محمود خليل يكتب: عيد وصيام فى يوم واحد
لا يظنن ظان أن حالة الارتباك والتضارب فى تحديد هلال مبدأ رمضان أو هلال شوال وعيد الفطر المبارك ابنة الأيام الحالية، فالمسألة أشد عمقًا على المستوى التاريخى.. وليس أدل على ذلك مما حدث مع مطلع شهر رمضان من عام ١٢١٧ هجرية، الذى وافق ٢٦ ديسمبر ١٨٠٢، فى ذلك الوقت كان الفرنسيون قد خرجوا لتوهم من مصر وعادت البلاد إلى السيطرة المملوكية العثمانية المشتركة، الناس كانت فرحة بالتحرر وزادت سعادة الأهالى وهم يستقبلون الشهر المحبب إلى نفوسهم، والذى وافق شهرًا من أشهر الشتاء، ما يعنى صيامًا سهلًا بريئًا من العطش، لكنه لا يخلو من قرصة الجوع والحنين إلى الآنية الساخنة، كما جرت العادة تصدّر المحتسب الموكب المعتاد لاستطلاع هلال رمضان ومن خلفه أرباب الحرف وحملة المشاعل ومن خلفهم الأهالى يصيحون ويهللون ويكبّرون.. نظر المحتسب إلى السماء فوجد السحب والغيوم تحيط بها من أطرافها، كان غيمًا مطبقًا- كما يحكى «الجبرتى»- فلزم إتمام عدة شعبان ثلاثين يومًا، لكن جدلًا عنيفًا جرى بين الأهالى عندما تردد بينهم أن ثمة خطأ فى رؤية هلال شعبان، وأن بداية الشهر تحددت قبل موعده بيوم، وأنكرت الجهات الرسمية المتمثلة فى المشايخ والمحتسب ذلك، وثار هرج ومرج بين الناس واحتاروا هل يصومون من الغد أم يكملون عدة شعبان ثلاثين يومًا؟ وانتهى المشهد بالامتثال لرأى الرسميين.
قضى المصريون حينذاك شهر رمضان بطقوسه المعتادة، يتمددون بالنهار، ويطلعون من البيوت إلى الشوارع بعد العصر لتسلية الصيام إلى أن يحين موعد أذان المغرب.. وكما قلت لك كان البر كله يعيش لحظات فريدة من البهجة والسعادة بعد خروج حملة نابليون من مصر، ربما تذكرت بعض الأسر ضحاياها الذين لقوا حتفهم فى ثورتى القاهرة الأولى ثم الثانية، لكن الحياة تمضى والأحياء لبعضهم البعض.. ما كان يكدر صفو الأهالى حينها عودة المماليك إلى العربدة فى حوارى وأزقة وميادين المحروسة، إلى حد أن من كان يزور مصر وقتها كان يتعمد أن يترك أحماله وأثقاله وما غلا ثمنه من أمتعة فى المراكب، ويأخذ منها ما يجده ضروريًا فقط، خوفًا من قطّاع الطريق من الأمراء المصرلية، كما يذكر «الجبرتى».. فى كل الأحوال تدفقت أيام رمضان ببهجتها إلى أن حان الموعد من جديد مع رؤية هلال شهر شوال لتحديد موعد بدء عيد الفطر المبارك لعام ١٨٠٢م.
تكررت مأساة هلال رمضان عند استطلاع هلال العيد، وافق ٢٩ رمضان يوم الأحد، وكانت ليلة شتوية مطيرة، فبرقت السماء وأرعدت وانهمرت السيول، فرغ الأهالى من صلاة العشاء والتراويح كما تعودوا ثم انسلوا من المساجد وهم يحملون المشاعل يضيئون بها ليل الشتاء المظلم ليستطلعوا هلال العيد، لم يكن من الوارد بالطبع أن يرى الناس شيئًا بعد أن أطبقت السحب على السماء وسادت الغيوم، فتوقع الكل أنهم سيتمون عدة رمضان ثلاثين يومًا، لكن فجأة دوت المدافع من القلعة، وهو طقس معتاد فى الاحتفال بثبوت الهلال وبدء أيام الشهر العربى الجديد من الغد، فسأل الناس عن الأمر فعلموا أن هناك من رأى هلال شوال يوم السبت- أى يوم ٢٨ رمضان- وأنهم أخبروا الباشا بذلك، فبعث بهم إلى القاضى، فلم يقبل القاضى شهادتهم وأرسل بهم إلى الشيخ الشرقاوى، فاستمع إليهم وأقرهم وألزم القاضى بقبول شهادتهم، وبناء على ذلك ضربت المدافع إعلانًا عن بدء عيد الفطر يوم الإثنين من ذلك العام.. يقول «الجبرتى» إن الأهالى استيقظوا يوم الإثنين وهم فى أمر مريج- أى مختلط- فمنهم من هلل وكبّر وأفطر وخرج لصلاة العيد، ومنهم من أصر على مواصلة الصيام ليتم عدة رمضان ثلاثين يومًا.. والأمر لصاحب الأمر.