أزمة القطاع الصحي بفرنسا.. أبرز التحديات أمام ماكرون بعد كورونا
في الوقت الذي بدأت فيه فرنسا العودة تدريجيًّا إلى الحياة الطبيعية بعد انحسار وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد- 19" نسبيًّا، خرج الأطباء والممرضون ومختلف الطواقم الطبية للتظاهر في العديد من المدن الفرنسية لمطالبة الحكومة بتنفيذ وعودها المتعلقة بتعزيز الإمكانيات المالية والبشرية لقطاع الصحة.
وأسفرت تلك الاحتجاجات عن وقوع صدامات بين قوات الشرطة الفرنسية والمحتجين في العاصمة الفرنسية باريس، حيث أطلقت الشرطة القنابل المسيلة للدموع بعد أن قذف متظاهرون بزجاجات وحجارة على الشرطة مع تفجير ألعاب نارية.
وجاءت هذه المظاهرات، التي تعد الأولى من نوعها منذ ثلاثة أشهر، بدعوة من نحو عشر نقابات عمالية وممثلين عن قطاع الصحة، للضغط على الحكومة لتنفيذ وعودها التي أعلنت عنها خلال أزمة "كورونا"، والمتمثلة في تعزيز الإمكانيات المالية والبشرية لقطاع الصحة الفرنسي، من خلال وضع "خطة جديدة للتوظيف" مع "رفع الأجور" بين 300 إلى 400 يورو، إضافة إلى وقف سياسة "غلق المستشفيات والمراكز الصحية".
في هذا السياق أكد الأمين العام لاتحاد نقابات فرنسا، فيليب مارتينيز، أن المطالب تتركز على توفير مزيد من الطواقم الطبية والموظفين والموارد المادية، داعيًا إلى إعادة فتح المستشفيات التي تم إغلاقها، ومتسائلًا في الوقت نفسه عن حجم الإمكانات المادية التي ستقدمها الدولة.
ورفع المتظاهرون لافتات كبيرة كُتب على إحداها "رفع المعاشات، رفع عدد الموظفين، رفع عدد الأسرّة"، وهي لافتة تجمع المطالب الأساسية التي تشترك فيها أغلب النقابات والجمعيات، ولافتات أخرى كُتب عليها "الشعب يقف مع موظفي الصحة" و"لن نكتفي بوعود"، "زيادة فورية في الرواتب". ووعد منظمو هذا الحراك بتنظيمه مجددًا خلال أيام الثلاثاء من الأسابيع المقبلة في حالة عدم استجابة الحكومة لمطالبهم.
وتتزامن هذه المظاهرات، والتي أطلق عليها "ثلاثاء الغضب"، مع الاجتماعات التي تعقدها الحكومة الفرنسية منذ 25 مايو الماضي مع ممثلين من قطاع الصحة فيما يسمى بـ"سيغور الصحة"، والتي تهدف إلى إعادة بناء نظام صحي قوي، وتحسين ظروف عمل الطواقم الطبية. ويُتوقع أن يتم الكشف عن القرارات الأولى التي ستنبثق عن هذا الحوار الشهر المقبل.
وأكد وزير الصحة الفرنسي، أوليفيه فيران، أن المشاورات تسير على نحو جيد، مشيرًا إلى أن أكثر من "100 اجتماع تم عقدهم في فرنسا منذ إطلاق حوار سيغور"، موضحًا "موظفو قطاع الصحة سيحصلون في الشهر المقبل على إجابات عن جميع الأسئلة التي طرحوها والمطالب المشروعة التي عبروا عنها".
ولكن يبدو أن هذه المشاورات لا تحظى بقبول من قبل بعض النقابات وممثلي قطاع الصحة، وهو ما ظهر بوضوح خلال مظاهرة أمس أمام مقر وزارة الصحة في باريس، حيث شدد المحتجون على أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، ما دفع عددًا من النقابات إلى الانسحاب منها لاقتناعهم بأنها لا تهدف إلى "إيجاد حلول حقيقية لقطاع الصحة" فضلًا عن افتقادها إلى "خطة محكمة" وإلى "الشفافية الضرورية" في إدارة الاجتماعات.
