رفض التهجير.. واللجوء للشعب
تابعت كغيرى من المصريين والأجانب القوافل الشعبية لمنفذ رفح، يوم الجمعة الماضى، للتعبير عن رفضهم أفكار ومقترحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لتهجير الفلسطينيين، وبالتحديد سكان قطاع غزة، لشبه جزيرة سيناء. هذه القوافل خرجت من عدة محافظات، واهتمت الفضائيات والصحف والمواقع الإخبارية بها.. ونقلت تغطية حية لفعاليات هذا اليوم على الهواء.
تحمست للمشهد وتفاعلت معه وتمنيت أن أنضم لقافلة تالية.. وأعتقد أن هذا شعور الغالبية من المواطنين، الذين يريدون أن يعبّروا عن رفضهم بصيغ مختلفة لهذا السيناريو العجيب. ولكن لنعترف هنا بأن إخراج المشهد شابه الكثير من العشوائية والتعجل والسطحية، بما يؤثر على ردود الفعل، أو إحداث ثغرات تستغلها بعض الأصوات المصرية أو غير المصرية.
تجربة القوى الوطنية مع دعم سكان غزة بقوافل إنسانية تضم كل الاحتياجات للقطاع المحاصر هى درس عظيم للغاية.
٧٠٪ من حجم المساعدات الغذائية والطبية التى دخلت لقطاع غزة منذ بدء الاجتياح الإسرائيلى الأخير، هى مصرية، كما أكد وزير الخارجية الدكتور بدر عبدالعاطى قبل عدة أيام. قرأنا وشاهدنا فيديوهات عن قوافل طويلة غنية بالخيرات من كل نوع، وهى تخرج من قرى فى قلب الدلتا وفى أقصى الصعيد. منظمات وجمعيات وهيئات إغاثة تحالفت مع بعضها البعض، لتجمع هذه المساعدات وتنقلها إلى منفذ رفح.. وبحمد الله، وبموجب اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، الذى شاركت مصر فى إقراره وضمان تنفيذه، فإن كل المساعدات المصرية وغير المصرية تصل حاليًا لغايتها، أى لسكان قطاع غزة.
رأيت حجم التنافس الشريف فى أجمل صورة فيما يتعلق بالمساعدات للفلسطينيين. القطاع الخيرى والشعبى فى مصر منظم جدًا ويتهافت على فعل الخير منذ زمن بعيد جدًا. بل إننى قرأت مؤخرًا معلومة شيقة جدًا عن ظروف إنشاء الهلال الأحمر المصرى. والمعروف أن الإمام محمد عبده هو أول من دعا لتأسيس لجنة للهلال الأحمر المصرى عام ١٨٩٦، لكن الانطلاقة الرسمية للهلال الأحمر تُنسب للشيخ على يوسف فى أكتوبر ١٩١١، وهو صاحب جريدة المؤيد ورئيس حزب الإصلاح. وتواكبت دعوة يوسف تلك مع اندلاع الحرب فى ليبيا بعد احتلال إيطاليا للبلد الشقيق.. رغم أنها كانت فى هذا الوقت تعد إحدى الولايات التابعة للدولة العثمانية. حينها بدأت أكبر عملية دعم ومساندة رسمية وشعبية عرفتها مصر طوال تاريخها القديم والحديث لنصرة ودعم شعب شقيق. وخرجت من مصر قوافل مساعدات غذائية وطبية ومالية، بل أقدم المئات من المتطوعين العسكريين والقوافل الطبية للانضمام للمقاومة.
هناك أمراء وأميرات من الأسرة العلوية تبرعوا بنسبة كبيرة من أموالهم ومقتنياتهم لتجهيز القوافل إلى ليبيا.
أصل لغايتى من هذا النموذج للقول إن لمصر خبرة عظيمة وقديمة فى دعم أشقائها، خاصة الدول الحدودية، وإن المنظمات والهيئات الخيرية لها خبرة تراكمية، وسابقة أعمال كبرى فى هذا الميدان، فما بالكم بالإعداد الجيد لقوافل دعم شعبى، وغايته وطنية خالصة.. والمهم هنا أنه لنصرة سيناء، أغلى قطعة فى أرض مصر.. وأشرفها على الإطلاق. وفى تقديرى أنه لو تُرك أمر تنظيم قوافل الدعم والمساندة المعبّرة عن رفض التهجير لسيناء أو لأى منطقة أخرى لمصر، للقطاع الشعبى الحقيقى لخرج المشهد بشكل أعظم وأكثر مصداقية مما جرى. أتمنى أن تكون هناك مسيرات جديدة لهذا الغرض، وليس المهم أن تكون فى قلب سيناء أو بالقرب من معبر رفح. من الممكن أن يجرى تنظيمها فى قلب القاهرة. لكن الأمر يحتاج لبعض الدعم والمساندة، والترخيص للمجتمع المدنى والأحزاب لشباب الجامعات.
بقيت الإشارة إلى أن الأجيال الجديدة ينبغى أن تعرف جيدًا حجم التضحيات التى قُدمت فى شبه جزيرة سيناء قديمًا وحديثًا. ندرس التاريخ المصرى بشكل مكثف فى سنوات الدراسة، والبعض يتوسع فى هذا التخصص بالدراسات الجامعية، لكن أقصد هنا أنه ما أحوجنا فى هذا الوقت لننتج، وبصيغ وأشكال مختلفة، مواد درامية وتسجيلية عن حدودنا، خاصة سيناء.. وأن مصر دفعت الكثير لكى تؤمّن حدودها دائمًا، وأن الأطماع الحالية والسيناريوهات التى تُراد للمكان ليست جديدة، ولكن دائمًا كانت مصر تكسب فى نهاية كل جولة وتستطيع أن تؤمّن حدودها بكل نزاهة وعدل.
أما عن دورنا فى الإعلام، فأشهد أن هناك هبّة قوية لرفض سيناريوهات التهجير، لكننى سأتناول رؤيتى لذلك فى مقال مقبل.