام أي وزن للتشريعات اليهودية في المأكل والمشرب أو في ملبس وطهارة الكهنة.
كما نظروا لمعتقد المسيح المنتظر التقليدية كنظرية للأمل الإنساني العالمي لتحقيق الحق والعدالة والسلام بين البشر جميعًا، كما ينظرون إلى الدين اليهودي كدين يسعى لموافقة مبادئه وأركانه مع مفترضات وملزمات العقل.
مع الاحتفاظ بمبدأ أزلية الروح ينكر المؤتمر المبدأ القائل ببعث الأجساد وبالعذاب بعد الموت، عملًا بروح التشريع الموسوي "نسبة على موسى عليه السلام"، فإن المؤتمر هو مساهمة في الواجب الكبير لحل مشاكل العالم الحديث الاجتماعية على ضوء العدالة، وهو أمر لازم على جميع الإصلاحيين.
اليهودية المحافظة
اليهودية المحافظة (التراثية) نشأت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ورغم إيمانهم بالتوراة والتلمود، إلا أنهم ذهبوا إلى وجوب تفسير النصوص المقدسة في ضوء المعارف العلمية الحديثة والثقافة المعاصرة، وهم كاليهود الإصلاحيين لم يهتموا كثيرًا بالطقوس، ولكنهم يمارسون العادات.
المحافظون قبلوا التغيير، ولكن ليس على نطاق واسع بحيث يؤدي إلى إلغاء التوراة والتلمود من الحياة، فهم خالفوا الإصلاحيين من ناحية إلغاء الإصلاحيين للتوراة، وخالفوا الأرثوذكس من ناحية أنهم وافقوا وقبلوا بتغيير بعض الأمور.
إن المرجع في قبول شيء عندهم هو إجماع الملة اليهودية، وهذا الإجماع كافٍ في إعطاء ذلك الشيء قداسة وشأنًا ومنزلة وإن كان ذلك الشيء ليس سماويًا، ومن مبادئ اليهودية المحافظة أنه لا بد من إقامة الصلوات والوعظ باللغة التي يفهمها المصلون، ويجب حذف القراءات المطولة، وأناشيد معينة من الصلاة وجعل الطقوس الأخرى بشكل رزين يتفق مع التعبد، كما أنه يجب التقيد بقوانين الطعام، والطقوس السبتية لكي يدخل الدين إلى الحياة العائلية.
وتنظر اليهودية المحافظة إلى الأمة اليهودية كشعب يعرف نفسه كثالوث يتألف من الشعب الإسرائيلي والتوراة والإله، فهذه المقومات متساوية ولا يتصور أحدها بدون الآخر، فالتوراة والتلمود وإن لم يكن سماويًا ولكنه للإجماع عليه يمثل أحد مقومات الدين اليهودى، وأن أي تغيير لا بد أن يتم بناء على دراسة التاريخ اليهودي واستخراج المعاني والقيم التي حققها السلف لكي يعاد صياغتها بشكل جديد يتناسب مع العصر.