أمريكا تلعب بالعالم وإسرائيل مجرد بلطجى بالأجرة
الفكرة السائدة بأن إسرائيل تسيطر على الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تحكمها فى الاقتصاد ومراكز صنع القرار الأمريكى هى فكرة واهمة وكذبة تاريخية كبرى، ولا شك أن أمريكا هى المؤسس والمخطط والمنفذ لكل ما يجرى من أحداث فى هذا العالم، وهى مَن تقود إسرائيل وتوجهها وتحميها وليس العكس كما يُشاع، ويبدو أن العالم الغربى الذى كان يلعب دور المستعمر قد ضاق بفكرة الاحتلال والاستيطان ببلاد دول العالم الثالث لعقود طويلة، ولنا أن نتصور حجم النفقات الهائلة التى كانت تنفقها دولة مثل إنجلترا من أجل السيطرة على مستعمراتها الشاسعة فى العالم، والتى وصلت إلى نحو 80 % من الدول، منها على سبيل المثال لا الحصر فى الوطن العربى فقط اليمن ومصر والسودان والصومال والعراق وفلسطين والأردن والمغرب ومنطقة الخليج العربى، بخلاف المستعمرات الكبرى الأخرى فى الهند وأستراليا وأمريكا الشمالية وغيرها.
ومن البديهى أن كل دولة تحتاج لجيش كامل وقوى ومجهز بأحدث الأسلحة فى وقتها للسيطرة عليها وحمايتها من الأعداء التقليديين للتاج البريطانى، وأقصد هنا فرنسا وإسبانيا وهولندا، ومعروف أن بريطانيا كانت لها ثلاثة أهداف من استعمارها للشرق الأوسط، تمثّل الهدف الأول فى حماية الطرق التجاريّة شرق البحر الأبيض المتوسط، وضمان الاستقرار فى منطقة إيران والخليج العربى، والثانى المحافظة على سلامة الدولة العثمانيّة، أمّا الهدف الأخير فهو حماية الطرق البحريّة والبريّة المؤدية إلى الهند، وقد استطاعت بريطانيا من خلال علاقاتها الجيدة مع الدولة العثمانيّة أن تُحسّن وضعها الاقتصادى فى منطقة الشرق الأوسط، لكن الأحوال تبدلت وغرقت بريطانيا العظمى فى الديون بعد ذلك.
ومعروف أنه عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 تم تقدير الديون المستحقة لمصر لدى بريطانيا بنحو 450 مليون جنيه إسترلينى نظير استخدام بريطانيا المنشآت والخدمات والمرافق والأغذية المصرية خلال الحرب، والأهم أن إمبراطورية بريطانيا العظمى قد ضعفت وتفككت، وورثتها الولايات المتحدة الأمريكية فى التاريخ الحديث بعد عقود طويلة من نيل استقلالها فى الحرب الثورية عام 1776 بقيادة جورج واشنطن، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الصناعية الرائدة فى العالم فى مطلع القرن العشرين، بسبب فورة ريادة الأعمال والتصنيع ووصول ملايين العمال والمزارعين المهاجرين للشواطئ الأمريكية ومحاولة الاستفادة من الثورة الصناعية فى أمريكا، بالإضافة إلى إنشائها السكك الحديدية واكتشاف المناجم والبترول، وكان من الهام أن تفكر أمريكا فى طرق مختلفة لإجبار دول العالم الثالث على شراء منتجاتها الصناعية واستيراد مواد الطاقة والبترول منها، ولن يتحقق ذلك إلا إذا ظلت هذه الدول فقيرة وغير قادرة على الاستقلال الصناعى والعلمى والاقتصادى وامتلاك سُبل نهضتها.
وكانت الرؤية أن تظل تلك الدول تحت خط الوجود ولا تملك أن ترفع رأسها إلى النور، والطريق الأسرع والأسهل لتحقيق ذلك هو اختلاق الحروب والنزاعات فى مناطق بالعالم تمثل السوق الاستهلاكية الكبيرة للمنتجات الأمريكية ومنها القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط والخليج العربى، ولذلك استغلت أمريكا باعتبارها الوريث العالمى الجديد للقوى العظمى دولة إسرائيل المولودة من رحم الإمبراطورية البريطانية على إثر وعد بلفور الذى أصدرته الحكومة البريطانيّة خلال الحرب العالمية الأولى لإعلان دعم تأسيس وطن قومىّ للشعب اليهودىّ فى فلسطين التى كانت منطقة عثمانية، وما نتج عنه بعد ذلك من إعلان قيام إسرائيل.
والواضح أن أمريكا خططت لكى تكون إسرائيل هى الفزاعة وموطن التهديد فى منطقة الشرق الأوسط التى تمثل قلب العالم، وبدأت فى دعم إسرائيل وتقويتها كى تصبح قوة تهديد كبرى فى المنطقة، وبالتالى تصبح المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط سوقًا قوية لاستهلاك الصناعات الأمريكية وخاصة الصناعات العسكرية والطائرات الحربية والصواريخ والمدرعات ووسائل التكنولوجيا الحديثة والاتصالات، مع ضمان تفوق إسرائيل دائمًا حتى تصبح تلك الدول فى حاجة دائمة إلى السلاح والصناعة الأمريكية، وبعد ذلك تبدأ التحالفات والإملاءات، ولا مانع من تسميتها ببعض المسميات التى تمثل الماكياج السياسى الذى يجمل قبح الخطط الأمريكية الوضيعة مثل المبادرات والشراكات والصداقات واتفاقيات الدفاع المشترك والمعاهدات، وكلها مسميات رومانسية تخفى تحت جلدها خططًا للسيطرة والهيمنة.
