قراءة فى خطاب تنصيب سيد البيت الأبيض
أدى دونالد ترامب اليمين الدستورية الإثنين الماضى، باعتباره الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، وعاد إلى البيت الأبيض بعد التغلب على أربع لوائح اتهام جنائية ومحاولتى اغتيال، فى واحدة من أبرز الانتعاشات السياسية فى تاريخ الولايات المتحدة.. تلا ترامب اليمين الدستورية فى حفل تنصيب حميم داخل مبنى الكابيتول المُستدير، وهو نفس المبنى الذى اقتحمه حشد من أنصاره قبل أربع سنوات، فى محاولة لوقف التصديق على خسارة ترامب فى انتخابات 2020.. رفع ترامب، 78 عامًا، يده اليمنى وأدى اليمين الدستورية، باستخدام الكتاب المقدس الذى أعطته له والدته عام 1955، والذى تم تضمينه مع الكتاب المقدس الثانى، الذى استخدمه الرئيس أبراهام لنكولن، فى أداء اليمين الدستورية عام.. وقال ترامب فى خطاب تنصيب استمر حوالى ثلاثين دقيقة، «العصر الذهبى لأمريكا يبدأ الآن.. من اليوم فصاعدًا، ستزدهر بلادنا وتحظى بالاحترام مرة أخرى فى جميع أنحاء العالم.. سنكون موضع حسد من كل أمة، ولن نسمح لأنفسنا بالاستفادة من أى وقت مضى، خلال كل يوم من أيام إدارة ترامب».. وبينما جلس جو بايدن، خلف ترامب، انتقد الرئيس الجديد الحكومة «الراديكالية والفاسدة» التى يرثها!!.
كان خطاب ترامب فى حفل التنصيب خطاب تحدٍّ ومواجهة، انتقد خلاله الرئيس جو بايدن، بشكل غير مسبوق فى مثل هذه الخطابات.. وقد ركز ترامب على القضايا التى تهم الناخب الأمريكى، مثل الهجرة، خصوصًا من المكسيك، والتضخم، والطاقة، باعتبارها تهم المواطن الأمريكى العادى.. وبين دورة حكمه الأولى والثانية فرق كبير.. فعندما وصل إلى البيت الأبيض فى المرة الأولى، لم يكن يمتلك الخبرة الكافية فى مجال الحكم، ولكن اليوم يعرف جيدًا ماذا يريد.. لذلك، وصف ترامب تنصيبه بأنه «يوم التحرير»، وأعلن أن «موجة التغيير تجتاح البلاد»، حيث رسم صورة قاتمة لأمة تغمرها الجريمة من «غزو بلدنا».. وقال إن إدارة بايدن «لا تستطيع إدارة حتى أزمة بسيطة فى الداخل»، واتهم سلفه بتوفير «الملاذ والحماية للمجرمين الخطرين» الذين دخلوا البلاد بشكل غير قانونى.. وقال ترامب، إن «كل هذا يتغير بدءًا من اليوم»، مضيفًا أن لديه تفويضًا لعكس «الخيانة الرهيبة» لإدارة بايدن.. وتعتبر بعض الصحف التى تميل للحزب الديمقراطى أن عودة ترامب إلى السلطة تمثل تغييرًا زلزاليًا عبر الحكومة الفيدرالية.. وترى أنه يدخل مدعيًا تفويضًا انتخابيًا لسن تغييرات شاملة، بعد فوزه بكل ولاية والتصويت الشعبى.. ومن المتوقع أن يكون عهد ترامب الجديد أكثر عدوانية من السنوات الأربع الأولى المضطربة للرئيس فى منصبه، عندما تم عزله مرتين، ولكن برأه مجلس الشيوخ.
