رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سوريا ليست الأولى أو الأخيرة.. الدول تسقط بتدمير وعى شعبها ووطنية جيشها ووحدة أراضيها

سوريا
سوريا

مخططات الفوضى فى المنطقة العربية، لم تتوقف ولكنها تشهد حالة من الاستهداف المتصل المنفصل، ومنذ عام ٢٠١١ وحتى الآن سقطت دول كثيرة فى الفوضى والخراب، ولم تعد إلى ما كانت عليه، مثل ليبيا واليمن، والسودان الذى دخل فى حالة حرب أهلية منذ أبريل ٢٠٢٣.

وكان آخر فصول الفوضى والتدمير ما حدث مؤخرًا فى سوريا، فمنذ اندلاع الأزمة السورية فى عام ٢٠١١، تحولت أرض الشام تدريجيًا إلى ساحة حرب بين الدولة والتنظيمات الإرهابية، حتى أسقطت البلاد تمامًا فى ٨ ديسمبر ٢٠٢٤، عندما سيطرت ميليشيات تابعة لأمير «جبهة النصرة» السابق، أحمد الشرع، الذى كان معروفًا باسم «أبومحمد الجولانى»، على دمشق، وأعلنت عن نهاية سلطة الدولة المركزية، لتبدأ القوى المختلفة فى نهش حدود وجسد الدولة السورية.

ما حدث فى سوريا، ومن قبلها عدة دول عربية، هو مثال حى على غياب «الثالوث المقدس المصرى»، فالأرض السورية تحولت إلى مسرح تمتلكه الميليشيات المتنافسة، وفقد الشعب السورى الثقة فى المؤسسات الرسمية، وقبل بأى بديل لها، دون أن يدرك إلى أين سيقوده هذا البديل، وهل ستكون أيام وقواعد حكمه أفضل مما مر عليه خلال ٥ عقود مضت؟

وبينما انهار الجيش السورى تدريجيًا- بسبب حرب طويلة لم يعد عدته لها بشكل جيد، ولم يكن الاعتماد فيها على قوة الجيش الوطنى وحده- تدخلت العديد من القوى الخارجية، نظامية كانت أو فرقًا أو فصائل أو ميليشيات، بعضها كان يدعم الدولة السورية، والأكثر كان يحارب ضده.

ومثل آخر أحداث هذه الحرب مهازل عسكرية، بسبب قيادات لم تحسب حساب اليوم التالى، كما حدث فى ٧ و٨ ديسمبر ٢٠٢٤، حين انسحب الجيش بصفوفه من المدينة تلو الأخرى، حتى اختفى تمامًا عند حدود دمشق، وكأنه لم يكن هناك يومًا جيش يدعى الجيش السورى.

سقوط سوريا فى يد ميليشيات- يقودها «الشرع» أو «الجولانى»، أمير الحرب فى تنظيمات «داعش»، و«النصرة»، أو «هيئة تحرير الشام»، أو أيًا كان اسمها أو اسم تنظيمها- لم يكن سوى نتيجة طبيعية لسنوات من الحروب الأهلية والانقسامات الطائفية والسياسية التى مزقت النسيج الاجتماعى للبلاد.

ومع هذا الانهيار، لم يعد للدولة المركزية أى وجود فعلى، ولم يعد لأرضها وحدودها معنى، بل أصبح الشعب السورى فى حالة تيه، يخضع لإرادة ميليشيات تجمعت من كل مكان، حتى إن معظم أفرادها ليس سوريًا من الأصل، ويأتمر بأمر حكومة أمر واقع، وإدارة جديدة أعلنت عن عزمها منح الغرباء جنسية أهل البلد، بل وتكليفهم بحمايتها بعد دمجهم وتوليتهم مناصب فى وزارة الدفاع السورية.

المدهش فى الحالة السورية ليس رضوخ الشعب والجيش لكل الضغوط واختيارهما سقوط الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها، ولكن المدهش إلى حد الذهول، والمضحك إلى حتى البكاء، هو أن تصبح إدارة الدولة فى قبضة ميليشيات قتلت واستهدفت الشعب السورى نفسه، وخربت البلاد خلال ١٣ عامًا، ويظن البعض أنها قد تعمل يومًا لصالحه وتضمن أمنه وحمايته.

الميليشيات، التى تحكم اليوم فى سوريا، هى فصائل لم تعرف يومًا إلا الهدم والقتل، ولم تدر أمورها إلا بالحصول على الغنائم من دولة الأمس، وتمويل «أهل الشر» اليوم، للقفز على مقدرات دولة انهار فيها كل شىء، حتى بلغ الدرك الأسفل على كل المستويات، إلى أن تحقق هدفها بالوصول إلى الحكم على تلال من الجماجم وأنهار من الدماء.

فى سوريا المنهارة، سلّم الناس أمورهم إلى كل من كان اسمه يومًا «كنية»، تبدأ بـ«أبو فلان وعلان»، فمن «الجولانى» إلى «التركمانى» و«الأنصارى» و«الحلبى» و«الحمصى»، ليحكمهم أشخاص ذوو هوية وتاريخ مجهولين، فى انتظار أن يقدم لهم هؤلاء ما يعتقدون أنه غد أفضل، دون أن يدرى أحد من هؤلاء كيف سيديرون السلطة التى نصبوا أنفسهم عليها، ودون أن يسألهم أحد ما مؤهلاتهم لمباشرة شئون دولة وتدبير أمور شعب، فى أرض أعلنوا عن أنهم لا يعنيهم أن يحافظوا على سيادتها منذ يومهم الأول فى الحكم.

والغريب أن الجواب عن كل تلك الأسئلة جاء من العدو الواضح الجلى الذى لا لبس فيه- وليس الأعداء الذين يتخفون تحت أوشحة الصداقة وشعارات التحرير ونشر الديمقراطية- ليعلن جيش الاحتلال الإسرائيلى عن خروجه من حدود الجولان السورى المحتل، لإقامة منطقة عازلة، ظلت تتوسع ساعة بعد ساعة، حتى أصبحت المسافة بين المحتل والعاصمة دمشق أقل من ٣٠ كيلو مترًا.

ولعل كل ما جرى ويجرى مؤخرًا، فى المشهد السورى خاصة، وفى المنطقة العربية عامة، يؤكد ضرورة تمسك المصريين بأضلاع «ثالوثهم المقدس»، ويوضح أن الحالة المصرية تقدم درسًا بالغ الأهمية للمنطقة العربية، مفاده بأن استقرار الدول لا يقوم إلا على أساس ثلاثى متين، هو وحدة الأرض، ووعى الشعب، وقوة الجيش، وهذا الثالوث هو ما مكن مصر من تجاوز محاولات نشر الفوضى.