مصر الحاضرة بقوة فى المشهد الفلسطينى
هل يغامر الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، بما يدعيه من قوة، ويخوض غمار مشروع خاسر حتى النهاية، بإصراره على تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن.. متخليًا بذلك عن الصورة الأمريكية أمام العالم من أنها راعية السلام، الممسكة بميزان العدل بين شعوبه، حتى ولو كانت صورة هشة، لا تستند إلى واقع على الأرض؟.. ناهيك عن أن إصرار ترامب على تحقيق فكرته التى تتعارض مع القانون الدولى والقيم الإنسانية فى العالم، قد تُعرّض مصالح الولايات المتحدة فى المنطقة للخطر، بما يجره هذا الإصرار الترامبى، من تداعيات لا يُحمد عقباها على واشنطن، إذا هى أصرت على السير فى ركاب ترامب، وذهب إلى تحقيق أوهامه بالقوة العسكرية أو العقوبات الدولية، والتى أرى أنه ليس من مصلحة أوروبا الانجرار وراء هذه الأوهام، لأنها ستفتح على دولها أبواب الجحيم القادم من الشرق الأوسط، بل ومن كل دول القارة الإفريقية، المتعطش شبابها إلى الهجرة بعشرات الملايين نحو أرض الأحلام، فى القارة العجوز، وحتى إلى الولايات المتحدة.
●●●
تحدث ترامب مع العاهل الأردنى، الملك عبدالله الثانى، يوم السبت الماضى، فى خطوة أولى مهمة، فى بداية إدارة ترامب فى السيطرة على السياسة الخارجية فى المنطقة.. وتحدث ترامب بالفعل مع ولى العهد السعودى، الأمير محمد بن سلمان، فى أول محادثة له مع زعيم فى المنطقة.. ووفقًا لتقرير شبكة CNN، طرح الرئيس الأمريكى فكرة لإيواء بعض سكان غزة فى الخارج أثناء إعادة إعمار غزة.. ومن المهم أن نلاحظ، أن الملك عبدالله وترامب يعرفان بعضهما البعض منذ ولاية ترامب الأولى.. وكان الملك أحد أوائل الزعماء الأجانب الذين ذهبوا إلى واشنطن وتحدثوا إلى ترامب، بعد عشرة أيام من تنصيبه عام 2017.. والآن تحدث الزعيمان عن المستقبل.. وتجدر الإشارة إلى أن الملك الأردنى، لم يحصل فى المرة الأولى على ما يريده من ترامب.. بل على العكس تمامًا.. وكان أحد أهم مخاوفه هو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، الذى تم بالفعل.. وهذه المرة، يواجه الرئيس الأمريكى طلبًا أكبر من المرة السابقة.. فقد ذكرت شبكة CNN، أن (الرئيس دونالد ترمب أشار إلى أنه تحدث مع ملك الأردن، بشأن بناء مساكن ونقل أكثر من مليون فلسطينى من غزة إلى الدول المجاورة)، تقول عنه CNN، إنه اقتراح رائع من رئيس أمريكى فى السلطة)!!.
يوجد فى الأردن بالفعل عدد كبير من السكان الفلسطينيين، معظمهم من الأشخاص الذين فروا من حرب عام 1948، وكذلك حرب عام 1967.. واجهت المملكة الأردنية، جراء ذلك، توترات فى الماضى بشأن هذه القضية.. شكلت العديد من الجماعات الفلسطينية المعارضة لإسرائيل خلايا فى مخيمات اللاجئين فى الأردن فى ستينيات القرن الماضى.. وقد أدى هذا إلى اشتباكات مع القوات الإسرائيلية فى أماكن مثل الكرامة.. وفى وقت لاحق، اندلعت حرب أهلية قصيرة فى الأردن، عندما حاول المتطرفون الفلسطينيون إيذاء الملك.. وأُجبِرت الجماعات على المغادرة، لكن الأردن لم يعد كما كان قط.. فهو دائمًا فى حالة توتر.. إن التركيبة السكانية مهمة فى الأردن.. فالمملكة تتكون من قبائل بدوية وعرب يعيشون فى شمال الأردن، ويتحدون لدعم المملكة.. ولكن الفلسطينيين وغيرهم من اللاجئين الذين قدموا، مثل العراقيين والسوريين، كان لهم تأثير على البلاد.. وبما أن إمكانيات المملكة الأردنية الهاشمية ضعيفة وفقيرة نسبيًا.. وربما لا ترغب فى إضافة المزيد من سكان غزة إلى هذا المزيج.. ولكنها قد تستقبل عددًا رمزيًا من السكان لإرضاء الرئيس الأمريكى، كما تقول CNN.. ذلك، لأن فى الكثرة العددية للفلسطينيين فى الأردن، عما هم عليه الآن، إخلال بالتركيبة الديموجرافية فى المجتمع الأردنى، تُهدد استقراره، وربما أدت إلى نشوء كيان فلسطينى كبير هناك، يهدد الدولة العبرية ذاتها، المتاخمة للأردن فى الحدود، والملاصقة للعراق من ناحية أخرى.. وهذا ما يتخوف منه بعض الإسرائيليين، الذين يرون فى تهجير جانب من أهالى غزة إلى الأردن، أمر يُجانبه الصواب.. ونفس الحال مع مصر، التى تشترك مع إسرائيل وغزة فى حدود مباشرة.