قام ترامب بحملته الانتخابية، على وعود كبيرة فى فوزه الانتخابى على الديمقراطية، كامالا هاريس، لخفض الأسعار على المستهلك، واستئصال «الدولة العميقة» من الحكومة الفيدرالية، وبدء عمليات الترحيل الجماعى للمهاجرين فى البلاد بشكل غير قانونى، والتراجع عن سياسات بايدن، بشأن المناخ والطاقة وحقوق المتحولين جنسيًا، والعملات المشفرة ومجموعة من القضايا الأخرى.. وقال ترامب ومستشاروه، إن الرئيس الجديد سيتخذ أكثر من مائة إجراء تنفيذى، وصفها الحلفاء بأنها «صدمة ورعب»، خلال أول يوم له فى منصبه، مع التركيز على إغلاق الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وفرض رسوم جمركية جديدة على المكسيك وكندا والصين.
حدد ترامب بعض الأوامر فى خطابه، بما فى ذلك إعلان حالة طوارئ وطنية على الحدود الجنوبية، وتنفيذ أجندة «الطفل والحفر»، لزيادة إنتاج النفط، وإعادة تسمية خليج المكسيك بخليج أمريكا، وجعل السياسة الرسمية للحكومة الفيدرالية، هى الاعتراف بجنسين فقط: ذكر وأنثى.. وقال إنه سيتخذ إجراءات لتصنيف عصابات المخدرات كمنظمات إرهابية أجنبية.. ومن خلال التذرع بقانون الأعداء الأجانب لعام 1798، سيوجه الحكومة إلى استخدام «السلطة الكاملة والهائلة لإنفاذ القانون الفيدرالى وقانون الولايات»، للقضاء على وجود جميع العصابات الأجنبية والشبكات الإجرامية، «بهذه الإجراءات، سنبدأ فى الاستعادة الكاملة لأمريكا وثورة الفطرة السليمة.. الأمر كله يتعلق بالفطرة السليمة».. ومن المتوقع، أن تظهر السنوات الأربع المقبلة لترامب جمهوريًا، أكثر شعبوية من أى وقت مضى، وهو حزب ابتعد عن الأسواق الحرة نحو الحمائية والابتعاد عن التحالفات الدولية، نحو عقلية «أمريكا أولًا».. وسيتم التعبير عن هذه الأفكار التى تم تقديمها فى فترة ولاية ترامب الأولى، مع فرض رسوم جمركية على الصين، واتفاقيات تجارية مُعاد التفاوض عليها، والعداء تجاه حلف شمال الأطلسى «الناتو» بشكل كامل.
أكد ترامب أن الولايات المتحدة «تستعيد» قناة بنما، التى قال إنها «مُنِحَت بحماقة» لبنما، فى صفقة دبرها الرئيس جيمى كارتر.. أيضًا، ستدخل الولايات المتحدة حقبة جديدة من استكشاف الفضاء على كوكب المريخ تحت قيادته، وتعهد «سنتابع مصيرنا الواضح فى النجوم، وإطلاق رواد فضاء أمريكيين لزرع النجوم والمشارب على كوكب المريخ».
تم نقل حفل تنصيب ترامب إلى داخل الكابيتول، بسبب درجات الحرارة الباردة فى واشنطن، ليكون أول حفل أداء لليمين فى الأماكن المغلقة منذ تنصيب رونالد ريجان الثانى عام 1985، والذى أقيم فى مبنى الكابيتول المستدير.. بينما احتشد الآلاف من أنصار ترامب فى ساحة مبنى الكابيتول لمشاهدة حفل تنصيب ترامب.. وربما كان وراء ذلك، مخاوف اغتيال ترامب فى يوليو، عندما أصابت رصاصة مسلح أذنه، بينما كان يقف على خشبة المسرح فى حقل بولاية بنسلفانيا، مما أدى إلى تلطيخ وجهه بالدماء، واتهم رجل ثانٍ بمحاولة قتله، بينما كان يلعب الجولف فى ناديه الريفى فى ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا.. لذلك قال، «لن يتم تسليح القوة الهائلة للدولة مرة أخرى لاضطهاد المعارضين السياسيين.. وهو أمر أعرف شيئًا عنه.. لن نسمح بحدوث ذلك.. لن يحدث ذلك مرة أخرى تحت قيادتى».
