من تجليات اللحظة والأحداث.. ظهور شخصية (العبيط السياسى) على الساحة السياسية
(1)
كتب (أ) ما يلى (نجاح الثورة فى سوريا لو تمت آثاره فى الأيام القادمة من الإصلاح والهدوء واستيعاب الطوائف والاستقرار السياسى والاقتصادى وعدم وجود فوضى سيقلق معظم الأنظمة المحيطة بسوريا إلى حد الرعب من تشجيع شعوبها على إعادة تجربة الثورات مع تلافى أخطاء سابقاتها.)
فرد عليه (ب) بالتالى (..لكن إسرائيل مش هتسيب شبر من اللى أخدته وتركيا مش هتسيب شبر من اللى أخدته. سيناريو العراق للأسف.)
وجاء تعليق (أ) كالآتى (ولا الإمارات والسعودية والبحرين هتسيب شبر من اللى أخدته من مصر بحجة الاستثمار. على الأقل احتلال سوريا تم عن ضعف واحتلالنا بتواطؤ وخيانة تحت ستار عوز اقتصادى مفتعل..)
لا يمكن أن نلوم مواطنا بسيطا يقضى جل وقته من أجل الحصول على ما يعينه على متطلبات الحياة حين يُطلب منه أن يدلى بدلوه فى مسائل سياسية تتطلب قدرا من المتابعة المعلوماتية. لكن المفاجأة فى الحوار السابق هو صفة كل من المتحاورَين. ف (أ)هذا صحفى كهل يعمل بمؤسسة صحفية قومية كبرى وحاصل على درجة علمية رفيعة، بينما (ب) هو مواطن لا يعمل بالعمل الصحفى أو السياسى! لا يهم هنا موقع الصحفى من حيث تأييد نظام الحكم أم معارضته، لكن المهم هو صفة الصحفى فى حد ذاتها. فصحفى تجاوز العقد الخامس من العمر، وحصل على درجة علمية رفيعة، وبالقطع قد سافر كثيرا لدول المنطقة العربية وأتيح له بحكم عمله الوقوف عن قرب على طبيعة كل دولة وتركيبتها السكانية والمذهبية والمزاج العام لمواطنيها، كل ذلك من المفترض أن يُنتج عقلا سياسيا يتمتع بالحد الأدنى من الإدراك ولا يسقط هكذا فى جملة مركبة من الأخطاء القاتلة فى صياغة رؤيته التى قطعا توجهه حين يكتب ويوجه الرأى العام المصرى.
(2)
فكيف مثلا لا يدرك هذا الصحفى – الذى اخترته فقط كنموذج لما تعانى منه مصر الآن – أن ما حدث فى سوريا لا يمكن أولا وصفه بكلمة ثورة شعبية وذلك لتداخل أطراف عديدة خارجية بقوة فى المشهد مما أدى إلى هذه التغييرات الجارفة؟ فالتغييرات ليست صناعة محلية، بل إسقاط لنفوذ فى مقابل إقامة نفوذ آخر وكليهما غير وطنى.
والسقطة الثانية هو أن نجاح ذلك السيناريو - ذى الصناعة الخارجية تماما – يمكنه أن يثير أى مخاوف لأى نظام حكم من شعبه! فالمنطقى هو أن أى مخاوف لابد وأن تأتى من تلك الأطراف الخارجية التى تدخلت فى مشهد داخلى لدولة وليس من الشعب ذاته.
والسقطة الأبشع عدم إدراكه الفوراق بين دولة تقريبا كانت خاضعة لنفوذ دول أخرى تماما، وبين دول – مصر تحديدا التى يعرض بها – مستقلة تماما.
أما الأسوأ فهو أنه – وبعد كل ما شهدته المنطقة من كوارث وإسقاط دول واحتلالها وإفقار دول أخرى وإغراق دول ثالثة فى تيه صراعات طائفية دموية وتحويل شعوبها للاجئين – كيف لصحفى مخضرم أن يعتبر ما حدث فى هذه الدول ثورات شعبية عملت لصالح الشعوب، وأنه من صالح هذه الشعوب أن تعيد الكرة مرة أخرى؟ أى أنه يتمنى أن تُعاد الكَرّة فى الدول التى استطاعت الدفاع عن نفسها حتى يكتمل سقوط كل دول المنطقة وتحويلها لدويلات متناحرة وتحويل شعوبها للاجئين!