إن التحدى الذى يواجه ترامب فى غزة، هو أنه ليس أول شخص يعتقد أن القطاع يمكن إعادة بنائه وتحقيق النجاح فيه.. فبعد الانسحاب الإسرائيلى عام 2005، قام العديد من الأشخاص ذوى النوايا الحسنة، بتمويل شراء البيوت الزجاجية فى المجتمعات الإسرائيلية السابقة فى غزة.. وتم دفع هذه الخطة من قبل المبعوث الأمريكى، جيمس وولفنسون.. وتم جمع نحو أربعة عشر مليون دولار، من الأشخاص الذين أرادوا الحصول على الدفيئات الزراعية وتسليمها إلى سكان غزة.. وتم جمع الأموال، ولكن العديد من هذه الدفيئات دمرت من قبل سكان غزة.. وتستطرد الشبكة، أن الدفيئات الزراعية ليست المثال الوحيد للأفكار الجيدة التى غرقت فى رمال غزة.. فقد تدفقت استثمارات كثيرة إلى غزة بعد حرب 2009، وكان من المفترض أن تساعد إعادة الإعمار فى تحويل بعض المناطق فى غزة، إلى منازل حديثة ومجتمعات نموذجية.. وقد نجحت هذه الفكرة لبعض الوقت.. ولكن هجوم حماس فى السابع من أكتوبر، أدى إلى دمار العديد من هذه المناطق.. ومن الأمثلة الأخرى على الأفكار الخيالية التى طرحت فى غزة، فكرة بناء جزيرة اصطناعية قبالة ساحل غزة، وكأن غزة تشبه الإمارات العربية المتحدة.
لقد تم طرح فكرة نقل سكان غزة إلى خارج القطاع.. وفى الماضى، ناقش البعض فكرة إعادة توطين سكان غزة فى سيناء.. وكانت مصر دائمًا حساسة تجاه مثل هذه المقترحات.. وسوف تكون مصر حساسة اليوم.. فهى لا تريد مليونًا من سكان غزة، الذين تعرف أن إسرائيل من المرجح أن تمنعهم من العودة.. ناهيك عن إيمان القاهرة، بأنه بموافقتها على ذلك، تكون قد ساعدت على وأد القضية الفلسطينية.. ومن المرجح، أن تكون القيادة الإسرائيلية ذاتها عقبة أخرى أمام اقتراح ترامب.. فإذا كان ترامب مهتمًا بشدة بغزة وإعادة بنائها، فلن يرغب فى تدميرها بسبب حرب أخرى.. وهذا من شأنه أن يجعل من الصعب على إسرائيل العمل فى غزة، ومن المعقول أن ترغب حماس فى الانضواء داخل أى مناطق تم بناؤها حديثًا.. كما تعارض حكومة إسرائيل إدارة السلطة الفلسطينية لغزة.. لذلك، لا يبدو أن هناك بديلًا مطروحًا لحكم حماس.. إن أفكار ترامب لإعادة بناء غزة وتحويلها إلى دولة ساحلية ناجحة، أشبه بمدينة ميامى الأمريكية، كبيرة، تواجه العديد من العقبات.. وربما لا تكون حماس هى العقبة الأكبر.