ومن المرجح أن يجد ترامب عقبات أقل داخل البيت الأبيض، مما كان عليه خلال إدارته الأولى، عندما كان غالبًا ما يشتبك مع حكومته ومساعديه الآخرين.. ينظر إلى اختياراته للإدارة القادمة على نطاق واسع، على أنها مؤمنون حقيقيون مخلصون وموثوق بهم.. ويخشى الديمقراطيون من رئاسة تركز على الانتقام.. قبل ساعات من مغادرته البيت الأبيض، أصدر بايدن عفوًا مسبقًا غير مسبوق، للحماية من الملاحقة الجنائية لخصوم ترامب، بما فى ذلك الدكتور أنتونى فاوتشى، والنائبة السابقة ليز تشينى، ومشرعين آخرين خدموا فى لجنة مجلس النواب، التى حققت فى هجوم السادس من يناير على مبنى الكابيتول.. كما أصدر بايدن عفوًا عن خمسة من أفراد عائلته، فى أحد إجراءاته الأخيرة كرئيس.. وإذا كان ترامب قد قال إن «النجاح» سيكون انتقامه، لكنه أظهر فى التعليقات الأخيرة، أنه لا يزال يفكر فى الملاحقات القضائية الأربع، التى أعقبت مغادرته منصبه عام 2021، «إذا عملنا معًا، فلا يوجد شىء لا يمكننا القيام به ولا حلم لا يمكننا تحقيقه.. اعتقد الكثير من الناس أنه من المستحيل بالنسبة لى، أن أنظم مثل هذه العودة السياسية التاريخية.. لكن كما ترون اليوم، هأنذا.. لقد تحدث الشعب الأمريكى».. لذلك، وعده بأن أمريكا ستحظى بالاحترام مرة أخرى، والإعجاب بها مرة أخرى، «لن يتم قهرنا.. لن نخاف، ولن نتحطم، ولن نفشل.. واعتبارًا من هذا اليوم فصاعدًا، ستكون الولايات المتحدة الأمريكية دولة حرة وذات سيادة ومستقلة.. سنقف بشجاعة، سنعيش بفخر.. سنحلم بجرأة، ولن يقف شىء فى طريقنا، لأننا أمريكيون».
●●●
وإذا كان ترامب قد ركز فى خطاب تنصيبه على قضايا الداخل الأمريكى، ومر مرور الكرام على ما يتعلق بالشرق الأوسط، وخصوصًا اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة، إلا أن عودته إلى سدة الحكم تثير فى العموم، هواجس مراقبين لشئون الشرق الأوسط والعالم العربى، مع مخاوف كبيرة من سياسة أكثر تصلبًا وشدة، قد تزيد من حدة التوترات المتفاقمة أصلًا فى منطقة ملتهبة.. فمن الحرب فى غزة، إلى العلاقة مع إيران، ونزاعات الصحراء المغربية، يتساءل كثيرون عما يُحضّره الرئيس الأمريكى الجديد من خطط حيال هذه الملفات الشائكة؟، إذ تنبئ عودة ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة لولاية ثانية، بحدوث تغييرات جوهرية فى السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام، وخصوصًا فى الشرق الأوسط والعالم العربى.. فلطالما كانت هذه المنطقة وإسرائيل تحديدًا، محورًا أساسيًا بالنسبة لكافة الرؤساء والساسة الأمريكيين.
