عن المعاني النفسية لليلة النصف من شعبان
يمكنك أن تعتبر الحديث عن ليلة النصف من شعبان من أرضية نفسية أمرا غريبا، أو فيه بعض التزيد من ناحيتى، لكن عندما تعرف أن ما حدث فى هذه الليلة من تحويل قبلة الصلاة الى البيت الحرام فى مكه لم يكن أمرا دينيا فقط، بل كانت له أبعاد نفسية عديدة، سيتبدد عجبك، وتعرف أننى لا أقحم علم النفس فى الدين، خاصة أن الدين نفسه يلعب دورا كبيرا فى العلاج النفسى اذا ما أحسنا استخدامه، وتعاملنا مع النواحى النفسية فيه على النحو الصحيح.
فى مراجعنا العلمية يمكن أن تقابل هذا المصطلح "النفسية الإيجابية" positive Psychology، وهو علم صناعة السعادة، ويعنى بالأساس بكيف تكون نفسيا أفضل وأسعد وأكثر طمأنينة.
ولم يكن ما حدث فى ليلة النصف من شعبان إلا محاولة لإسعاد النبى محمد صلى الله عليه وسلم، أو بالمعنى الأدق كان عملا سماويا من أجل إرضاء رسولها إلى الأرض، ولن أكون مبالغا إذا قلت أنها كانت عملية جبر خاطر للرسول، بعد معاناته الشديدة فى رحلة هجرته، وما تبعها من أحداث.
المعنى فى القرآن حاكم، وموح بما جرى" قد نرى تقلب وجهك فى السماء"... تعبير عن حيرة الرسول، ثم يأتى القرار الذى ينهى هذه الحيرة " فلنولينك قبلة ترضاها"... فالرضا كان الهدف، ورغم أن النبى كان راضيا بكل ما قسمه الله له، لكنه رضى أكثر لأن السماء وافقت هواه، وجعلته يصلى مستقبلا البيت الحرام، حيث موطنه الأول، وحبه الأكبر.
كل أحوال النبى صلى الله عليه وسلم كانت تشير إلى أن قلبه وعواطفه كانت متعلقة بمكان يحبه، ويأنس إليه نفسيا، ولأنه كان يستحى أن يطلب من الله شيئا لنفسه، لم يدع بها، بل ترك الأمر لله الذى يطلع على خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
لكن لماذا ظل قلب النبى معلقا بمكه؟ لماذا لم يأنس أكثر إلى المدينة المنورة التى استقبله أهلها وناصروه؟
هنا يمكن أن يتدخل العلم قليلا.
فقد أشارت أكثر من دراسة نفسية حديثة إلى تأثير الأماكن، والدور الذى يمكن أن تلعبه فى الراحة النفسية للأشخاص، وكيف يتأثر المخ والجسم فسيولوجيا وسيكولوجيا، عندما يتواجد الإنسان فى مكان يحبه، بل إنه يصبح أكثر سعادة وأكثر قدرة على التفكير والعطاء.
كان النبى راضيا مرضيا بصلاته وهو فى المدينة موجها وجهه إلى المسجد الأقصى، لكن آذاه ما قاله يهود المدينة عنه "اليوم يتبع قبلتنا وغدا يتبع ديننا"، ولأن فى مكة هواه، فقد جعل الله صلاته فى اتجاهه دون غيرها، فاستقرت نفس النبى واستراحت روحه، وأعتقد أن هذا القرار الإلهى، كان من بين القرارات التى ساهمت وبقدر كبير فى استقرار الحالة النفسية للنبى صلى الله عليه وسلم، بل ساهمت فى انطلاقة مهمة للدعوة الإسلامية.
ولأن الحدث عظيم، فقد حازت ليلة النصف من شعبان فضلا كبيرا، لن أحدثكم عن موقعها فى مساحة الشعور الإسلامى، ولن أقترب من قدسيتها لدى عامة المسلمين، الذين جعلوا منها عيدا يحتفلون به، ولهم فيها طقوس عديدة، ودعاء خاص، ولكن سأقف بكم على تخوم الملامح النفسية لهذه الليلة، وما تتركه من أثر فى نفوس المسلمين، بل ما تقوم به من علاج نفسى لكثير من أزماتنا.