وكان من الواضح أن كلًا من إسرائيل وأمريكا فى حاجة لبعضهما البعض، فالأولى تحتاج إلى الولايات المتحدة لكى تبقى على قيد الحياة وكى تنفذ دوافعها الدينية، أما الولايات المتحدة تحتاج إسرائيل لكى تبقى فى المنطقة متغلغلة ومسيطرة على مقدرات شعوبها بعيدًا عن فكرة الاستعمار القديمة التى تفقد فيها الدول المستعمرة التريليونات من الأموال بخلاف التوسع فى تجنيد الشباب لسنوات طويلة، بالإضافة إلى فقد هؤلاء الجنود فى الحروب الإقليمية والعالمية والعمليات الفدائية، وهو ما كان يغضب شعوب الدول الاستعمارية ويشعل ثوراتها.
ولا شك أنه لم يكن بإمكان إسرائيل أن تظهر كدولة وتكون قادرة على التطور عسكريًا ونوويًا لولا دعم واشنطن، فلا تملك إسرائيل أى علاقات قوية مع دولة عظمى أخرى تمكنها من الاعتماد عليها لتحقيق أطماعها الاستيطانية بالشرق الأوسط، ولذلك يجب أن نلغى من أذهاننا تلك الفكرة الشائعة بأن إسرائيل تقود أمريكا من وراء تأثير قوة يهودية عميقة تتحكم فى إدارة الولايات المتحدة ومؤسساتها وشركاتها، ذلك أن أمريكا بإمكانها أن تقضى على إسرائيل وتتخلص منها فى لحظات لو كانت بالفعل تلك القارة الأمريكية الهائلة تخضع لإذلال وتحكم بقعة صغيرة غير شرعية على أرض العالم تدعى إسرائيل، ويكفى أمريكا فقط أن تدعم العالم العربى ضدها، ودول الخليج وحدها كفيلة بتعويض أمريكا اقتصاديًا إذا كانت إسرائيل يمكنها بالفعل أن تؤثر على اقتصاد الولايات المتحدة أو تتسبب فى انهيارها أو تمثل تهديدًا لها.
إن علينا أن نتذكر جيدًا العبارة التى قالها الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن عندما كان نائبًا للرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2013 فى اجتماع لمنظمة يهودية، حيث قال: «لو لم تكن هناك دولة إسرائيل، لكان علينا أن نخترعها للتأكد من حماية مصالحنا»، فتلك العبارة توجهنا ناحية الحقيقة خاصة بعد اعتراف بايدن باستحالة هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة دون وجود إسرائيل، وهنا يمكن أن نفهم الخديعة وراء قصة حل الدولتين أو إنهاء الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين، فمن وجهة نظرى أن هذا لن يتحقق إلا عن طريق الحرب فقط، لأن السلام يعنى موت إسرائيل وانهيار أمريكا اقتصاديًا، وتلك الحلول ليست بوعود من جانب أمريكا للعرب وللفلسطينيين، ولكنها تهديد أمريكى خفى لإسرائيل التى تلعب دور رأس الحربة للولايات المتحدة فى غرب آسيا والشرق الأوسط.
وكى تضمن أمريكا تنفيذ إسرائيل خطة الهيمنة فلابد من أن تلعب معها لعبة العصا والجزرة لتظل أمريكا تلعب وتتحكم فى العالم، وتظل إسرائيل قائمة بدور البلطجى مقابل الأجرة التى تدفعها أمريكا وهى دعم وحماية إسرائيل، وأمريكا تريد أن تدرك إسرائيل أن هذا الأمر يمكن أن يتغير غدًا، وأن احتلالها قد يكون لا مستقبل له إذا تخلت عنها واتبعت مسارًا متوافقًا مع الفلسطينيين والدول العربية، وأن العدوان الذى تمارسه حاليًا يتعلق باحتياجات الولايات المتحدة ومن خلال أوامرها، فإذا تخلت عنها أمريكا فلن تكون هناك إسرائيل.
هذه هى الحقيقة التى يحب أن تكون واضحة الآن، وهى أن إسرائيل معتمدة على أمريكا، وأن الأخيرة هى من تتحكم فى المشهد العالمى والصراع العربى الإسرائيلى بالكامل، أما عن وجود يهود فى مواقع النفوذ بالولايات المتحدة فهذا غير مؤثر بالمرة فى القرار الأمريكى، لأنهم فى النهاية أمريكيون ينتمون لإسرائيل ولديهم ارتباط دينى أو روحى بها، ويقدمون لها أى نوع من المساعدة. لو استوعبنا كل ما سبق لفهمنا أن الموقف الأخير للرئيس عبدالفتاح السيسى فى الرد على مطالبة ترامب بتهجير أهالى غزة من أرضهم يدرك تمامًا حقيقة الدور الأمريكى عبر تاريخ الصراع مع إسرائيل، ولذلك كانت الصفعة قوية وقاسية.