راقب ترامب، الذى يصف نفسه بأنه «أفضل صديق» لإسرائيل، حتى قبل عودته إلى البيت الأبيض، الوضع فى الشرق الأوسط، وخصوصًا الحرب فى غزة، والتوتر غير المسبوق بين إيران وإسرائيل، عن كثب.. وكان قد صرّح خلال خطاب له أمام المجلس الإسرائيلى الأمريكى بواشنطن فى التاسع عشر من سبتمبر الماضى، «سنجعل إسرائيل عظيمة مرة أخرى»، مؤكدًا أنه مع تصويت اليهود الأمريكيين، سيكون «المدافع عنهم» و«حاميهم» وأنه «أفضل صديق لليهود الأمريكيين فى البيت الأبيض».. ويخطط ترامب منذ أعوام، لإنهاء الصراع فى منطقة الشرق الأوسط، حيث سبق وأن عرض خطته المثيرة للجدل «صفقة القرن»، التى روّج لها صهره ومستشاره جاريد كوشنر فى 2018، خلال جولته بالمنطقة.. ولاحقًا، كشف كوشنر بشكل أكثر جلاءً، عن تفاصيل هذه الخطة، حيث قال فى الثانى من مايو 2019، إنها ستُكرس القدس عاصمة لإسرائيل، دون الإشارة إلى حل الدولتين، رغم أن الأخير كان على مدى سنوات محور الدبلوماسية الدولية، الرامية لإنهاء النزاع العربى الإسرائيلى.
وحيال الحرب فى غزة، لم يتردد ترامب مؤخرًا عن إطلاق تحذير من أن «جحيمًا سوف يندلع فى الشرق الأوسط»، إذا لم تطلق حركة حماس سراح الرهائن الإسرائيليين لديها قبل تنصيبه.. وسُرعان ما نسب لنفسه الفضل، عندما تم الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل فى القطاع الفلسطينى المدمر، وإطلاق سراح الرهائن.. وعشية حفل التنصيب، قال مايك والتز، مستشار الأمن القومى الأمريكى فى إدارة ترامب الجديدة، بصورة قطعية، إن حركة حماس لن تعود لحُكم قطاع غزة مرة أخرى.. أما بخصوص من سيتولى السيطرة على قطاع غزة لاحقًا، قال والتز، «ربما تكون قوة أمنية مدعومة من العرب، وربما يكون هناك خليط فلسطينى.. أنا لا أريد أن أستبق تخطيطاتنا.. لكن من الواضح أن الخطوط العريضة الأوسع موجودة».. إلا أنه أشار إلى أن «إسرائيل ستفعل ما يتعين عليها فعله لضمان ذلك.. والولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، ستدعمها، فى أن حماس لن تحكم غزة مرة أخرى»، معترقًا بأن «هذا لا يعنى أنه لن تكون هناك جيوب مقاومة من جانب حماس».. هذا لا يعنى أنه لن يكون هناك قتال جارٍ، لكن الطريق سيكون صعبًا فى المستقبل».
لكن التسريبات الأولية حول خطط إدارة ترامب تجاه الحرب فى غزة، تدل على «أنه سيمضى باتجاه وقف هذه الحرب، وهو ما تمت ترجمته باتفاق الهدنة بين إسرائيل وحماس».. ومن المرجح أن «ترامب وفريقه المؤيد لإسرائيل، لا يتجه نحو إقرار خطة شاملة لحل القضية الفلسطينية، سوى بحدود صفقة القرن، التى طرحها فى رئاسته السابقة، وهى السلام الاقتصادى، ومقاربة أعلى من حكم ذاتى وأقل من دولة».. هذه المقاربة، ستجد طريقها رغم الاعتراضات عليها من قبل أوساط إسرائيلية وأخرى فلسطينية، لكنها ربما تكون مقبولة، لا سيما أنها ستمهد الطريق أمام تطبيع موعود بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
أما بالنسبة إلى إيران، التى رأت اتفاقها النووى الموقع فى 2015 مع القوى الكبرى ينهار، بسبب قرار ترامب فى الثامن من مايو 2018 الانسحاب خلال عهدته الرئاسية الأولى بشكل أحادى، مع إعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها، فهى لا تزال بالنسبة إلى ترامب بمثابة العدو اللدود، الذى ينبغى تحجيم قوته وقص أذرعه فى المنطقة، أقله لضمان أمن إسرائيل.. وفى الواقع، أعلن مستشارو ترامب بشكل صريح، عن أن إدارته ستعود إلى اتباع سياسة «أقصى درجات الضغط»، التى انتهجها الرئيس خلال ولايته الأولى.. إذ سعت تلك السياسة إلى استخدام عقوبات قوية لخنق الاقتصاد الإيرانى، وإجبار طهران على التفاوض على اتفاقية تحد من برامجها المتعلقة بالأسلحة النووية والباليستية.. ولم تخفف إدارة بايدن بشكل ملموس العقوبات التى فرضها ترامب، ولكن هناك جدل حول مدى فاعلية تطبيقها.
