بعد حصده جائزة زايد.. سعيد المصرى يكشف استغلال الإسلام السياسي للتراث فى نشر الفتن
حصد كتاب "تراث الاستعلاء.. بين الفولكلور والمجال الديني"٬ للباحث الدكتور سعيد المصري، جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع التنمية وبناء الدولة 2021، في دورتها الخامسة عشرة.
ويذهب مؤلفه أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة، والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة، إلى أن ملامح تراث الاستعلاء تبدأ داخل التراث الشعبي بصور التمييز الثقافي بين البشر؛ حسب خصائصهم وانتماءاتهم والتعالي على الآخرين بمقتضى اختلافهم، ومع ظهور التمايزات الاقتصادية الحادة تنشأ صور من الاستعلاء تميز بين الناس على أساس المكانة والحظوة الاقتصادية.
ويصل التمييز الثقافي إلى أقصاه في حالة الاستعلاء الديني، في حين تتولى حركات دينية تأصيله من قلب التراث الديني وتفعيله في الواقع بالقوة والوصاية الدينية أملا في استعادة مجتمع متخيل ليس له حدود.
وحول ملامح تراث التعصب الديني المتبادل بين المسلمين والأقباط، يؤكد “المصري” أنه نظرا لوجود قواسم مشتركة في الثقافة الشعبية المصرية بين المسلمين والمسيحيين٬ فإن حدة الفجوة بين الطرفين حديثة نسبيا٬ وقد ازدادت عمقا في السنوات الأربعين الأخيرة مع انتشار تيارات الإسلام السياسي بعمق داخل المجتمع المصري.
وأوضح أن الكتاب يدعو إلي ضرورة التخلي عن النظرة التي ميزت الحقبة الماضية في دراسة التراث الشعبي العربي، والتي اتسمت بثلاث زوايا لا تخلو من التطرف الفكري، أولها الإدانة المطلقة لكل عناصر التراث الشعبي. والزاوية الثانية تمثلت في التمجيد المطلق لكل عناصر التراث الشعبي باعتباره قلب الأمة النابض بالحياة وجوهر هويتها والمصدر المطلق للحكمة الإنسانية، وتمثلت زاوية النظر الثالثة في الوقوف علي الحياد من خلال جمع عناصر التراث بطريقة علمية صارمة، بصرف النظر عن قيمته ومحتواه؛ بمعنى عدم الحكم القيمي على التراث لا بالإيجاب ولا بالسلب.
وخلافًا لهذه الزوايا الفكرية الثلاث: «أحاول في هذا الكتاب أن اتخذ مسارًا مختلفًا بالدعوة إلى ضرورة تطوير التراث الثقافي العربي، وأقصد بتلك الدعوة ضرورة الاهتمام العلمى بالتراث الثقافي من واقع أولويات التقدم والتنمية، ذلك أن الأولويات التنموية تفرض علينا ضرورة التخلص من المشكلات الاجتماعية المزمنة كالفقر، والاستبعاد الاجتماعي، وعدم المساواة، وفجوات العدالة الاجتماعية، وحول هذه الأولويات ينبغى أن تتجه عيون البحث العلمى الدقيق إلى التنقيب داخل التراث الشعبى لفهم حدود التشابك والتضافر العميق بين كثير من هذه المشكلات، وعناصر التراث الشعبى المعززة لها، بموجب تلك الدعوة الجديدة يتعين النظر إلى محتوى التراث الشعبي، ليس بوصفه كيانًا متجانسًا، وإنما مصدر للتنوع الثقافي بكل ما ينطوي علي ذلك من ثراء وتعدد في زوايا النظر إلى الحياة والقيم الإنسانية المرتبطة بها».
وأكمل: «فى هذا الإطار حاولت الخوض في عملية تطوير التراث الشعبي بأن ركزت على دراسة موضوع الاستعلاء باعتباره يمثل كل عناصر التراث اللامادى المعززة للتمييز بين البشر بحسب خصائصهم وانتماءاتهم. وفي تقديري أن تراث الاستعلاء يمثل أكثر جوانب التراث اللامادي تأثيرًا فى تفاقم الصراعات الاجتماعية القائمة على روح التعصب والتطرف والكراهية. والاستعلاء قائم في كثير من الثقافات الإنسانية فى كل أنحاء العالم، وليس قاصرًا علي المجتمعات العربية، بموجب وجود قدر ما نسبي من التعصب فى النظرة للآخرين كامن في كل الثقافات الإنسانية بصورة أو بأخرى».
وأستطرد: «حاولت في هذا الكتاب أن أحدد ثلاثة أنماط من الاستعلاء، أولها ما يطلق عليه مفهوم "الاستعلاء البدائي"، ويقصد به صور التمييز الثقافي المرتبطة بالخصائص الاجتماعية، والتي تنتشر بصورة تلقائية فى ظل أنماط من الحياة البسيطة التى تحتل فيها قيم الذكورة والفحولة والعشائرية والإثنية أهمية كبيرة فى حياة البشر، والنمط الثاني يطلق عليه "الاستعلاء الطبقي"، والذي يميز بين الناس فى الحقوق والواجبات على أساس المكانة والحظوة الاقتصادية، والنمط الثالث يعرف بـ"الاستعلاء الديني" المرتبط بالاختلافات الدينية، والذي يمثل أشد أنماط الاستعلاء خطورة على الاستقرار والسلام الاجتماعي، خاصة حين يصبح الانتماء لدين معين مبررًا للتمييز فى الحقوق والواجبات بين البشر وإقصاء المختلف، وقد شاع هذا النمط من الاستعلاء الديني داخل الحركات الدينية في عالمنا العربي فيما يعرف بحركات الإسلام السياسى.