●●●
بعد ساعات قليلة من تصريحات ترامب، أعلنت مصر عن رفض مقترح للرئيس الأمريكى بنقل سكان من غزة إلى أراضيها.. وأكدت وزارة الخارجية ما وصفته بتمسك مصر بثوابت ومحددات التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، مشددة على أنها تظل القضية المحورية فى الشرق الأوسط.. كما شددت، فى بيان رسمى، على رفضها أى مساس بحقوق الشعب الفلسطينى «غير القابلة للتصرف، سواءً من خلال الاستيطان أو ضم الأرض، أو عن طريق إخلاء تلك الأرض من أصحابها، من خلال التهجير أو تشجيع نقل أو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، سواءً كان بشكل مؤقت أو طويل الأجل، وبما يهدد الاستقرار ويُنذر بمزيد من امتداد الصراع إلى المنطقة».. ودعت وزارة الخارجية المجتمع الدولى فى هذا السياق، إلى العمل على بدء التنفيذ الفعلى لحل الدولتين.
وفى مفاجأة مدوية، لم يتوقعها قادة إسرائيل، تدفق مئات الآلاف من النازحين، عند الساعة السابعة من صباح أمس الإثنين، إلى مدينة غزة وشمال القطاع عبر شارع الرشيد الساحلى، سيرًا على الأقدام بما يشبه السيل البشرى، فى مشهد مهيب اختلطت فيه مشاعر الحنين بذكريات المعاناة.. واعتبره الكثيرون «هزيمة للاحتلال ومخططات التهجير.. وكان ردًا على كل الحالمين بتهجير الشعب الفلسطينى».. وقالوا إن «عودة النازحين إلى بيوتهم، تثبت مجددًا فشل الاحتلال فى تحقيق أهدافه العدوانية فى تهجير هذا الشعب وكسر إرادة صموده»، ومؤكدين أن «مشاهد عودة الحشود الجماهيرية إلى مناطقهم التى أجبروا على النزوح منها، رغم بيوتهم المدمرة، تؤكد عظمة هذا الشعب ورسوخه فى أرضه، رغم عمق الألم والمأساة».. جاءت هذه المشاهد المفعمة بفرح العودة وحب الأرض والتشبث بها، رسالة لكل المراهنين على كسر إرادة الشعب الفلسطينى وتهجيره من أرضه.
وكانت مصر كعادتها حاضرة داخل المشهد، الذى أسميه «طوفان العودة»، برجالها المنضوين فى اللجنة المصرية القطرية، لتنظيم حركة العودة من الجنوب إلى شمال قطاع غزة، فى زحف بشرى، كان من الصعب أن تدرك نهايته، والناس يهللون ويكبرون، فى مشهد أقرب ما يكون إلى نفرة الحجيج من عرفات الله إلى المزدلفة ومنى فى مكة المكرمة، بعدما فتحت وزارة الداخلية فى قطاع غزة شارع الرشيد لعبور المشاة وشارع صلاح الدين لعبور المركبات، عبر محور نتساريم الإسرائيلى، الذى وقف ذات يوم، قبل تفكيكه، حائلًا دون عبور الفلسطينيين إلى حطام بيوتهم المدمرة.. وقد أعجبنى قول سيدة فلسطينية، «غزة بنعمرها والشهداء يرحمهم الله»، بينما قال رجل خمسينى، «كان خطأ أن نترك ديارنا، لكنا الآن نعود إلى حطامها ولن نتركها ثانية مهما حدث.. نموت فوقها ويكون ترابها قبورنا».
هذه العودة الفلسطينية إلى أرض الذكريات والأحلام والوطن الذى بعشعش فى النفوس، كانت أبلغ رد على مقترحات ترامب بتهجيرهم إلى مصر والأردن، مؤقتًا أو طويلًا.. ومصر بلا شك تعتمد على هذا الرفض للمخطط الترامبى.. فمع تمسك الفلسطينيين بأرضهم، وهو ما ظهر بوضوح فى عودتهم إلى شمال غزة، وإصرارهم على الدفاع عن حقوقهم الوطنية، يعزز موقفهم الرافض للخطط الأمريكية التى تخالف القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة.. وكما يقول وزير الخارجية الأسبق، محمد العرابى، إن «الفلسطينيين ليسوا مهاجرين يمكن ترحيلهم كالمكسيكيين خارج أمريكا، بل هم شعب يناضل من أجل حقوقه، وهذه ورقة قوية يمكن استغلالها لإفشال المخطط، خصوصًا فى ظل التضحيات الكبيرة التى قدمها الفلسطينيون خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية».. والقاهرة قادرة على التصدى لهذه المخططات، وهى التى رفضت مرارًا كل محاولات تهجير الفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية.
