رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القاهرة ـ واشنطن.. علاقة تبعية أم ندية؟


الإجابة السريعة على السؤال الوارد أعلى المقال، جاءت على لسان الكاتب الأمريكى، مارك ألين سيلز، (نعم، الولايات المتحدة ومصر حليفتان، ولكن مصر لا تخشى أن تقول للولايات المتحدة: اذهبى إلى الجحيم.. من حين لآخر).. وفى مقال له بعنوان (هل تهتم الولايات المتحدة حقًا بمصر وتعتبرها حليفًا مهمًا؟)، Does the United States really care about Egypt and consider it an important ally؟، كتب مارك، إن برج القاهرة، وهو معلَم سياحى، بناه الرئيس جمال عبدالناصر عام 1954، أمام القنصلية الأمريكية وسط العاصمة المصرية. والهدف من هذا النصب، هو توجيه ما يُطلق عليه الغربيون (الإصبع الأوسط) إلى الولايات المتحدة!!.. فى ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تفترض أنها ستُخبر مصر بمن يمكنها أن تكون صديقة ومن لا يمكنها أن تكون صديقة، (مثل الجزائر وروسيا).. وحاولت الولايات المتحدة ابتزاز مصر والتأثير على علاقاتها بمصر، من خلال حجب أموال التنمية الاقتصادية الأمريكية.. هذه السياسة الخارجية الأمريكية المتشددة، دفعت مصر نحو الرعاية السوفيتية، فى الخمسينيات من القرن العشرين، وأدت إلى مواجهة نووية قصيرة بين الولايات المتحدة وروسيا، خلال أزمة السويس عام 1956.
استشهدت الحكومة المصرية بخوفها من الثورة المضادة التى ترعاها الدول الغربية، والتطرف الدينى فى الداخل، والتسلل الشيوعى المُحتمل، والصراع مع دولة إسرائيل، باعتبارها الأسباب التى دفعت إلى فرض قيود صارمة وطويلة الأمد على المعارضة السياسية داخل مصر، وحظر نظام التعددية الحزبية.. وظلت هذه القيود المفروضة على النشاط السياسى قائمة، حتى تولى الزعيم الراحل، محمد أنور السادات الرئاسة عام 1970 فصاعدًا، حيث تم تقليص أو عكس العديد من سياسات الحكومة المصرية الاشتراكية خلال تلك الفترة.. إذ نجح أنور السادات، خلال الأعوام الحادية عشرة التى قضاها رئيسًا لمصر، فى تغيير مسار مصر، فتخلى عن العديد من المبادئ السياسية والاقتصادية التى أرساها الناصريون، وأعاد تأسيس نظام التعددية الحزبية، وأطلق سياسة الانفتاح الاقتصادى.. وبعد أن نجح فى إبرام السلام مع الإسرائيليين، مقابل استعادة سيناء، أصبح السادات فى خطر من جماعة الإخوان المسلمين، حيث تم اغتياله يوم السادس من أكتوبر 1981، أثناء العرض العسكرى السنوى الذى أقيم فى القاهرة، للاحتفال بعبور مصر لقناة السويس، خلال حرب أكتوبر 1973.. وخلف السادات نائبه، حسنى مبارك، الذى استمرت رئاسته قرابة ثلاثين عامًا، قبل أن يتنحى عن منصبه أثناء أحداث يناير 2011، بعد ثمانية عشر يومًا من المظاهرات.
