اللحظة الحاسمة.. مواقف صعبة مرّ بها مُبلغو مصابي كورونا بـ«إيجابية الحالة»
لم يدر الدكتور علاء الدين، أحد أعضاء الفريق الطبي في مستشفى الحجر الصحي بالعبور، ماذا يفعل بعدما ظهرت نتيجة تحليل كورونا المستجد (كوفيد 19)، لزوجين من كبار السن، وكيف سيُبلغ الزوج بأن نتيجته سلبي بينما نتيجة الزوجة إيجابي؟.
الزوجان أجريا تحليل فيروس كورونا المستجد في مستشفى عين شمس الجامعي، التي يعمل بها الدكتور أحمد استشاريًا، وتم ترحيل نتائج تحليلهما إلى مستشفى العبور، التي خُصصت ضمن 27 مستشفى آخر للحجر الصحي لمصابي الفيرس، وحين جاءت لحظة تبليغ الزوج بإيجابية زوجته شعر الطبيب بالأسى - حسبما وصف شعوره -.
أحمد وغيره من الأطباء والممرضين والإداريين بمستشفيات ومعامل وزارة الصحة الخاصة التي تواجه فيروس كورونا، يمرّون يوميًا بمواقف إنسانية صعبة، في لحظة التبليغ التي يصفها معظمهم بالأصعب، سواء على الحالة الإيجابية أو ذويها، الذين تختلف ردود أفعالهم من حالة إلى آخر.
◄ أحمد: "لحظة التبليغ هي الأقسى.. ونمتص جميع ردود الأفعال"
تمالك الدكتور أحمد رباطة جأشه في تلك اللحظة فلا بد من تبليغ الزوج بالنتيجة، حتى يخرج من المستشفى ويترك زوجته، يصف تلك اللحظة: "شعرت بألم نفسي شديد وأنا في الطريق إلى الزوج الذي ينتظر على أحر من الجمر نتائج التحاليل، وحين أبلغته بإيجابية تحليل زوجته بدأ يبكي وكاد أن يسقط مغشيًا عليه".
تثاقلت خطى الزوج بعدما علم بالنتيجة كما يصف الطبيب، وكاد أن يذهب ويترك زوجته في الحجر الصحي، إلا أنه لم يستطع وأصرّ على المكوث جوارها، رغم رفض الفريق الطبي المكلف تواجده بالمستشفى حتى لا ينتقل له المرض من زوجته.
الطبيب يقول: "تركناه خارج غرفتها لعدد من الساعات كان ينظر إليها خلف الحاجز الزجاجي والدموع تملأ عينيه، وأنا بالداخل مع زوجته أقوم بالإجراءات الطبية اللازمة للحجر، وتأثرت بشدة بوقوف الرجل كثيرًا خارج الغرفة ناظرًا إلى زوجته".
لحظة التبليغ هي الأقسى، كما يصف الدكتور أحمد، فيحاول كل من بالمستشفى إحكام ضبط النفس بشدة حتى لا يتأثر بكل حالة يتم تبليغها: "قمنا بعمل بروتوكول إنساني جديد وهو أن التبليغ عادة ما يكون عبر الهاتف وفي وقت متأخر من الليل، على أن يتحلى المبلغ بأقصى درجات ضبط النفس واستقبال ردود الفعل كلها".
وفي مستشفى العبور تم تجهيز سيارة إسعاف مخصصة لمستشفى عين شمس الجامعي، وتقوم المستشفى بتبليغ العبور بالحالات الإيجابية وتذهب سيارة الإسعاف في سرية تامة في وقت متأخر من الليل لجلب الحالات، ويبرر الطبيب ذلك بأن الفكر المجتمعي السائد حاليًا هو أن الإصابة بذلك المرض تعد عارا رغم خطأ ذلك طبيًا.
لا ينتهي الجانب النفسي للمرض عند مرحلة التبليغ، فيقول الطبيب: "حين تأتي الحالة إلى المستشفى نقوم بدعمها نفسيًا وتوضيح طبيعة المرض وطرق انتقاله، ونخبر المريض بأن شفاؤه مرتبط باتباع الإجراءات السليمة، حتى لا ينقل الفيروس إلى ذويه".
بعض المرضى يرفضون الذهاب إلى الحجر الصحي بعد معرفة إيجابية الإصابة، إلا أن الدكتور أحد يؤكد أن المريض ليس لديه حرية الاختيار بالذهاب إلى المستشفى أو البقاء في المنزل، وإذا أصر على الرفض يؤول الأمر إلى وزارة الصحة والطب الوقائي التي من الممكن أن تستدعي أحد أفراد الشرطة.