هل أستعين بما رواه الصحابة الكبار عن النبى صلى الله عليه وسلم؟
هذا هو سيدنا معاذ بن جبل، يقول: عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: يطلع الله على خلقه فى ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن".
المعنى واضح، فحتى يتحقق الغفران، ويحظى الإنسان برحمة الله، فيجب أن يبتعد عن المشاحنات والخلافات والصراعات والكراهية، وكأن المحبة هى شرط الغفران الإلهى، ليست المحبة فقط، ولكن التصافى والتسامح مع الآخرين، ولا تتعجب إذا قلت لك إن هذه هى خلاصة علم النفس الإيجابى.. التسامح والرضا.
المعانى النفسية المتعلقة بليلة النصف من شعبان لا تنقطع، وما عليك إلا أن تتأمل الدعاء الخاص المرتبط بها.
فعندما تقف بيد يدى الله وتبتهل إليه قائلا: اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، لا إله إلا أنت، ظهر للاجئين، وجار المستجيرين، وأمان الخائفين، اللهم إن كنت قد كتبتنى عندك فى أم الكتاب شقيا أو محروما أو مطرودا أو مقترا علىّ الرزق، فامح اللهم بفضلك شقاوتى وحرمانى وطردى وإقتار رزقى، واكتبنى فى أم الكتاب سعيدا مرزوقا موفقا للخيرات، فإنك قلت وقولك الحق فى كتابك المنزل على لسان نبيك المرسل " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"... إلهى بالتجلى الأعظم فى ليلة النصف من شعبان المكرم التى يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم، أن تكشف عنا من البلاء ما نعلم وما لا نعلم، وأنت به أعلم، أنت الأعز الأكرم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
هذا دعاء يتبدل به حالك من الشقاء إلى السعادة، وإن لم تكن جربته، فحاول أن تقف به بين يدى الله، ولا تقل إنه خاص بليلة النصف من شعبان، فالله موجود فى كل وقت، وأنت أيضا.
لك أن تتصور بعد ذلك أن هناك بعض الأشقياء الذين يحرمون الاحتفال بليلة النصف من شعبان، ويصفون ما يحدث فيه من تجمعات روحانية بأنه بدعة.
لن نرد على هؤلاء بما لدينا من معرفة دينية، بل سنترك علم النفس يرد عليهم أيضا، وفيه أن التجمعات الروحانية فى كل الأديان لها مفعول قوى على نفسية الإنسان، تجعله يشعر بالراحة والأمان، وتجعله أكثر سلامة، أما العزلة وعدم الانخراط فى مثل هذه التجمعات، فهى تزيد الإنسان قلقا وتوترا وأرقا، وعليه فالاحتفال بليلة النصف من شعبان له فائدة نفسية قبل أن تكون الفائدة دينية أيضا.
ليس هذا فقط.
أعتقد أنك لم تسمع عن هرمون"الأوكسيتوسين"، الآن أحدثك عنه، هو هرمون الحب الذى يساعدك على أن تكون أكثر هدوءا، والمفاجأة وطبقا لبحث صادر عن جامعة كليرمونت للدراسات العليا فى العام 2011، فإن التجمع والاختلاط بالناس يعزز الثقة بالنفس، وهى حالة تساعد فى إفراز هذا الهرمون، ولذلك من الصعب أن نستجيب لمن يبددون هذه المناسبات الدينية الروحانية بكلام متهافت عن أنها بدعة، فهؤلاء لا يعرفون شيئا عن الدين ولا شيئا عن الدنيا، ولذلك فمن الأولى بنا اعتزالهم، لأنهم لا يسيئون إلى الدين فقط، ولكنهم يفسدون علينا حياتنا أيضا.