إن رؤية ترامب لمسألة التهديد الإيرانى تقوم على الأرجح على عدة سيناريوهات، من أبرزها، سيناريو الضغط والتصعيد عبر عقوبات اقتصادية واسعة، تشل الاقتصاد الإيرانى المنهك أصلًا، وربما تصل لمستوى ضربات عسكرية لإيران، والمزيد من الدعم لإسرائيل للقضاء على وكلاء إيران فى العراق ولبنان واليمن.. السيناريو الثانى، هو التوصل لصفقة شاملة مع إيران.. ويبدو أن الفريق الإصلاحى بقيادة الرئيس مسعود بزشكيان، جاهز لإنفاذها لإنقاذ بلاده، بلا ميليشيات ولا حرس ثورى ولا وحدة للساحات، أو وحدة الجبهات ومحور المقاومة.. لكن هذا السيناريو سيبقى رهنًا بمخرجات الصراع بين التيارين الإصلاحى والمتشدد، داخل الجمهورية الإسلامية.
رغم ذلك، أبدت طهران أملًا فى تبنى الإدارة الأمريكية تحت قيادة ترامب، نهجًا جديدًا فى العلاقات المشتركة بين البلدين.. حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائى، إن بلاده تأمل فى أن تتبنى الحكومة الأمريكية الجديدة نهجًا «واقعيًا» تجاه طهران، «نأمل أن تكون توجهات وسياسات الحكومة الأمريكية المقبلة واقعية، ومبنية على احترام مصالح دول المنطقة، بما فى ذلك الأمة الإيرانية».
وفى نزاع يثير توترات متواصلة فى منطقة المغرب العربى، لم يتوان الرئيس الأمريكى الجديد عن الخوض فى ملف الصحراء المغربية، التى تشهد نزاعًا منذ عقود بين المغرب وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر.. ونشر ترامب فى العاشر من ديسمبر 2020، تغريدة على منصة X، قال فيها، إن المغرب تعهّد بتطبيع علاقاته مع إسرائيل، فى إطار اتفاق وافق الرئيس الأمريكى بمقتضاه على الاعتراف بـ«سيادة» المغرب على الصحراء الغربية.. وكتب ترامب فى تغريدته حينها، «تقدم تاريخى آخر اليوم!.. وافقت إسرائيل والمملكة المغربية على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، فى اختراق هائل فى سبيل السلام فى الشرق الأوسط!».. ومن المهم هنا، الإشارة، إلى أنه خلال فترة حكم جو بايدن، لم تحدث اختراقات تُذكر على صعيد حلحلة هذه القضية، أو تبدلًا فى موقف الرئيس الديمقراطى من الخطوة التى أقدم عليها غريمه الجمهورى السابق فى البيت الأبيض.. وكان مجلس الأمن الدولى قد جدد، فى نهاية أكتوبر 2023 دعوة أطراف النزاع إلى «استئناف المفاوضات، للتوصل إلى حل دائم ومقبول من الطرفين».. وفى الخامس والعشرين من سبتمبر 2024، صادق مجلس الأمن على قرار يدعو إلى إيجاد حل سياسى «واقعى ومقبول» لنزاع الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة البوليساريو، فى خطوة شملت تمديد تفويض بعثة الأمم المتحدة لمدة عام إضافى.. لكن، ما الجديد الذى قد تحمله عودة ترامب مجددًا إلى سدة الحكم بخصوص هذه القضية؟.