فى أعقاب معاهدة السلام مع إسرائيل، حصلت مصر بين عامى 1979 و2003 على نحو تسعة عشر مليار دولار من المساعدات العسكرية من الوايات المتحدة، مما جعل مصر ثانى أكبر دولة غير تابعة لحلف شمال الأطلسى، تتلقى مساعدات عسكرية أمريكية بعد إسرائيل.. كما تلقت مصر نحو ثلاثين مليار دولار من المساعدات الاقتصادية خلال نفس الفترة الزمنية.. وفى عام 2009، قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية بقيمة 1.3 مليار دولار، ومساعدات اقتصادية بقيمة مائتين وخمسين مليون دولار.. وفى عام 1989، أصبحت مصر أحد حليفين رئيسيين غير تابعين لحلف شمال الأطلسى، للولايات المتحدة.. لقد ساندت مصر الولايات المتحدة بقوة فى حربها ضد الإرهاب الدولى، بعد هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، ولكنها رفضت إرسال قوات إلى أفغانستان أثناء الحرب وبعدها.. كما عارضت مصر التدخل العسكرى الأمريكى فى العراق مارس 2003، من خلال عضويتها فى الاتحاد الإفريقى، واستمرت جامعة الدول العربية فى معارضة الاحتلال الأمريكى للعراق بعد الحرب، ورفضت أيضًا الامتثال لطلبات الولايات المتحدة بإرسال قوات إلى هناك، حتى تحت مظلة الأمم المتحدة.
وفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية، وقعت مصر والولايات المتحدة معاهدة استثمار ثنائية عام 1982، لتعزيز وتسهيل الاستثمار بين البلدين.. ووقعتا اتفاقية إطارية للتجارة والاستثمار، وهى خطوة نحو خلق تجارة أكثر حرية وزيادة تدفقات الاستثمار.. وتنشط الشركات الأمريكية فى معظم قطاعات الاقتصاد المصرى، بما فى ذلك استكشاف وإنتاج النفط والغاز، والخدمات المالية، والتصنيع، والبناء، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وصناعة المطاعم والضيافة.. هذا ما كان أو ما هو قائم.. فماذا عن القادم، مع دخول الرئيس المنتخب، دونالد ترامب إلى أروفة البيت الأبيض، يوم العشرين من شهر يناير القادم؟.
●●●
إن قراءة لسيرة ترامب مع مصر، خلال فترة رئاسته الأولى، التى انتهت قبل أربع سنوات من الآن، وعلاقته الوطيدة مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، يمكن أن تُمثل مفاتيح لفهم سياسة ترامب القادمة تجاه القاهرة.. وهنا، لابد من تذكُّر ما قاله ترامب عن الرئيس السيسى، (إنه لشرف عظيم أن أكون مع الرئيس السيسى، الصديق العظيم للولايات المتحدة.. ولدينا أشياء خاصة للغاية تحدث.. لم تكن علاقتنا أقوى فى أى وقت مضى، مثلما هى الآن.. ونحن نعمل مع مصر على العديد من الجبهات المختلفة، بما فى ذلك العسكرية والتجارية).. كما أعلنت السفارة الأمريكية بالقاهرة، بيانًا من قبل، أكدت فيه، أن مصر كانت منذ فترة طويلة شريكًا استراتيجيًا مهمًا فى الشرق الأوسط.، ولعبت المساعدات الأمريكية لمصر دورًا محوريًا فى التنمية الاقتصادية والعسكرية للبلاد.. وقد أصبحت مصر بمثابة مرساة للاستقرار فى الشرق الأوسط، كما يتجلى فى السلام المستمر الذى دام أكثر من أربعين عامًا مع إسرائيل، إذا تجاوزنا آثار حرب إسرائيل فى قطاع غزة حاليًا.