وقال: «على ضوء ذلك، ينقسم الكتاب إلى سبعة فصول: يعرض الأول قراءة نظرية حول مفهوم التمييز الثقافى والمفاهيم المرتبطة به، وكذلك المداخل النظرية لتفسير صور التمايز فى التراث اللامادى، والثقافة المجتمعية السائدة. وفى الفصل الثانى تحليل لصور التمييز الثقافي، من واقع دراسة ميدانية للتراث الشعبي المصري، حيث ركزت الدراسة على الصور النمطية السلبية المعبرة عن التمييز الثقافى عبر كل التباينات الاجتماعية النوعية والعمرية والطبقية والجغرافية والدينية والعرقية والجسدية. ويتناول الفصل الثالث طبيعة الفجوة الراهنة بين التعليم والتراث الثقافى، وجذورها التاريخية والعوامل التى ساهمت فى تفاقمها، خاصة فى ظل العلاقة الملتبسة بين التراث الشعبي والتراث الدينى.
ويقدم الفصل الرابع عرضًا نظريًا حول فكرة المجتمع المتخيل وآليات تفعيلها فى الواقع، وهى الفكرة التى تكمن خلف معنى الاستعلاء الدينى، يلى ذلك تحليل ديناميكية مشروع حركات الإسلام السياسى فى سعيها إلى تكوين مجتمع إسلامى جديد، وطبيعة هذا المجتمع ومسارات الوصول إليه، وتقييم حصاد تجربة الإسلام السياسي في عملية استعادة الماضى من قلب التراث الثقافى الإسلامى القديم».
ويرصد الفصل الخامس السياقات المرتبطة بتفعيل فكرة المجتمع الإسلامى المتخيل في البادية، وتطور الحركة الإسلامية، وتأثيرها في أسلمة المجتمع البدوى والسيطرة على القضاء العرفي، والتي نتج عنها تأسيس القضاء الشرعي، كنمط من الحكم، يقوم على فض المنازعات بتطبيق نصوص من الشريعة الإسلامية. ويركز الفصل السادس على تحليل الوضع الراهن للمؤسسات الدينية فى مصر، ورغبتها فى السيطرة على المجال الدينى، والصعوبات التى تواجه الدولة فى إعادة تنظيم الشأن الديني بصفة عامة.
وفى الفصل السابع عرض لطبيعة الجدل السائد حول تجديد الخطاب الدينى، وطرح رؤية مقترحة لإعادة صياغة الفكر الديني وفقًا لأولويات يتم بمقتضاها تجاوز الاستعلاء الدينى الذى هيمن على المجال الديني ككل.
حاول هذا الكتاب أن يعرض لتراث الاستعلاء بأبعاده وإشكالياته المختلفة، وأن يفتح بذلك المجال لطرح إشكاليات تطوير التراث على مصراعيها. والأمل معقود فى أن يثير الكتاب النقاش حول تطوير رؤى جديدة للتراث ذات أبعاد إنسانية، قادرة على تجاوز الانقسامات والصراعات الاجتماعية، وقبل هذا وذاك، أن تكون محاولات تطوير التراث قادرة على تجاوز ثنائية الإدانة والتمجيد، والنظرة الصارمة فى الوقوف على الحياد. لكى لا نترك أمر التراث خلفنا أداة للتلاعب السياسي الذي يؤجج الصراعات الاجتماعية والتطرف والكراهية فى عالمنا العربى.
وأوضح أن الكتاب صدر في أواخر عام ٢٠١٩ واستغرق إعداده سنوات طوالًا، ذلك أن بعض فصول الكتاب كتبت منذ سبعة عشر عامًا وبعضها الآخر منذ ثلاثة عشرة عامة، وبعض الفصول كتبت في الفترة من ٢٠١١ وحتي صدور الكتاب مؤخرًا في ٢٠١٩، لافتًا إلى أن هذا مشروع أعمل عليه ولم أكن أتصور أنه سوف يكتمل مؤخرًا بعنوانه الراهن.
وأكد على أن هناك تراجعًا كبيرًا في حركة الاهتمام بدراسة التراث الشعبي في الفترة الحالية، ليس على مستوي مصر فحسب وإنما على مستوى العالم العربي، رغم ما بذله جيل الرواد من إسهامات بارزة في تأصيل مناهج علمية دقيقة في دراسة التراث، وتأسيس مؤسسات معنية بتعليم التراث ودراسته خرجت أجيال يعملون في هذا المجال، المشكلة تكمن في أن الاهتمام بدراسة التراث الشعبي ما زال حبيسًا في الأفق الوضعي القديم القائم علي دراسة التراث دون الجرأة علي تفنيده ونقده، والانغلاق أيضًا في أفق الدوران حول التراث واعتباره كتلة واحدة متجانسة، ونحن بحاجة الي أمرين مهمين: أولًا إعادة تقييم تجربة الرواد السابقين فيما حققته من إنجازات وفيما نتج عنها من سلبيات، ثانيًا: البدء في مناقشة جادة وأمينة لمفهوم تطوير التراث الشعبي بحيث لا يتم الاكتفاء بدراسته بحياد فقط، وإنما الخوض بجرأة وبقدر كبير من العلمية في نقد جوهره، وحسم إشكالية الفروق الجوهرية بين ما هو سلبي وما هو إيجابي في التراث دون الوقوع في براثن الانحيازات الدينية والعرقية والسياسية، بحيث لا يكون انحيازنا في التفرقة بين ما هو سلبي وما هو إيجابي إلا وفقًا لأولويات الاهتمام بالحياة الإنسانية، وسعادة البشر وتعايشهم رغم الاختلاف، وتحسين نوعية حياتهم وصون كرامتهم الإنسانية.