يرى المحلل السياسى الأردنى، د. عمر الرداد، أن من المرجح أن يجدد ترامب خلال ولايته الثانية «اعترافه بالصحراء الغربية، كجزء من المملكة المغربية.. لا سيما أنه سبق واعترف بذلك فى رئاسته الأولى».. كما قال، إن قضية الصحراء الغربية قد شهدت «تحولات خلال إدارة بايدن، أبرزها زيادة مساحات الاعتراف الدولى بمغربية الصحراء.. يضاف إلى ذلك أن البوليساريو وداعمتها الجزائر، تُصنف من قبل إدارة ترامب، بأنها جزء من المحور الذى تقوده إيران فى شمال إفريقيا».. إلا أن فريق ترامب سيكون له دور فى تحديد مواقف أمريكا تجاه قضايا الشرق الأوسط، وهذا الفريق مؤيد بالكامل لإسرائيل، التى تتخذ أصلًا موقفًا معاديًا ضد الجزائر.
●●●
خطابات تنصيب الرئيس الأمريكى ليست خطابات سياسية، بل هى تصريحات عامة حول الوجهة التى يريد الرئيس الجديد أن يقود البلاد إليها كما يقول هيرب كينون، فى جيروزاليم بوست ولم يكن خطاب تنصيب ترمب الثانى استثناءً.. وعلى هذا، فلا ينبغى للإسرائيليين أن يشعروا بالقلق إزاء عدم استحقاق بلادهم للذكر، فى الخطاب الذى استغرق ثلاثين دقيقة.. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة لروسيا أو أوكرانيا أو أى دولة أوروبية.. وكانت الدول الوحيدة التى تم ذكرها هى الصين «مرتين»، والمكسيك «مرة واحدة»، وبنما، التى تصدرت القائمة بستة مرات، وكلها تتعلق بقناة بنما، التى يريد الرئيس استعادتها.. ولكن عدم وجود أى ذكر لإسرائيل، لا يعنى عدم وجود تلميحات سياسية فى ذلك الخطاب، أو فى تصريحات أخرى أدلى بها فى يوم تنصيبه المزدحم للغاية، وكذلك فى الأوامر التنفيذية التى وقعها.
فى ديسمبر الماضى، حذر ترامب من ضرورة إطلاق سراح الرهائن قبل تنصيبه وإلا «سيتعرض المسئولون عن هذا الهجوم لضربة أشد من تلك التى تعرض لها أى شخص فى التاريخ الطويل والحافل للولايات المتحدة الأمريكية»، وأشار بإيجاز إلى إطلاق سراح ثلاثة رهائن يوم الأحد.. وكانت صياغته جديرة بالملاحظة، وإن كان ينبغى للمرء أن يتجنب الإفراط فى التفسير، «يسعدنى أن أقول إنه اعتبارًا من أمس، أى قبل يوم واحد من تولى منصبى، بدأ الرهائن فى الشرق الأوسط فى العودة إلى ديارهم وعائلاتهم».. «الرهائن فى الشرق الأوسط؟».. لماذا لا نسمِّ الأشياء بمسمياتها ونقول «الرهائن الإسرائيليون؟».. وعلى النقيض من الخطب غير المكتوبة والتعليقات الأخرى التى ألقاها يوم الإثنين، كان خطاب التنصيب مصممًا بعناية، حيث كانت كل كلمة مدروسة بعناية.. ويبدو أن استخدام مصطلح «الرهائن فى الشرق الأوسط» يتماشى مع الطموح الذى حدده فى الجملة السابقة لهذا السطر، وهو أنه يريد أن يكون «صانع سلام ومُوَّحِد».. وعلى هذا فإن قول «الرهائن فى الشرق الأوسط»، يضع هذا الإفراج فى إطار حل إقليمى أوسع نطاقًا وليس قضية إسرائيلية فحسب.
