هل يخشى المثقفون خوض معركة التنوير؟!
(١)
«كاملات عقل ودين.. دفاعًا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم».. هذا عنوان كتاب الكاتبة أسماء الشرقاوى، الذى قامت الدار الناشرة للكتاب بإصدار بيان صحفى بسحبه من معرض القاهرة للكتاب ووقف نشره! وفى مسوغات قرارها كما جاء بالبيان قالت دار النشر إنها لم تتعمد الإساءة للحديث النبوى أو التقليل من قيمته، وإنما تداول الآراء حوله.. وإنها استجابت للرفض العام احترامًا لمشاعر القراء واحترامًا للنصوص الدينية..!
هذه الواقعة المحزنة تلقى بحجر فى بركة راكدة وتطرح السؤال الصعب.. لا أعلم يقينًا من أوحى للدار بهذا القرار وهذا البيان.. لكن أتساءل: هل يخشى المثقفون من المسئولين عن بعض دور النشر المصرية خوض معركة التنوير، ومواجهة التدين الشعبى، ومواجهة نفوذ رجال الدين الروحى فى المجتمع؟
هذه الواقعة المحزنة تلقى بحجر فى بركة راكدة وتطرح السؤال الصعب.. لا أعلم يقينا من أوحى للدار بهذا القرار وهذا البيان.. لكن أتساءل.. هل يخشى المثقفون من المسؤلين عن بعض دور النشر المصرية خوض معركة التنوير، ومواجهة التدين الشعبى، ومواجهة نفوذ رجال الدين الروحى فى المجتمع؟
(٢)
قبل الخوض فى هذه المنطقة الشائكة أود الإشارة إلى تجربة شخصية مررتُ بها حين شرعت فى نشر كتابى «الجلمود» عام ٢٠١٦م. فبعد أكثر من عامين قضيتهما فى القراءة والبحث وجمع المادة الأكاديمية للكتاب، قمتُ بكتابته وإعداده للنشر. كانت مرحلة ركود اقتصادى، فبحثت أولًا عمن يمول الكتاب، ووجدت بالفعل صديقة تحمست للفكرة وقبلت تمويل نشر الكتاب، وبقيت مرحلة البحث عن ناشر.
وقتها اكتشفت جزءًا من إجابة هذا السؤال.. أحدهم طلب عرض الكتاب على جهة دينية أولًا وبصفة ودية غير رسمية وغير قانونية حتى يحصل الكتاب على موافقة هذا الناشر، وقطعًا رفضت هذا الطرح جملة وتفصيلًا. رفضت منح أى جهة دينية أى ولاية غير قانونية وغير دستورية على عقلى أو على حق الفكر والتفكير فى مصر التى يبقى فيها هذا الحق حصريًا لجهات قانونية مدنية دون غيرها.
ناشر آخر صديق لى صارحنى بسبب الرفض، وأنه لا يود الزج بعمله فى هذه المنطقة المثيرة للمشاكل، خاصة أنه متخصص أكثر فى نشر الروايات.
ناشر ثالث طلب الحصول على موافقة شريكته المختصة بالإجازة الفكرية للكتب المطروحة على الدار. وبعد أن قرأتْ الكتاب طلبت منى صراحة تغيير بعض الفقرات والعبارات، وقد رفضت أيضًا هذا الإملاء العقلى!
حتى وجد الكتاب ناشرًا وافق على النشر قبل المعرض بفترة قصيرة، حتى إن الكتاب قد صدر بعد بدء المعرض بأيام.
(٣)
بيان سحب الكتاب يدين دار النشر مهنيًا وأخلاقيًا وثقافيًا. فمن المفترض ألا تضع دار نشر اسمها على غلاف كتابٍ قبل أن تكون قد اقتنعت بمنطقية ما جاء به حتى لو لم يكن يتفق مع قناعات المسئولين عن تلك الدار. وقيامها بسحب الكتاب والاعتذار عن نشره إما أنه يدل على عدم قيام مسئوليها بإدارة عملهم باحترافية أو أنهم قد اتخذوا قرار السحب لمجرد الخوف من المواجهة، وأن فعل النشر للقائمين على الدار لا يغدو أن يكون مجرد بيزنس لا أكثر ولا أقل.
أما الإدانة الأخلاقية التى تكشف عن نفسها فى عبارات البيان الرسمى فهى أكثر ما تحتويه القصة من جوانب مخجلة. فكاتب البيان يدين قصدًا أو جهلًا الكاتبة حين ينفى عن الدار سوء القصد، ويقفز إلى نتيجة صواب وصحة الحديث المنسوب للنبى، صلى الله عليه وسلم، الذى يقوم عنوان الكتاب ضمنًًا بنفيه والاعتراض عليه. لقد سلّمت الدار بهذا البيان الكاتبة لمعارضيها دون أى مساندة لها، أو دفاع عن حقها فى التعبير عن رأيها الذى لم تأتِ به من عندياتها بل توصلت إليه بعد رحلة بحثية شاقة.
