رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على هامش دفاع مرتزقة قطر عن أردوغان..

محمد الباز يكتب: لم يكن فتحًا عثمانيًا أبدًا.. بل كان احتلالًا

محمد الباز
محمد الباز

- حديث فتح القسطنطينية ضعيف.. ومحمد الفاتح خالف الإسلام فى تحويل كنيسة «آيا صوفيا» إلى مسجد


تُجيد دار الإفتاء المصرية بقيادة الدكتور شوقى علام عملها فى البحث والرصد والتدقيق والتحقيق، لكنها لا تجيد خوض المعارك دفاعًا عما تصل إليه من آراء ومواقف.
سيطرت علىّ هذه الفكرة وأنا أتابع ما جرى بعد القنبلة التى فجّرتها دار الإفتاء فى بيانها الذى صدر يوم الأحد 7 يونيو، وعرضت فيه ما توصل إليه مؤشر الفتوى عن مواصلة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان استغلال الخطاب الدينى لتثبيت أركان حكمه فى الداخل التركى، وإبراز مطامعه السياسية فى الخارج.
تملك دار الإفتاء عقولًا تعمل بمنهجية علمية وبأسلوب منطقى لا يخاصمان القواعد البحثية، وكان طبيعيًا أن يشير القائمون على مؤشر الفتوى إلى قضية استخدام أردوغان المساجد، واستغلاله تقديس المسلمين لها.
يمكنك أن تعود إلى بيان دار الإفتاء لتقرأ فيه الآتى نصًا: «وجه المؤشر إشارات إلى استخدام أردوغان ورقة المساجد فى الداخل التركى، بهدف المكاسب السياسية وإنقاذ شعبيته المترنحة نتيجة وباء كورونا والانهيار الاقتصادى لبلاده، معتبرًا أن تجديد الحديث الآن عن موضوع تحويل الكنيسة القديمة (آيا صوفيا) إلى مسجد، وما رافقه من نشر مقطع فيديو لأردوغان وهو يتلو القرآن فى رمضان الماضى، هو موضوعات استهلاكية لكسب الطبقات المتدينة، ثم غدت سلاحًا انتخابيًا بيد مختلف السياسيين فى حملاتهم لاستقطاب الناخبين، لا سيما المتدينين منهم».
إلى هنا والكلام لا شىء فيه، فمؤشر الإفتاء يرصد جريمة الاستخدام السياسى للدين الذى يقوم به أردوغان، لكن ولأمانة دار الإفتاء فقد أشارت إلى ما حدث فى كنيسة «آيا صوفيا» حتى يكون من يقرأ البيان على بينة مما تتحدث عنه الدار.
عُد مرة أخرى إلى بيان الإفتاء، لتقرأ فيه نصًا: «قضية تحويل آيا صوفيا إلى مسجد طرحت منذ عقود، بيد أنها ظلت أداة وسلاحًا دعائيًا بيد مختلف السياسيين فى حملاتهم لاستقطاب الناخبين، لا سيما المتدينين منهم، وقد بُنيت آيا صوفيا ككنيسة خلال العصر البيزنطى عام 537 ميلادية، وظلت لمدة 913 سنة حتى احتل العثمانيون إسطنبول عام 1453، فحولوا المبنى إلى مسجد، وفى عام 1934، تحولت آيا صوفيا إلى متحف بموجب مرسوم صدر فى ظل الجمهورية التركية الحديثة».
كان يمكن أن يمر بيان الإفتاء دون ضجيج، فهو موجه بالفعل ضد جرائم أردوغان التى لا تخفى على أحد، لكن غلمان الحاكم التركى أمسكوا بما جاء فى بيان الإفتاء وتحديدًا الإشارة إلى «حتى احتل العثمانيون إسطنبول عام 1453»... وبدأوا فى عزف لحن ترهيبى كامل ضد دار الإفتاء والقائمين عليها، هذا اللحن نفسه هو الذى دفع دار الإفتاء إلى التراجع فأصدرت بيانًا على صفحتها الرسمية يوم الإثنين 8 يونيو قالت فيه نصًا: «أكدنا مرارًا وتكرارًا بالوثائق والأدلة أن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان يواصل استخدام سلاح الفتاوى لتثبيت استبداده فى الداخل باسم الدين، وتبرير أطماعه فى الخارج باسم الخلافة المزعومة، أما ما يتعلق بفتح القسطنطينية فهو فتح إسلامى عظيم بشر به النبى، صلى الله عليه وسلم، وتم على يد السلطان العثمانى الصوفى العظيم محمد الفاتح، أما أردوغان فلا صلة له بمحمد الفاتح».