وجاءت هذه المظاهرات بعد خطاب ألقاه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مساء الأحد الماضي أشاد خلاله بـ"أول انتصار" لفرنسا على فيروس كورونا، الذي أصاب نحو 158 ألف شخص وأسقط نحو 30 ألف حالة وفاة في فرنسا، معلنًا تخفيفًا جديدًا في تدابير الإغلاق يشمل إعادة فتح المقاهي والمطاعم الباريسية بكامل طاقتها الاستيعابية، فضلًا عن إعادة فتح الحدود مع الدول الأوروبية بدءًا من الإثنين الماضي، ومع باقي دول العالم بدءًا من الأول من يوليو المقبل.
وأكد ماكرون، خلال خطابه الرابع منذ بداية أزمة فيروس كورونا في مارس الماضي، أن الحكومة أنفقت "500 مليار يورو" لمواجهة هذه الأزمة غير المسبوقة، مستبعدًا زيادة الضرائب لتغطية نفقات مكافحة الأزمة، مشيرًا إلى أنه "ليس هناك ما يدفعنا للخجل من حصيلتنا"، وذلك في ضوء الانتقادات التي تعرّضت لها الحكومة مرارًا على خلفية إدارتها للأزمة.
ووفقًا للمراقبين أظهرت هذه الأزمة الصحية غير المسبوقة، التي تسبب بها وباء كورونا في فرنسا، ضعف استعداد النظام الصحي الفرنسي للتعامل مع الأزمات الطارئة، إذ بدا واضحًا افتقاره إلى البنية التحتية، مثل عدد الأسرّة والعاملين في وحدات العناية المركزة، فضلًا عن قلة المعدات والموارد التي توفرها الحكومة لموظفي القطاع الصحي، مثل اختبارات الإصابة بالفيروس.
إضافة لذلك لم تتمكن السلطات الفرنسية، خلال الأسابيع الأولى من الوباء، من تزويد العاملين بالمستشفيات والمراكز الطبية ودور العناية بالمسنين بما يكفي من كمامات وغيرها من المستلزمات الوقائية الضرورية لأداء عملهم في ظل هذه الظروف الطارئة، وهو الأمر الذي دعا العديد من الأفراد والجمعيات إلى تقديم دعاوى ضد الحكومة لتعريضهم حياة الأطباء والممرضين، وكذلك حياة المرضى للخطر.
وحتى قبل ظهور أزمة كورونا، كان هناك احتجاجات دائمة لسياسة الحكومة التقشفية في القطاع الصحي، والتي قلصت خلالها الموارد إلى مستواها الأساسي. وفي ديسمبر الماضي، هدد أكثر من 600 طبيب بالاستقالة احتجاجًا على عدم منح الحكومة التمويل الكافي لنظام الرعاية الصحية في البلاد، محذرين من "موت المستشفيات" في فرنسا، موضحين أن خفض ميزانية المؤسسات الطبية وتقليص عدد موظفيها والأماكن المخصصة للمرضى فيها يدفع نظام الرعاية الصحية، الذي كان يعد قبل سنوات بين الأفضل على مستوى العالم، إلى حافة الانهيار ويعرض أرواح المرضى للخطر.
وطالب الأطباء حينذاك الحكومة بإطلاق مفاوضات عاجلة معهم وزيادة الإنفاق على قطاع الصحة، وذلك بعد تسعة أشهر من "مظاهرات المستشفيات" التي انطلقت في مارس 2019 وحركات الإضراب التي توسعت رقعتها تدريجيًّا، في جميع أنحاء فرنسا للمطالبة بتحسين الأوضاع، وشملت أكثر من 20 فئة، أبرزها الإسعاف والممرضون وموظفو الاستقبال والأطباء ومساعدو المرضى. وكان من بين مطالب حركة الإضراب هذه "الاعتراف بخصوصية العمل في هذه الخدمات (الطوارئ)، والمطالبة بمزيد من الموظفين والموارد".
في ضوء ما سبق، يبدو أن أزمة القطاع الصحي ستشكل مأزقًا مهمًّا أمام الرئيس ماكرون في النصف الثاني من ولايته الرئاسية لا سيما بعد الأهمية الملحوظة التي أصبح يحظى بها في أعقاب تفشي "كورونا"، كما أنها ستشكل تحديًا جادًّا أمامه خلال اختبار الانتخابات البلدية الذي يخوضه نهاية الشهر الجاري، والذي سيسهم بدرجة كبيرة في تشكيل ملامح المشهد السياسي الفرنسي خلال الفترة المقبلة.