ويضيف: "لا يجوز مكوث الأهل مع الحالة بالمستشفى أو زيارتها طوال فترة العلاج، كل ما يسمح به هو الهاتف الخاص بالحالة حتى يطمئن ذويه أو يتحدث معهم عبر الفيديو، وهي أحد طرق الدعم النفسي التي تقدم للحالات فور وصولها حتى لا يشعر بالغربة بمفرده".
◄ جلال الشامي: "نتعمد الإبلاغ في ساعات متأخرة من الليل.. والتبليغ أمر صعب نفسيًا للغاية"
أنهى الدكتور جلال الشامي، طبيب بمعامل الصحة المركزية، مكالمته بعدما أبلغ لتوه أم لطفل يبلغ من العمر 12 عامًا بإيجابية تحليل فيرس كورونا الخاص به، وأن سيارة الإسعاف في طريقها للمنزل لاصطحاب الطفل وضرورة عزله لتلقي الرعاية في الوقت الحالي.
يقول الطبيب: "تهدج صوت الأم من البكاء بمجرد علمها بإيجابية تحليل ابنها، ليس ذلك فحسب بل طلبت منيّ أن تذهب معه في سيارة الإسعاف ويتم عزلها في ذات الحجرة حتى لا تتركه وحيدًا في مستشفى العزل التي سيتوجه إليها، إلا أن ذلك كان صعبًا للغاية، ورغم تقديرنا لذلك الشعور الذي سينتاب أي أم يتم تبليغها بإصابة ابنها إلا أنه حفاظًا على روحها تم اصطحاب الطفل بمفرده".
أصعب ما يواجهه جلال في تبليغه بنتائج التحليل الإيجابية هو عدم معرفته للشخص الذي سيرد عليه، ويستقبل خبر إصابته أو إصابة أحد أقاربه، فلا يعرف حالته النفسية في ذلك الوقت ورد فعله على استقباله خبر إيجابية التحليل لأحد أفراد عائلته وأنه لا بد أن يتم عزله الآن: "أمر صعب نفسيًا للغاية لا يستطيع أحد تحمله في الوقت الراهن".
ويوضح الطبيب أن زملاؤه من المسعفين عانوا حتى يقنعوا الأم بضرورة ترك الطفل وعزله دون تأخير، وسط نحيب وبكاء منها لا يتوقف، إلى جانب أن الطفل كان خائفا بشدة رغم علمه بجائحة الفيروس إلا أن حالته النفسية كانت سيئة للغاية.
تبليغ آخر أشد وطأة، قام به الطبيب في معمل التحليل، لأب يتخطى سنه الـ50 عامًا، جاء بأعراض شديدة تشبه أعراض الفيروس، وتم عمل التحاليل اللازمة له، والذي تبين منه إيجابياته: "نتعمد أن تكون المكالمات متأخرة بعض الشيء حتى يتسنى لنا جلب الحالات في هدوء".
بضع دقائق من الصمت مرت بين الطبيب والأب المصاب الذي كان يحاول تمالك نفسه، وطلب من الطبيب الانتظار حتى الصباح كي يودع ابنائه وأهله: "رفضت بشدة وطلبت منه عدم لمس أي شيء بالمنزل أو الاقتراب من أحد حتى تأتي عربية الإسعاف ويتم ترحيله".
يقول جلال: "الرجل كان من إحدى قرى محافظة المنوفية لذلك ظل يترجى أن يذهب هو بمفرده إلى مستشفى العزل خوفًا من أن تعلم القرية بإصابته، إلا أن ذلك الأمر قوبل بالرفض لأنه سينقل العدوى لآخرين في طريقه للمستشفى".
يحاول جلال قدر الإمكان متابعة الحالات التي يبلغ بإيجابيتها لاسيما تلك التي تنفعل بشدة أو تشعر بالصدمة وتتحول إلى بكاء هيستيري، إيمانًا بضرورة فعل ذلك على المستوى الإنساني: "لا أنهي مهمتي عند التبليغ بإيجابية الحالة فقط، ولكن أحاول قدر الإمكان أن أكون داعمًا لها بالصبر والحديث المتكرر عن أن اتباع تعليمات الصحة وإجراءات السلامة يرفع نسبة الشفاء".
◄ أخصائي تمريض: "وفاة رجل طاعنّ في السن من أكثر الحالات التي تأثرت بها"
من الإيجابية إلى الوفاة، لحظات قاسية مرّ بها محمود رأفت، أخصائي تمريض بمستشفى الدمرداش، مع أحد الحالات لرجل طاعنّ في السن، الذي قام بعمل تحليل فيرس كوفيد 19 المستجد بعد ظهور أعراض المرض عليه، كانت نتيجة سلبية في الأيام الأولى له ثم تحولت إلى إيجابية.