ستسألنى ما الذى أخاف دار الإفتاء وجعلها تتراجع، فبعد أن وصفت ما حدث فى إسطنبول على يد محمد الفاتح بأنه احتلال، عادت لتقول إنه فتح إسلامى عظيم، بل وتصف محمد الفاتح بأنه صوفى عظيم؟
كان اللحن الترهيبى الذى عزفه غلمان أردوغان عبر المنصات الإخوانية التى تمتد من قطر إلى تركيا يستند إلى دعامتين أساسيتين.
الأولى: كيف لدار الإفتاء أن تصف فتح القسطنطينية بأنه احتلال، رغم أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بشر بفتحها، وأثنى على الأمير الذى سيقوم بفتحها؟
وبدأ الهجوم يتوالى على دار الإفتاء بأنها مستخدمة سياسيًا، وأنها تخالف ما قاله النبى، صلى الله عليه وسلم، من أجل الهجوم على أردوغان.
الثانية: كيف لدار الإفتاء أن تجاوز فى حق السلطان محمد الفاتح الذى تنبأ له النبى بفتح القسطنطينية، وأثنى عليه؟
ولأن العامة لا يعرفون كثيرًا عن تاريخ محمد الفاتح، ولا ما فعله فى بلاد المسلمين، فقد وجهوا سهامهم إلى دار الإفتاء التى يبدو أنها أرادت أن تريح رأسها، فآثرت السلام، احتفظت بهجومها على أردوغان لأن هذا موقفها الثابت، وتراجعت عن وصف محمد الفاتح بالمحتل، بل أضفت عليه بما لا يستحقه من مواصفات، ربما لتفسد على الإخوان وحلفائهم محاولة جرها لمعركة جانبية.
فقد ترك الجميع أردوغان وما يفعله، وركزوا فى مسألة الخلافة العثمانية، وهل ما قامت به فتح إسلامى أم احتلال، وبدأ الحوار يدور حول محمد الفاتح، وأعتقد أن غلمان أردوغان خططوا لهذا بذكاء، وهو الفخ الذى لم تقع فيه دار الإفتاء، وهو ما يحسب لها، رغم أنها فعليًا انسحبت من المعركة.
وهنا لا بد أن نواجه الجميع.
يحتج كثيرون من دراويش ما يسمى بالخلافة العثمانية بأن النبى، صلى الله عليه وسلم، تنبأ بفتح القسطنطينية فى حديثه الذى يقول فيه «لتفتحن القسطنطينية، فنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش».
ويحتجون بأن الإمام البخارى أورد هذا الحديث فى كتاب «التاريخ الكبير» نقلًا عن الصحابى بشر الغنوى، وأن الإمام ابن عبدالبر أورده أيضًا فى كتابه «الاستيعاب فى معرفة الأصحاب» نقلًا عن الصحابى نفسه.
بشر الغنوى لم يكن هو راوى الحديث المباشر، يأتى ترتيبه فى سلسلة السند الثالث، فقد روى الحديث الوليد بن المغيرة المعافرى، وروى بشر الحديث عن الوليد.
الحديث نفسه ورد فى مسند الإمام أحمد بصيغة مختلفة، وهى: حدثنا عبدالله بن محمد بن أبى شيبة، قال عبدالله بن أحمد، وسمعته أنا من عبدالله بن محمد بن أبى شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنى الوليد بن المغيرة المعافرى، قال: حدثنى عبدالله بن بشر الخثعمى عن أبيه أنه سمع النبى، صلى الله عليه وسلم، يقول: «لتفتحن القسطنطينية، فنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش، قال: فدعانى مسلمة بن عبدالملك فسألنى، فحدثته فغزا القسطنطينية.
لم يلتفت أحد من غلمان أردوغان إلى ما قاله علماء الحديث بعد ذلك عن هذه الرواية.
فهذا شعيب الأرناؤوط يقول إن هذا الحديث ضعيف لجهالة عبدالله بن بشر الخثعمى الذى انفرد عنه بالرواية الوليد بن المغيرة المعافرى، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان.