لقد رفضت مصر رسميًا، عبر بيان وزارة الخارجية المخطط الأمريكى، وعبر الشعب المصرى عن نفس الرفض، عبر المثقفين والمفكرين والإعلاميين وجموع الناس على وسائل التواصل الاجتماعى، وأكد بيان مجلس النواب، المُعبر عن جموع الشعب المصرى، دعمه الكامل لـ «جهود الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى تقع على عاتقه مسئولية حماية الأمن القومى المصرى ومقدرات شعب مصر»، واتخذ البرلمان أربعة قرارات عاجلة، «أولًا، ترجمة البيان الرسمى للمجلس حول القضية الفلسطينية ومحاولات تهجير الفلسطينيين إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وإرساله إلى كل المنظمات البرلمانية الدولية والإقليمية، بهدف تعزيز الدعم الدولى للموقف المصرى الرافض لهذه المحاولات، وتوضيح تداعياتها الخطيرة على حقوق الشعب الفلسطيني.. وثانيًا، دعوة اللجنة العامة لمجلس النواب لعقد اجتماع عاجل لوضع خطة عمل متكاملة تستهدف تعزيز التواصل مع البرلمانات الإقليمية والدولية، وإبراز موقف مصر الراسخ تجاه القضية الفلسطينية، مع تنسيق الجهود البرلمانية الدولية لدعم الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية وفق المرجعيات الدولية.. وثالثًا، إرسال خطاب رسمى إلى مجلس الأمن القومى المصرى، يتضمن الموقف الرسمى لمجلس النواب، بشأن محاولات تهجير الفلسطينيين وإعادة توطينهم، مع توضيح مدى تأثير هذه المحاولات على الأمن القومى المصرى.. ورابعًا، دعم الجهود الدبلوماسية المصرية الرامية إلى تثبيت الهدنة فى قطاع غزة، بالتنسيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين، لضمان استقرار الأوضاع الميدانية، وتهيئة الظروف لإحياء مسار التسوية السياسية، بما يحافظ على حقوق الشعب الفلسطينى المشروعة».
●●●
■■ وبعد..
فإن صمود أهالى قطاع غزة طوال فترة الحرب التى استمرت خمسة عشر شهرًا، يؤكد تمسك الشعب الفلسطينى بأرضه ورفضه لتصفية القضية أو التهجير لأى دولة بشكل مؤقت.. وما عودة الآلاف من أهالى غزة إلى شمال القطاع بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، إلا تأكيد على حرص الشعب الفلسطينى وتمسكه بوطنه وأرضه، وعزمه المساهمة فى إعادة الإعمار.. ومصر، الدولة ذات سيادة وصاحبة قرارها الوطنى المستقل لن تقبل بفرض أى توجيهات من أى دولة.. وكما جعلت القيادة المصرية مسألة تهجير الفلسطينيين خطًا أحمر منذ تفجر الصراع، هناك أيضًا الرفض الشعبى المصرى لتصريحات ترامب، وتمسكه بالموقف المصرى الثابت للحفاظ على حقوق الشعب الفلسطينى، معتبرًا أن تصريحات ترامب مجرد أحلام وأحاديث، لا يستطيع أن يلزم بها أحد، وأنه سبق وكررها فى ولايته الأولى منذ أربعة سنوات، ويؤكد بها انعزال أمريكا عن الموقف الدولى، الرافض لتصفية القضية الفلسطينية، والمؤيد لحقها فى الانضمام للجمعية العامة للأمم المتحدة، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.. كل ما ستؤدى إليه هذه الأفكار، أنها ستجذر لكراهية الشعوب العربية للولايات المتحدة، التى ستعتبرها عدو يهدف إلى تحقيق مصالح إسرائيل، وليس الدعوة للوصول للسلام فى منطقة الشرق الأوسط، والحفاظ على حقوق الشعب الفلسطينى.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.