أما الإدانة الفكرية أو الثقافية فهى فى إقرار دار النشر عبر هذا البيان لمبدأ فى غاية الخطورة، وتشتد خطورته من كونه يأتى من دار نشر! هذا المبدأ هو قصف الأقلام فقط استجابة لاعتراض شعبى أو اعتراض مبنى على ما استقر فى العقل الجمعى من أفكار دون طرح هذه الأفكار لمناقشة موضوعية حقيقية.
فماذا لو كتبتُ كتابًا عنوانه: لن تكون هناك خلافة راشدة.. أو لم آتِكم بالذبح وإنما بالرحمة.. أو لم أؤمر بمقاتلة الناس حتى يشهدوا أنه لا إله إلا الله.. أو أى عنوان آخر يصطدم بما يعتقد العامة أنها أحاديثٌ وردت عن النبى،صلى الله عليه وسلم؟!
(٤)
يحتوى كتاب الكاتبة على محتوى قوى من عدة فصول، أول ثلاثة منها تقدم بها لما استقر فى عقلها وضميرها من نتائج قامت بصياغتها فى باقى فصول الكتاب. فهل قرأ المعترضون ما كتبته الكاتبة؟! لا أعتقد. هم رفضوا العنوان دفاعًا لما استقر فى العقول عبر غرسه فى عقود سابقة. وفى غمرة الغضب والرفض لم ينظر أحدهم إلى باقى عنوان الكتاب من أنه دفاع عن السيرة النبوية. هذا هو جزء من أزمة عقل مصر الجمعى الآن.
دفاعٌ مغمض العقل عن التفكير. دفاعٌ عن بناءٍ متراكم عبر عصور سابقة يقوم على حراسته سدنة وأصحاب نفوذ مجتمعى يعتقدون أن من حقهم حرمان أبناء الأمة المصرية من حق التفكير والتحرر من أسر هذا البناء والخروج بمصر من مرحلتها العقلية الحالية.
نعم نحن الآن أسرى خديعة كبرى. كلما اقترب صاحب عقل من هذا التراث البشرى يتم اتهامه بالإساءة إلى السيرة النبوية.
سدنة المعبد يخدعون العامة بهذا الاتهام. يخرجون بالسجال خارج سياقه الحقيقى. هذا السجال لا يختص بالموافقة أو رفض السيرة النبوية، إنما حول ما هى السيرة النبوية الحقيقية؟!
كل من اقترب كان يبحث فى هذه المساحة. مساحة توثيق السيرة النبوية وما الذى قاله النبى، صلى الله عليه وسلم، حقًا، وما تمت نسبته كذبًا إليه بشكل واضح صريح، وما الذى تمت نسبته إليه ويغلفه الشك بدرجات متفاوتة.
(٥)
أنا أدرك هذه الخديعة جيدًا، ولقد نشرتها فى كتابى «الجلمود» عام ٢٠١٦م. يصعد أحدهم المنبر ويصرخ فى وجوهنا بعبارة قاطعة جازمة «قال رسول الله فى حديثٍ صحيح....» ثم يقول المتن أو نص العبارة التى يريد إقناعنا بأنها من ألفاظ النبى، صلى الله عليه وسلم، دون أن يخبرهم أن كلمة صحيح ليست إلا مصطلحًا أكاديميًا صاغه بشر ويتعلق بالسند. تلك العبارة الاستباقية- مع عدم قيام العامة بأى قراءات بحثية جادة سابقة- تُخضع المستمعين تمامًا. فمن هذا الذى يمكنه أن يعترض على ما قاله النبى،صلى الله عليه وسلم؟!
هذه هى الخديعة التى تم بمقتضاها غرس كومة من الأفكار الباطلة الضالة، والتى ثبت يقينًا ضلالها وكذبها، لكن بعد أن كانت قد استقرت فى التربة المصرية.
تحريم بعض الفنون، وتحريم تنظيم الأسرة، والاعتقاد بعودة الخلافة، والاعتقاد بقرشية حاكم المسلمين، ووجوب تغطية شعر المرأة، وعدم أحقية أهل الكتاب ببناء دور عبادة بعد دخول الإسلام لأى بلد، وشرعية قتل مجموعة كبيرة من أصحاب الألقاب الرسمية مثل رؤساء الدول والوزراء ورجال القوات المسلحة والشرطة والمفكرين بزعم ارتدادهم لرفضهم الحكم بما أنزل الله!
لا فرق، هى قصة حزينة واحدة. ألم تشهد عمائمٌ كبرى بذلك فى أروقة المحاكم؟! ألم ينظر للقتلة علماءٌ حاصلون على درجات أكاديمية فى جامعات دينية؟. ألم يقتلوا فرج فودة بنفس الزعم الذى تم بمقتضاه قتل قلم أسماء الشرقاوى؟!
