رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيسبوك

اخترت فيسبوك من بين شبكات التواصل الاجتماعى، اخترت التطبيق من بين تطبيقات شبيهة مشهورة كشهرته، كتويتر- أكس حاليًا- وإنستجرام وسناب شات، صنعت لنفسى صفحة فيه، وسكنت هناك، أنسًا بصحبته ومستريحًا إلى منصته، ولكن هذا لم ينف أننى اكتشفت العالم من خلاله اكتشافًا جديدًا مدهشًا، لم يكن كله جميلًا، وما الفيسبوك، وأمثاله من الوسائل، إلا العالم فى صورة مختصرة بالأساس!
فى الواقع حرمنى فيسبوك من التواصل الاجتماعى الحميم، وهو، فى ما يقال، اختراع للتواصل، صرت أفتقد سؤال كثيرين من الأهل والأصدقاء عنى، وإذا لقيت بعضهم، صدفة، واستفسرت منه عن غيابه الطويل، قال لى دون مبالاة: أراك على فيسبوك ناشطا وملهما فأطمئن عليك!
فيسبوك، وهو مثال لما يناظره فى العمل من التطبيقات الأخرى مع فوارق مفهومة، فتح مجالًا واسعًا للكلام، كل ذى لسان يتكلم، ولو لم يكن لسانه يحسن الكلام أو يعرفه أصلًا، وفرض على الناس أذواقًا من الفنون والآداب، لا مثيل لها فى الانحدار، وبالمثل جعل أهل الكلام الرائع يتكلمون، وأوجب فنونًا وآدابًا هى الغاية فى السمو.
الفضفضة قاعدة فيسبوك، وهو قاعدتها بالجملة، فكل ما يحويه فضفضة، لكنها تكون مريحة لأهلها والآخرين تارة، ووبالًا على الجميع تارة أخرى، وهو أكبر مساعد على خدمة النفس، بكل طريقة، مهما تكن فى مصلحة الآخرين أو ضد مصلحتهم، وأما عن الشائعات المغرضة والترندات التافهة فإن فيسبوك يقتاتها ويشرب من أنهارها الملوثة، غير أنه يقول الحقيقة فى بعض الأحايين، الحقيقة الناصعة التى يصعب أن يجدها الإنسان فى مكان آخر.
الدين والسياسة والجنس، تلك التابوهات التقليدية الراسخة، لعبة فيسبوك الأثيرة، يلعبها باحترافية عالية، وبالطبع يدعو الموجودين بساحته للعب، يغريهم فيقنعهم، وفى النهاية يغلب ويخسر الآخرون، إلا الأيقاظ النبهاء، ومهما زاد هؤلاء فإنهم قلة. للمال فى فيسبوك ملاكه وللأعمال رجالها وللدعاية الصاخبة شياطينها وملائكتها الذين يعرفون أساليب الخداع السوداء وأساليب الجذب البيضاء!
الفيديوهات والرسوم بطول الصفحات وعرضها، ضارة ونافعة، ولا مجال للفرز،
أنا أرى وأنت ترى وهم يرون، تبرز للسائر كأنها تنتظر مروره، وفيها ما فيها من الغواية المحرضة على التمكث قبالتها.  
البشر على فيسبوك، كالبشر فى الحياة بالضبط، لا يمكن لأحد أن يقبض ما فى دواخلهم، وبالتعامل المستمر ربما حصل على إجابات لأسئلة كثيرة تدور فى نفسه بشأنهم، وقد لا يحصل على شىء مهما حاول، فى الآخر هم أسماء وصور تملأ المكان الفسيح، والله وحده يعلم كنهها الافتراضى مثلما يعلمه فى الواقع الفعلى.
بجوف فيسبوك نبلاء كرماء وبجوفه لئام شحيحون، وثم إعجاب وتعليق يوضحان الفروق بين أخلاق البشر وخصالهم، وأما وجود الحذف والحظر فنعمة ونقمة فى الوقت نفسه، كل أمر يحمل وجهين متناقضين فى هذا التطبيق بالمناسبة، وقد يجرى استخدامهما لأسباب منطقية، وقد يجرى بلا سبب واحد مفهوم، والمعارك بشكل عام، إذ حضرت سيرتا الحذف والحظر، لا تهدأ لحظة فى فيسبوك، هى علامة الحيوية الوحيدة تقريبًا، هذه مصيبة كبيرة بالطبع، لكنها أم الحقائق، وكل من ليس بيده سلاح فيسبوكى صارم حاد، يكون لقمة مستساغة بأطباق الآخرين.
لقد أصابنى فيسبوك بدوار هائل مستمر، ولا يزال، وأخشى أننى أدمنت وجودى فيه، كمن أدمن الوجود فى مقبرة مميتة وهو يتنفس أحلى أنفاسه العمرية الناضجة وأغلاها!