«زقاق المدق».. نجيب محفوظ يحكي عن حميدة وعباس الحلو
كانت حميدة تتفرس الوجوه من خلف نافذتها.. متمردة هى بطبيعتها ترمق كل أهالى الزقاق بنظرات ساخرة.. وكأنها من طينة غير طينتهم رغم أنها أقلهم نسبًا، فهى تقريبًا بلا نسب ماتت أمها بعد ولادتها وتركتها للخاطبة التى لقبت فيما بعد بأم حميدة.
سمراء هى ممشوقة القوام تلتف فى ملايتها الرخيصة سعيدة بكمية الجاز المدلوقة على شعرها الفاحم.. تختال فى مشيتها غير مكترثة بأحد، فلديها لسان أطول بكثير من عمرها الذى اقترب من الثلاثين.. يترقبها عباس الحلو ذاك الشاب البرىء حلاق الزقاق يشتهر بطيبته وكرم أخلاقه وتواضع أحلامه يعيش مع عم كامل الرجل الطيب البدين بائع البسبوسة.
سعيدة هى لأن الحلو يترقبها، لكنها تصده حتى يأتى بآخر ما عنده.. طلب يدها ثم ذهب إلى التل الكبير جنديًا فى الجيش الإنجليزى حتى يتم الزواج.. سافر عباس الحلو وبقى عم كامل ينش الذباب من على وجهه تارة ومن على البسبوبة تارة أخرى.. بينما المعلم كرشة صاحب المقهى غارق فى نزواته وشهواته، فالحياة عنده عبارة عن أنفاس من الحشيش غير أن خبر ذاك الشاب الرقيع الذى يزور المقهى أوقد النار فى قلب أم حسين كرشة خشية الفضائح يكفيها ما فعلته ابنتها التى هربت مع عشيقها من قبل.
توجهت إلى الشيخ رضوان الحسينى وهو رجل مبتلى مات أولاده تباعًا وما زاده الابتلاء إلا إيمانًا وقربًا من المولى سبحانه وتعالى، ألقت المرأة بشكواها على مسامع الرجل فاستاء، لأن حديثًا كهذا ما كان له أن يدق أبواب أذنيه ويخترق حجرات بيته الطاهر.. أرسل للمعلم كرشة، لكن كرشة كان وقحًا واعتبر أن هذا أمر عادى يخصه وحده..
كان زقاق المدق أكثر ضجيجًا فى الخارج.. المعلمة حسنية صاحبة الفرن تضرب زوجها «جعدة» كالعادة بجريرة أنه التهم رغيف خبز ساخن أو أخفق فى شىء آخر أو ربما لم يخفق ولكنه تلقى اللكمة تلو اللكمة كنوع من التمرين اليومى للمعلمة حسنية التى يبدو أنها أعجبت «زيطة» ذاك القذر شكلًا وموضوعًا، فالرجل صديق للديدان والقاذورات يسكن فى كومة زبالة خلف الزقاق لها فتحة صغيرة على الفرن يتلصص منها على حسنية وزوجها.. وزيطة مهنته فى الحياة تشويه الحياة وصنع العاهات للمقهورين ليتحولوا إلى شحاذين فى كنف مسجد سيدنا الحسين مقابل قرشين للعملية ومليم عن كل يوم من صاحب العاهة لصانع العاهة.. كل شىء فى زيطة يدعو للاشمئزاز تسبقه رائحته النتنة أينما حل هو صديق للدكتور بوشى.. والدكتور بوشى كان ممرضًا يعمل فى عيادة طبيب أسنان اشتهر فى الزقاق بهذا الاسم وله الفضل على أفواه كل أهل الزقاق، فما من فم فارغ إلا ملأه بعدة ذهبية يبيعها بنصف سعرها دون إبداء أسباب.
كانت الوكالة قريبة من الزقاق، صاحبها هو السيد سليم علوانى رجل وقور ميسور الحال أصابه الملل من زوجته فقرر الزواج من حميدة طلب يدها من أمها لكنها أخبرته أنها مخطوبة ولكنها ستطرح الأمر على ابنتها سعدت حميدة ونسيت عباس الحلو وكأنه لم يسافر من أجلها إلا أن سليم علوانى أصيب فى اليوم الثانى بذبحه صدرية ألزمته الفراش ليعود بعد فترة ناقمًا على كل من حوله بحجة أنهم حسدوه.