يقول محمود: "قُمت أنا وزميل ليّ بتبليغ المصاب وأحد أقاربه بإيجابية تحليله لفيرس كورونا، ووقتها شعر الرجل بصدمة شديدة ولم ينطق حرفًا واحدًا بسبب وخوفه من العزل، لاسيما مع الفزع العالمي الذي سببه الفيرس وتواتر أحداثه سريعًا".
بسبب شدة خوف الرجل وعدم قدرته على التنفس وضع على جهاز تنفس صناعي في الرعاية المركزة للمستشفى، حتى يتم تبليغ الصحة وجلب سيارة إسعاف تنقله إلى أقرب مستشفى حجر صحي من أجل العزل وتلقي العلاج كمصاب إيجابي بفيرس كورونا.
أخصائي التمريض، يوضح أن الحالة توفيت على جهاز التنفس الصناعي عقب ساعات قليلة: "عادة ما نحتفظ بأرقام لأقارب الحالات لاسيما الإيجابية لتبليغها بأي تطورات تطرأ على الحالة، وحين توفى الرجل كبير السن قمنا بإبلاغ قريبه الذي أتى معه منذ الإصابة وكان مصدومًا للغاية لأن الوفاة كانت سريعة".
كانت تلك هي أكثر الحالات الإيجابية التي تم تبليغها وأثرت في الأخصائي محمود، الذي بيّن أنهم يحاولون طوال الوقت تقديم الدعم النفسي للحالات الإيجابية تحديدًا وذويهم، إلا أن البعض يتقبل ذلك ويتفهم طبيعة المرض ويستسلم للعلاج، والبعض الآخر يستمر في خوفه وصدمته لفترات طويلة.
وأشار إلى أن هناك حالة رعب وهلع تجتاح المرضى بالمستشفيات، بسبب التوتر العالمي الذي سببه الفيروس في غضون أشهر قليلة، مبينًا أن معظم المرضى لا يشعرون بهول الفيروس وآلامه وتبعاته إلا بعد الإصابة به.
◄ ممرض: "أبلغت رجل بإيجابيته فظل يبكي.. ونحاول دعم الحالات نفسيًا".
حالة واحدة كانت إيجابية في مستشفى بنها الجامعي، التي يجرى فيها تحليلات للفيروس في وحدة مكافحة العدوى بالمستشفى، وفي حالة الاشتباه فيها يتم تحويلها إلى أحد مستشفيات الحميات التي خصصتها وزارة الصحة منذ بدء الجائحة ومنها إلى مستشفى الحجر الصحي الأقرب للحالة وسكنها.
تبليغ تلك الحالة بإيجابية التحاليل الخاصة بها وقع من نصيب "إسلام.م"، ممرض في المستشفى، والتي تم تبليغها في ساعة متأخرة من الليل، حيث يقول الممرض: "الأمر كان صعبا للغاية لكن لا بد منه فالانتظار سيزيد من أعداد المصابين الذين يتعاملون مع الحالة الإيجابية سواء ذويه أو الجيران".
وأوضح أنه أخبره بنفسه بإيجابية تحليله وضرورة تحركه الآن إلى مستشفى الحجر الصحي، وأن الإسعاف في طريقه إلى منزله، مبينًا: "الرجل كان يبكي من شدة الصدمة، فالأمر ليس سهلًا أن تبلغ أحد في ظل الأحداث الحالية بإيجابية إصابته بالفيرس وهو غير مؤهل نفسيًا لذلك، وتطلب منه أن يستعد للحجر الصحي".
وأكد أن بعض الحالات تتقبل قضاء الله وتوافق على الإجراءات الطبية اللازمة، والبعض الآخر يشعر كأنه سيموت في الوقت الحالي وليس هناك أمل في الشفاء، مضيفًا: "يكون رد الفعل مختلف بالتأكيد بناء على ثقافة الحالة ومستواها التعليمي والديني، إلا أننا نستقبل جميع ردود الأفعال بهدوء جم".
وأضاف: "نحاول دومًا تقديم الدعم النفسي للمصابين والمشتبه فيهم، بالحديث معهم أن المرض وارد أن يصاب به أي شخص، وليس وصمة عار، وأن مؤشرات الشفاء أعلى من الوفاة، لاسيما أن مصر لازال المرض بها تحت السيطرة".