ويجىء فوز دونالد ترامب، فى انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، مُحمّلا بتطلعات مصرية لتقوية الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين، والعمل معًا من أجل إحلال سلام إقليمى، وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى منشور له عبر حسابه الرسمى على موقع X، بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية، (نتطلع لأن نصل سويًا لإحلال السلام والحفاظ على السلم والاستقرار الإقليمى. البَلدَان طالما قدما نموذجًا للتعاون، ونجحا سويًا فى تحقيق المصالح المشتركة)، مؤكدًا تطلعه إلى مواصلة هذا النموذج، فى هذه الظروف الدقيقة التى يمر بها العالم.. فقد ارتبطت مصر والولايات المتحدة بعلاقات لم تتأثر بتغير الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إذ تقوم على الشراكة لتحقيق أهداف كلا الطرفين المتبادلة.. وفى حين تستحوذ الولايات المتحدة على الدور الريادى فى القضايا العالمية والإقليمية، فإن مصر لها دورها المحورى فى الشرق الأوسط وإفريقيا، وفقًا لدراسة (العلاقات المصرية مع القوى الكبرى.. استمرار التوازن)، الصادرة عن المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، التى أوضحت أن الاستراتيجية المصرية تجاه الولايات المتحدة تقوم على حفاظ المصالح الاستراتيجية لكل منهما؛ إذ تسعى مصر إلى الحفاظ على التوازن الاستراتيجى فى المنطقة، بما فى ذلك خطتها الرامية إلى الحفاظ على حقها فى تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية التى تُمكنها من محاربة الإرهاب.. وكذا تريد الولايات المتحدة الحفاظ على التسهيلات التى تحصل عليها بالعبور من قناة السويس، للمرور إلى مسارح عملياتها فى المنطقة، خصوصًا إلى الخليج والمحيط الهندى، إضافة إلى الحرص المشترك على الحفاظ على السلام مع تل أبيب.. ورغم ذلك، فقد مرت العلاقات بين مصر والولايات المتحدة بمراحل مختلفة من القوة والفتور، حسب الأوضاع بالمنطقة وأيضًا السياسة التى يتم تبنيها من قبل الحكومات والرؤساء.
اتسمت العلاقات المصرية الأمريكية، خلال فترة حكم ترامب الأولى، بالتقارب الشديد فى وجهات النظر بين الجانبين فى مجالات كثيرة، من أهمها ما يتعلق بمكافحة الإرهاب فى العالم، وحل القضية الفلسطينية، والتأكيد دائمًا أن مصر حليف استراتيجى مهم ومؤثر فى منطقة الشرق الأوسط للولايات المتحدة الأمريكية. وقد كان هذا واضحًا فى مواقفهما المتقاربة فى تلك القضايا فى المحافل الدولية.. وقال محمد توفيق، سفير مصر الأسبق بواشنطن، خلال تحليله للانتخابات الأمريكية وتأثيرها على المصالح المصرية، إن الاختلاف فى سياسات الإدارتين، تتمثل فى موقفهما من المتغير الجديد الضاغط على السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، الذى فجرته عملية حماس فى السابع من أكتوبر العام الماضى، والحرب التى شنتها تل أبيب على غزة، ما أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة السياسة الدولية والإقليمية، (ليس أمام السياسة الخارجية المصرية خيار، سوى التمسك بتحقيق الاستقلال الاستراتيجى، والحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الدولية الفاعلة وتعميقها، والسعى فى الوقت ذاته إلى تأكيد نقاط التلاقى فى المصالح المصرية والأمريكية بوجه خاص، على مختلف الأصعدة الثنائية والإقليمية والدولية).
ومع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لن يغير ذلك كثيرًا فى أنماط التعامل الدولى فى منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، والمنطقة العربية بشكل خاص، فى محاولة لتحقيق الاستقرار الإقليمى بما يدعم الصالح الأمريكى.. فدعم الولايات المتحدة الأمريكية للقضايا الاستراتيجية التى تهدد أمن مصر القومى خلال الفترة القادمة، يتطلب مسئولون ووزراء، يخططون جيدًا لاستغلال الأوضاع الحالية لدعم القضايا الإقليمية التى تهدد مصر، بالتنسيق مع الجانب الأمريكى الذى يسعى لذلك.. ومع وصول ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخرى، تظل هناك العديد من التساؤلات التى مازالت تنتظر الإجابة من الموقف الأمريكى تجاه مصر، فهل تقدم العلاقات المصرية الأمريكية الدعم الكافى فى قضايا استراتيجية، مثل سد النهضة أو الأزمات فى السودان وليبيا؟.. وهل النزاعات والحروب التى تشهدها حاليًا منطقة الشرق الأوسط، سيكون لها دور فى تشكيل العلاقات من جديد بين البلدين؟.. الأيام القادمة ربما تحمل معها الإجابة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.