وهذا محمد ناصر الدين الألبانى يقول: وجملة القول إن الحديث لم يصح عندى، لعدم الاطمئنان إلى توثيق ابن حبان للغنوى هذا، وهو غير الخثعمى كما مال إليه العسقلانى.
لدى علماء الحديث ما هو أكثر من ذلك، فعندهم أن المراد بهذا الحديث هو فتح القسطنطينية فى آخر الزمان قبل خروج المسيح الدجال مباشرة.
ليس لأحد إذن أن يحتج علينا ولا على دار الإفتاء بحديث لا تستقر لدى أحد صحته، وعليه فلا يجب أن يتم الزج بالنبى، صلى الله عليه وسلم، فى أمور هى فى الأصل سياسية، فالدولة العثمانية بحروبها ومعاركها لا يمكن أن تكون حجة للإسلام أو عليه، فهى دولة سعى سلاطينها للتوسع والغزو والحرب لمكاسب الدنيا دون أن تكون نصرة الإسلام من أهدافهم.. ولو كانت من أهدافهم فهل من المعقول أن يقوموا بغزو بلدان إسلامية ويقولون بعد ذلك إن هذا فتح؟
أما عن محمد الفاتح وما فعله، وتحديدًا تحويل كنيسة «آيا صوفيا» إلى مسجد، فإن هذا لا يُعتبر محلًا للفخر، بل هو عاره الذى لا يمكن أن ينساه أحد.
ولا يمكن أن نتجاهل أن ما فعله محمد الفاتح يخالف قواعد الإسلام التى أرساها النبى، صلى الله عليه وسلم، فى فتح البلاد لدعوة أهلها إلى الإسلام.
لقد التزم القادة المسلمون بأخلاقيات الرسول فى ظل الخلافة الراشدة التى انتهت عند حدود الخلفاء الراشدين، أما عندما تحول الأمر إلى ملك ووراثة فلا يمكن أن يحتج أحد علينا بما فعله من أطلقوا على أنفسهم خلفاء المسلمين أو سلاطينهم.
لم يقم أحد من قادة المسلمين بتغيير هوية دور العبادة أبدًا.
ولذلك فإن الذين حاولوا التقريب بين محمد الفاتح وعمرو بن العاص فى اللحن الترهيبى الذى عزفه غلمان أردوغان لإرهاب دار الإفتاء، فما دامت الدار تصف ما فعله محمد الفاتح بأنه احتلال، فإن ما فعله عمرو بن العاص عندما جاء إلى مصر احتلال أيضًا.
هذا كلام يخاصم العقل والمنطق والضمير والتاريخ أيضًا.
من بين ما ورد عن الخليفة الثانى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أن سيدة مسيحية شكت إليه عمرو بن العاص والى مصر، حيث أدخل دارها عنوة فى مسجد تمت إقامته إلى جانب دارها.
حقق عمر بن الخطاب فى الشكوى، سأل عمرو بن العاص الذى أجابه بأن المسلمين كثروا وأصبح المسجد يضيق بهم، وكانت دار هذه السيدة بجواره، فعرض عليها أن يشترى الدار لكنها رفضت، فضمها عنوة وأدخلها إلى المسجد، ووضع ثمن الدار فى بيت المال لتأخذه السيدة المسيحية فى الوقت الذى تريده.
اعتبر عمر بن الخطاب ما فعله عمرو بن العاص جرمًا يخالف به وفيه ما استقر عليه الإسلام، فأمره أن يهدم البناء الجديد من المسجد، وأن يعيد للمرأة المسيحية دارها كما كانت تمامًا.
هل يمكن أن نقارن ما فعله محمد الفاتح الذى حول كنيسة إلى مسجد وظل على حاله هذا ما يقرب من ألف سنة، بما حدث مع عمرو بن العاص؟
يمكن أن تتعامل مع محمد الفاتح على أنه قائد عسكرى أخلص لبلاده وأطماعه وأحلامه.. لكن لا يمكننا اعتباره فاتحًا عظيمًا، وإذا كنتم تريدون أن تعرفوا عما فعله فى البلاد والعباد فليس عليكم إلا أن تقرأوا المزيد عنه، ولا تتركوا عقولكم يقودها مرتزقة أردوغان الذى لا يختلف عن أجداده فى قليل أو كثير.
ويا ساداتنا فى دار الإفتاء.. لا نريد جهدكم العلمى والبحثى فقط.. نريدكم جنودًا فى المعارك والمواجهات.. والدفاع عما تصلون إليه من آراء وأفكار ومواقف.