وفى وقت لاحق، وفى فعالية أقيمت بعد تنصيبه فى ملعب «كابيتال وان»، رحب الرئيس بعائلات الرهائن بما فى ذلك الرهينة المحررة نوح أرجامانى ودعا إلى إطلاق سراح جميع الأسرى.. وقال: «لقد فزنا، ولكن العمل يبدأ الآن.. ويتعين علينا إعادتهم إلى ديارهم».. وقد جاءت إشارة أخرى إلى سياسة الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط فى خطاب تنصيب ترامب، عندما أعلن، «سوف نقيس نجاحنا، ليس فقط بالمعارك التى نفوز بها، بل وأيضًا بالحروب التى ننهيها.. وربما الأهم من ذلك، الحروب التى لا نشارك فيها أبدًا».. وهذه إشارة إلى أنه يتطلع إلى تقليص التدخل فى الخارج، وليس زيادته، وينبغى أن يُبدد أى أوهام قد تكون لدى البعض فى تل أبيب، بأن الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب، قد تتخذ إجراءً عسكريًا مباشرًا فى الشرق الأوسط، على سبيل المثال، فى إيران.
لقد جاء مؤشر آخر على هذا، عندما سُئل الرئيس عما إذا كان وقف إطلاق النار فى غزة سوف يصمد خلال كل مراحله، فأجاب بصراحة، «إنها ليست حربنا.. إنها حربهم أى إسرائيل وأنا لست واثقًا من ذلك.. ولكننى أعتقد أنهم حماس ضعفاء للغاية على الجانب الآخر».. ومن الجدير بالذكر أنه أكد على أن هذه هى حربهم.. وقال عندما سُئل عن من سيحكم غزة فى المستقبل:، «من المؤكد أنه لا يمكن أن يكون هناك أشخاص مثل هؤلاء الذين كانوا هناك.. وبالمناسبة، معظمهم ماتوا، أليس كذلك؟».. وتابع: «لكنهم لم يديروا الأمور بشكل جيد.. لقد أداروها بوحشية وسوء.. لا يمكن أن يكون هناك هذا».. وقال إن الولايات المتحدة قد تسهم فى إعادة إعمار غزة، لكنه لم يقدم أى وعود، وقال، إن القطاع الساحلى من غزة، يجب إعادة بنائه بطريقة مختلفة!!.. «نظرت إلى صورة غزة.. غزة أشبه بموقع هدم هائل.. هذا المكان يجب إعادة بنائه بطريقة مختلفة حقًا.. إنه موقع رائع. على البحر، والطقس هو الأفضل.. كما تعلمون، كل شىء جيد.. يبدو الأمر وكأن بعض الأشياء الجميلة يمكن القيام بها فيه».
ورغم وجود تلميحات إلى سياسة مستقبلية فى بعض خطاباته، فإن بعض الأوامر التنفيذية العديدة التى وقعها فى اليوم الأول من رئاسته، أرسلت إشارات ملموسة إلى إسرائيل.. كان الأول، هو الأمر الذى ألغى عقوبات الرئيس السابق، جو بايدن، على أكثر من اثنى عشر مستوطنًا فى الضفة الغربية، الذين اتهمتهم الإدارة بالعنف ضد الفلسطينيين، وإلغاء العقوبات المفروضة على ستة عشر منظمة يمينية، مثل ذراع تطوير المستوطنات «أمانا» و«تزاف 9»، وهى مجموعة نظمت احتجاجات لمنع قوافل المساعدات إلى غزة خلال الحرب الحالية.. وقد أدت هذه العقوبات إلى تجميد أصول هذه المنظمات فى أمريكا، ومنع دخولها إلى الولايات المتحدة، ودفعت البنوك الإسرائيلية، فى بعض الحالات، إلى إغلاق الحسابات التابعة لهذه المنظمات، حتى لا تتعرض للعقوبات الأمريكية.. وكان الأمر الأكثر أهمية من تأثيرها الفورى، هو الرسالة التى مفادها أن واشنطن لن تسعى إلى نزع الشرعية عن المستوطنات، أو تتخذ خطوات ملموسة ضدها، وهو المسار الذى تبنته إدارة بايدن بهذه العقوبات.