جاء إبراهيم فرج ضمن حفل أحد المرشحين فرأى حميدة فتردد على مقهى كرشة ليتابعها ولأنها متنمرة متمردة رغبت فى أن تهينه لجرأته التى فاقت جرأتها لكنها انصاعت إليه حين وعدها بالمال الوفير والفراش الوثير والحياة الرغدة فهى لم تخلق لزقاق المدق ولكنها خلقت لوسط البلد.. أضحت طوع بنانه ليس لها شىء فى زقاق المدق هى نبت شيطانى ليس لها إلا أم بالتبنى وخطيب لم تربطها به إلا قبلة على سلم بيت الست سنية، أما حبيبها الجديد فيمكنه أن يعوضها بألف قبلة.هربت من أجل الحب والمال وارتمت فى حضن القواد.
ارتج الزقاق بخبر هروب حميدة ولاكتها الألسنة إلا الست سنية ربما لأن أم حميدة كانت سببًا فى تزويجها بعد أن أتمت الخمسين فللمرأة عليها فضل أو لأنها منهمكة فى زواجها السعيد من شاب فى نصف عمرها.. الأمران كلاهما جائز.
عاد عباس الحلو يحمل عشقًا وأسورة وقرطًا لمحبوبته.. أخبره عم كامل بما حدث جرى على صديقه حسين كرشة الذى نصحه قبل ذلك بالعمل مثله فى الجيش الإنجليزى إلا أن حسين الذى فر من الزقاق عاد إليه برفقة زوجته وشقيقها بعد أن خانه هتلر، وأنهى الحرب فتم الاستغناء عنه.. كانت نصيحة حسين أن ينسى عباس حميدة لأنها خائنة وعليه أن يفكر فى مصلحته.
وبعد أيام انطلقت حميدة فى عربة حنطور إلى ميدان الأوبرا تشم الهواء وتتذكر أيامها الخوالى بعد أن شعرت بأن الفقر مع الشرف أكرم من الغنى مع العربدة، حيث أصبحت سلعة تفعص فيها أيدى عساكر الإنجليز تحت مرأى من محبوبها القواد.
وقعت عين عباس الحلو على حميدة ركض خلفها حتى وصلت إلى مرقص بوسط البلد تقابلا وجهًا لوجه استخرجت شراستها القديمة ونهرته كانت أقوى منه ولأن الشيطان يتربع على عرش قلبها فكرت فى أن تستميله ليقتل ذاك القواد وتهرب هى إلى عالم آخر ومعها من المال ما يكفيها
وقع عباس فى الفخ بعد أن صورت له أنها ضحية ساذجة وحددت له موعدًا للقاء القواد ليقتله..
عاد عباس إلى حسين يقص عليه الخبر فوجد الزقاق فى حيرة من أمره بعد أن علم أهله بالقبض على زيطة والدكتور البوشى فى مقبرة يستخرجان منها طاقمًا ذهبيًا هرع كل شخص ليلقى بأسنانه الذهبية بعيدًا.. وكان الشيخ درويش أكثرالناس سخرية والشيخ درويش كان مدرسًا للإنجليزية وتم فصله وجلس على قهوة كرشة، لا تعرف من أين يأكل ولا من أين يلبس لكنه يعيش.
طرح عباس الأمر على حسين رفض حسين فى بادئ الأمر إلا أنه وجد فى قتل القواد فرصة لجمع المال، توجها إلى المرقص دخلا ليتفقدا المكان فإذا بحميدة تترنح مخمورة بين عساكر الإنجليز كل واحد منهم منشغل بقطعة من جسدها الفائر فقذفها بزجاجة خمر فأدمى وجهها.. وفى المقابل خسر هو عمره.. ليبقى زقاق المدق دون حميدة ودون عباس الحلو ودون زيطة والبوشى.. والأيام تمر.