كل صفحات القصة الحزينة ومشاهدها استندت كذبًا لعبارات منسوبة للنبى! ماذا لو قام أحدهم مثلًا بالاعتداء على الكاتبة بعد أن تخلت عنها دار النشر وأقرت ضمنًا فى عبارات بيانها- خوفا على مكاسبها- بأن الكتاب يسىء لحديث نبوى؟!
إذا كان كثيرون ممن نتوسم فيهم العلم يقبلون بفكرة إلغاء معانى آيات التسامح فى القرآن الكريم انتصارًا لبعض هذه العبارات المنسوبة للنبى، صلى الله عليه وسلم، فقط حتى لا يعترفوا بتهافت بنائهم البشرى الذى يدافعون عنه مهما بلغت الأثمان المدفوعة!
(٦)
إننى أعلن تضامنى التام مع الكتاب وكاتبته، وأزيد على ما جاءت به كلَّ ما خطته يدى فى كتابى «الجلمود» عن قضايا أخرى سياسية ومجتمعية وحضارية ضربت مصر فى العقود السابقة لسببٍ واحد هو تخلى المثقفين عن خوض المواجهة.
إننى أدافع عن حق المصريين فى التفكير الذى منحه الله لنا ولن نتنازل عنه، وأدافع عن حق هذا الوطن فى التحرر مما علق به من أفكار ضالة مهما تكون قوة رسوخها فى العقل الشعبى الجمعى. فهذا الرسوخ لا يعنى صوابها بقدر ما يعنى تخاذلنا فى كشف سوءتها واضطراب مضمونها وشذوذها عما ورد فى القرآن الكريم.
نعم هناك أحاديث كثيرة منسوبة للنبى، صلى الله عليه وسلم، مكذوبة أو مشكوك فى صحتها حتى لو صرخ أحدهم بهذه المصطلحات الأكاديمية، مثل صحيح وحسن وغيرهما. وهذا ليس من بنات أفكارى، بل ما صاغه بالفعل متخصصو علوم الحديث الذين جمعوا المتواتر- والذى وصفوه بالأكثر احتمالًا وروده عن النبى، صلى الله عليه وسلم- فى عدد محدود جدًا ورد فى كتب كثيرة. وباقى الأحاديث وصفت بالآحادية ظنية الثبوت، أى أنها تقبل الشك والتشكيك والمناقشة الموضوعية. وأى مسلم سوف يخوض رحلة بحث جدية لن يصل إلا لما وصلتُ إليه منذ تسع سنوات ووصلت إليه الكاتبة فى كتابها، وكتبه الشيخ المراغى فى مشروعه التنويرى الذى تم التعتيم عليه عمدًا! المثقفون الذين لن يقفوا فى صف مساندة الكاتبة والدفاع عن حقها فى التفكير وحق كتابها فى التداول، هؤلاء يفقدون شرعيتهم الفكرية والوطنية تمامًا.
فالأمم لكى تنتقل من مرحلة حضارية إلى أخرى تحتاج إلى مثقفين مقاتلين. شرعية المثقف ليس فى الدفاع عن أفكاره وإنما فى الدفاع عن حق الجميع فى التفكير والتعبير. وهذه شرعية المثقف الفكرية.
أما الشرعية الوطنية فهى أكثر وضوحًا فى مصر، لما خاضته فى العقود الأربعة الأخيرة. فمصر تجرعت الكأس حتى الثمالة، من الفكر التكفيرى الدموى الصريح حتى الفكر الظلامى فى مفردات الحياة، ولولا خوض الجولات السابقة لما كنا خرجنا من مرحلة سفك الدم الحرام فى الشوارع!
والآن نحن نواجه محاولة جديدة للعودة للوراء خطوات أخرى. تبدأ بخضوع دار نشر، ثم تمتد بعد ذلك بمنح أسماء وجهات حقًا للتحكم فى حركة النشر والثقافة المصرية من منظور دينى.
لقد أحزننى المشهد وأنا أقارنه بحلقات برنامج «ألا يتفكرون» على شاشة إحدى القنوات العربية. أحدهم، وهو شيخ مصرى، قال إن الإجماع معصوم! رد عليه المذيع، ورد عليه مفكر من جنسية عربية ثانية يمثل الفكر التنويرى!
أشعر بالحزن أن يتم قصف قلم كاتبة مصرية بينما دول أخرى- كان لها دورها التاريخى فى نشر الفكر الظلامى- تحرر نفسها من ذات الفكر وتقدم برامج بلغ سقف جرأتها سقفًا غير مسبوق هناك.. ماذا نريد بمصر بحق السماء؟!