وكانت الخطوة الحاسمة الأخرى، هى إعادة فرض العقوبات على مسئولى المحكمة الجنائية الدولية، الذين يستهدفون الولايات المتحدة أو حلفائها.. وفى العام الماضى، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف جالانت.. وألغى بايدن العقوبات المفروضة على المحكمة، إلا أن مجلس النواب صوت على الموافقة على فرض عقوبات على المحكمة، ردًا على مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وجالانت، لكن ليس من الواضح، ما إذا كان الإجراء سيحصل على الأصوات الستين اللازمة فى مجلس الشيوخ للموافقة عليه.. ومع ذلك، فإن الأمر التنفيذى الذى أصدره ترامب، يشير إلى أن إدارته ستواجه المحكمة الجنائية الدولية بقوة بشأن هذه القضية.. كما أعطى ترامب الضوء الأخضر لإجراءات الترحيل ضد الأجانب فى الولايات المتحدة الذين يدعمون الإرهاب، مما يشير إلى موقف أكثر صرامة تجاه الاحتجاجات المعادية لإسرائيل والسامية بشدة، فى الحرم الجامعى وفى الشوارع.. وينص هذا الأمر التنفيذى على أن «سياسة الولايات المتحدة هى حماية مواطنيها من الأجانب، الذين يعتزمون ارتكاب هجمات إرهابية، أو تهديد الأمن القومى، أو تبنى أيديولوجية كراهية، أو استغلال قوانين الهجرة لأغراض خبيثة».
وأخيرًا، كان الموقف الأكثر عدوانية تجاه المنظمات الدولية واضحًا، ليس فقط فى الأمر التنفيذى الذى يقضى بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية «غير المرتبطة بإسرائيل»، ولكن أيضًا فى قرار التوقف لمدة تسعين يومًا، ومراجعة جميع المساعدات الإنمائية الأمريكية الخارجية، بما فى ذلك أونروا.. والمساعدات الأمريكية لوكالة المعونة معلقة حاليًا حتى مارس القادم.. هذا الأمر التنفيذى، الذى أُطلق عليه «إعادة تقييم وتعديل المساعدات الخارجية للولايات المتحدة»، ينص على أن «صناعة المساعدات الخارجية والبيروقراطية الأمريكية لا تتماشى مع المصالح الأمريكية، وهى فى كثير من الحالات تتعارض مع القيم الأمريكية. وهى تعمل على زعزعة استقرار السلام العالمى، من خلال الترويج لأفكار فى الدول الأجنبية، تتعارض بشكل مباشر مع العلاقات المتناغمة والمستقرة بين الدول».. وبناءً على هذا المقياس، فإن أونروا أصبحت فى مرمى النيران.
وبشكل عام، تشير الأوامر التنفيذية التى وقعها ترامب يوم الإثنين، إلى أن السياسات الأمريكية فى عهد الرئيس الجديد، ستكون أكثر انسجامًا مع مصالح إسرائيل فى قضايا مثل المستوطنات، والأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، مقارنة بإدارة بايدن.. لكن واقعيته الصريحة فى قوله، «إنها ليست حربنا»، ينبغى أن تُذكِّر تل أبيب، بأنه على الرغم من وجود صديق لها فى البيت الأبيض، ورغم تداخل المصالح الأمريكية الإسرائيلية فى كثير من الأحيان، فإنها ليست متطابقة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.