«ياما في الشارع مهمين».. كشكول مشرد يفضح سرا أخفته السنين (1)
كلما قادتني قدماي إلى ميدان المؤسسة، حيث تقبع محطة قطار شبرا الخيمة العتيقة، بعد منتصف ليل كل يوم، أجده جالسا «ملفوفا» ببطانية قد نحل وبرها من موجة الصقيع والبرودة التي تضرب البلاد، أتوقف أمامه فيضحك عليا المارة «ده مجنون سيبه لحاله، ربنا يتولاه برحمته».
«مرة ومرتين وثلاث ولكني لم أحدثه، في السابعة فعلت».. كان الساعة الثانية صباحا بمحطة القطار وخفت الأقدام حولي، وأنا أتسائل ما الذي أتى به إلى هنا، وكيف يتحمل هذا البرد الشديد بجسده النحيل، ربما يكون أحد المشردين؛ قلت.
ما أن تفتح كراسته تجد «العقدة.. الحل.. درجة الرياح.. طريقة مسيار السفن.. علم البحار والمحيطات.. متى يعلن القبطان نهاية رحلته؟».
بلحيته البيضاء وشعره الأشعث وسنتيه الظاهرتين إذا حاول فتح فمه، يجلس منكفئا ومنتشيا بشدة، كطالب عاد للتو لأيام الدراسة بجوار أمه، مطمئنا لكن هنا قام حائط المحطة الرخامي بهذا الدور.
أنا: سلام عليكم
هو: وعليكم السلام
أنا: بتعمل ايه؟
هو: بكتب
أنا: بتكتب إيه.. انت خطك حلو أوي
هو: مش عارف
أنا: طيب تسمحلي أقرأ
هو: طبعا
أنا: بس قبل ما أقرأ، انت نفسك في إيه؟
هو: نفسي أشرب شاي
- أنادي على صاحب نصبة الشاي المجاورة وأعطيته مبلغا تأمينيا ليكفيه من أكواب الشاي لشهر مقبل
أنا: كلمات عظيمة اللي انت كاتبها، زي ما تكون خطاط، بس أنا مش فاهم أي حاجة
هو: ومش هتفهم.. اقرأ تاني - (معدات النقل الإنشائي في المجزر خماسيات المخطط الزمني إعادة النبت المتسلسل اليخوت واللنش ٣٤ و٣٥ و٣٦ المحيطات)
أنا: قرأت تاني ومش فاهم.. هو ده إيه.. انت بتكتب واجب لطلاب مدارس
هو: اه علشان المدرسة تفرح بيهم
إسمك إيه وكنت شغال فين وإيه جابك هنا؟ أسئلة وجهتها له بعدما باءت كل محاولاتي لحل لغز هذا الشيخ، لكنه لم يرد سوى بكلمات متقطعة (حسن) من (قليوب) (في المدرسة)، ثم توقف عن الكلام وعاد لمهمته المقدسة مرة أخرى (الكتابة بنهم).
بدأت في التحرك لكن قدمي لا تريد وعقلي لا يزال عالق في قصة هذا الرجل، الذي بالتأكيد لديه ما لا يعلمه أحد، وسألت أحد الباعة ممن أشعل بعض الجزل الخشبية أمام فرشته الممتلئة بلعب الأطفال البلاستيكة، ورغم أنه لم يفيدني بمعلومة مؤكدة حول الشيخ، إلا أن كلماته الأخيرة كانت «يا أستاذ الناس بتوع تكافل وكرامة جم علشان ياخدوه ومرضيش وفضل قاعد مكانه».
لم أنس التقاط صورًا بهاتفي لبعض أوراقه والكراستين الممتلئتين بالكلمات أمامه، وعندما عدت إلى منزلي، رغم أنه لم يفارق مخيلتي على مدار ساعتين كاملتين مسافة الطريق، لم يقطع انتباهي فيهم عنه وعن كلماته المنمقة التائهة والعشوائية سوى مطلع أغنية «سمااااااح.. يا أهل السمااااااح» من راديو الميكروباص بصوت محمد قنديل؛ وعدت مرارًا في تصفح صور «الكراريس» والتدقيق فيما بين الأسطر.
وبعد العودة، أرسلت صورا لما كتبه هذا الرجل إلى صديقين مختلفين، الأول مدرس في الأرياف، والثاني مهندس بالقاهرة، وكانت المفاجأة مدهشة لي عما قيل عنها وعن كاتبها.
وللقصة بقية لعلها تكون مدهشة