رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التفكير النقدى والخطاب الدينى

تأخرت فى الكتابة عن أهمية التفكير النقدى وعلاقته بالتراث، والأسباب الخطيرة التى تسببت فى فشل تجديد الخطاب الدينى حتى الآن. ومن هذا المنطلق سأبدأ فى أهمية إعمال التفكير النقدى والعقل فى كل النصوص بما لا يتعارض تمامًا مع النصوص القرآنية الواردة من الله سبحانه وتعالى، وكذلك مع النصوص الصريحة والمؤكدة من السُنة النبوية الشريفة. 

وعلى هذا المنوال لا بد من إعمال العقل فى كل ما يتعلق بكتب التراث، فكل العظماء والمفكرين الكبار الذين كتبوا هذه الكتب لهم كل التبجيل وكل الاحترام وكل التقدير. فهم بشر مثلنا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وقد أثبتت الأيام أن هؤلاء جميعًا استخدموا عقولهم فيما تركوه لنا من إرث عظيم فى كتب التراث. وبالتالى فإنه آن الأوان أن نعيد قراءة هذه الكتب، نختلف معها ونتفق طبقًا لما يساير العصر الذى نحياه الآن.

يعتبر رفض رجال الدين التفكير النقدى ظاهرة معقدة ومتشعبة الجذور، تتداخل فيها العوامل الدينية والاجتماعية والتاريخية. فمن ناحية، ينظر بعض رجال الدين إلى التفكير النقدى على أنه تهديد للهوية الدينية والتراث، ويشعرون بأن أى تشكيك فى النصوص المقدسة أو التقاليد الدينية قد يؤدى إلى زعزعة الإيمان وتفكك المجتمع. كما يرون أن القبول المطلق للنصوص هو أساس الاستقرار الاجتماعى والروحى. 

ومن ناحية أخرى، يرتبط هذا الرفض بالخوف من فقدان السلطة والنفوذ، حيث يخشى بعض رجال الدين من أن يؤدى تشجيع التفكير النقدى إلى تآكل سلطتهم الدينية وظهور تيارات فكرية جديدة تتحدى سلطتهم. بالإضافة إلى ذلك يعزز هذا الرفض الخوف من التغيير والتجديد، حيث يرى بعض رجال الدين أن التمسك بالتقاليد القديمة هو الضمان الوحيد للحفاظ على القيم الإسلامية الأصيلة. ورغم ذلك فإن هذا الرأى لا يمثل موقف جميع رجال الدين، فهناك العديد من العلماء والفقهاء الذين يشجعون على التفكير النقدى البنّاء والاجتهاد فى فهم الدين وتطبيقه فى الحياة المعاصرة. كما أن هناك تيارًا متزايدًا من الشباب المسلم يطالب بتجديد الفكر الدينى والتعامل مع النصوص الدينية بطريقة نقدية وعقلانية.

ومن الأسباب التاريخية التى أسهمت فى ترسيخ هذا الرأى، سيطرة المؤسسة الدينية على التعليم والتفسير، ما أدى إلى تهميش الأصوات المخالفة وتكريس فكرة أن النص الدينى هو الحقيقة المطلقة التى لا تقبل النقاش. كما أن الخوف من الاستعمار والحداثة أسهم فى ترسيخ هذا الرأى، حيث تم تفسير أى محاولة للتفكير النقدى على أنها تهديد للهوية الإسلامية.

وللتغلب على هذه المشكلة، يجب تشجيع الحوار بين رجال الدين والمثقفين والمفكرين، وتوفير منابر حرة للتعبير عن الآراء المختلفة. كما يجب تطوير المناهج التعليمية الدينية لتشجع على التفكير النقدى والتحليل، وتعليم الشباب كيفية التمييز بين النصوص الدينية والتفسير البشرى لها. ويجب على علماء الدين أن يدركوا أن الدين ليس جامدًا، بل هو دين الحياة والتجديد، وأن التمسك بالتراث لا يتعارض مع التطور الفكرى والتكيف مع متطلبات العصر.

وتعتبر العلاقة بين التفكير النقدى والتطرف الدينى علاقة عكسية، حيث يمثل الأول ضمانة ضد الثانى. فالتفكير النقدى هو عملية عقلانية تعتمد على التحليل والتقييم المنطقى للمعلومات والأفكار، وهو يهدف إلى الوصول إلى استنتاجات مبنية على الأدلة والبراهين. بينما يعتمد التطرف الدينى على تفسير النصوص الدينية بشكل حرفى وجازم، ورفض أى تفسير مغاير، ما يؤدى إلى تصلب الفكر ورفض الحوار والاختلاف.

إن غياب التفكير النقدى فى المجتمعات يهيئ بيئة خصبة لنمو التطرف، حيث يصبح الأفراد أكثر عُرضة لقبول الأفكار المتطرفة دون مساءلتها أو التشكيك فيها. كما أن التطرف الدينى يعزز الجهل والخوف من الآخر، ويؤدى إلى تبرير العنف باسم الدين.

من ناحية أخرى، فإن تشجيع التفكير النقدى فى المجتمع يسهم فى بناء مجتمع أكثر تسامحًا وانفتاحًا على الآخر، حيث يصبح الأفراد قادرين على فهم وتقدير الاختلاف، والتعايش السلمى مع الآخرين. 

كما أن التفكير النقدى يساعد على تجديد الفكر الدينى وتطويره، ما يجعله أكثر ملاءمة للتحديات التى تواجه البلاد. وهنا بات واجبًا تشجيع التفكير النقدى من خلال التعليم والتربية، وتوفير بيئة حوارية تسمح بالتعبير عن الآراء المختلفة. ولا بد كذلك من ضرورة نشر الوعى الدينى الصحيح، وتوفير المصادر الموثوقة للمعلومات، إضافة إلى بناء جسور التواصل والتفاهم لوقف نشر الكراهية والعنف.

وللحديث بقية