والأكثر غرابة هو عدم توقفه إطلاقا عند هوية من يحكمون الآن هناك وأن هذه الهوية هى التى لفظها المصريون بالفعل ليس بحثا عن رفاهية عيش، بل رفضا صريحا لها ولما تمثله من فكرة. وهو أيضا لا يرى مشكلة إطلاقا فى اعتبار أن – فى الحالة المصرية - الصراع المسلح بين مليشيا وبين الجيش الوطنى هو ثورة! فما الفارق إذن بين هذه الفكرة التى يتبناها صحفى مصرى يعمل فى جريدة قومية وبين الفكر الداعشى الصريح؟
رد المواطن المصرى عليه هو رد يتسق مع المنطق والبديهيات التى يدركها الجميع، لكن هذا الرد قوبل من الصحفى بمنطقٍ هزلى تماما. لقد ساوى الرجل بين استثمار شركات دول بعينها فى السوق العقارى المصرى باحتلال إسرائيل للأرض السورية! يتغافل عما يعرفه عن لهث كل الدول خلف نفس الشركات للحصول على استثماراتها على أراضيها ويصف ذلك فى الحالة المصرية بأنه احتلال.
والأخطر هو أنه لا يرى أية مشكلة فى هذا الاحتلال الإسرائيلى للأرض السورية، ويراه نقطة فرعية ثانوية بجانب تحقيق الإنجاز الأعظم أو ما يسميه نجاح الثورة!
(3)
منذ أيام قليلة ونحن نتابع مناقشات قوية أو مناوشات فكرية مشروعة بين بعض المواطنين من جنسيات عربية لتقييم ما حدث مؤخرا فى سوريا. ومنها ما يمكن اعتباره توثيقا لرؤية مواطنى البلد موضوع الحدث. ولقد اخترت نموذجا مهما لإحدى تلك المناقشات التى تكشف لنا إلى أى مدى قام مصريون من المحسوبين على النخبة بمحاولة الضغط على بلادهم فى وقتٍ كانت تواجه ضغوطا خارجية كبرى، ويمكن مقارنة موقف هؤلاء بما سجله سوريون عن رؤيتهم لما حدث فى سوريا.
كانت البداية حين قام مواطن مصرى بنشر رسم كاريكاتيرى لوجهة نظره فيما حدث. كان الرسم عبارة عن بالونة كبرى عليها علم الثورة السورية الجديد ويقوم بنفخها شخص عليه نجمة داوود بينما أداة النفخ عليها العلم التركى فيما يلخص وجهة النظر القائلة بأن ما حدث بتنفيذ تركى هو مخطط صهيونى. لا يهمنى هنا الموافقة على هذه الرؤية أو رفضها، لكن ما يهمنى هو رصد رد فعل السوريين على هذه الرؤية وسوف أنقل بعضها حرفيا.
(ما حدا إلو دخل. كنتو فرجونا حالكن وقت القصف والقتل شغال فوق رؤوسنا..مو شاطرين إلا بالحكى والفلسفة)
(العجيب أنه لما سوريا طلبت مساعدة الشعوب ما حدا لباها. مثل ما تركتونا نعيش الظلم تركونا نعيش المستقبل)
(أربعين سنة والجولان محتلة واليوم صار للمعارضة أسبوع فى الحكم ويطالبونه بتحرير الجولان وفلسطين)
(سوريا يكفيها شرفا وجود أشخاص مثل الجولانى وأمثاله من الشرفاء رجال عاهدوا الله.)
(يا أخى عيفونا بحالنا. قبل اليوم صناعة إيران اليوم صناعة إسرائيل يا خى كل واحد خلى بشأنو تركونا بحالنا تركونا نعيش.)
(كل واحد يدبر شؤونو وخلونا مكفيين ع النصر ولا حدا يدخل فينا نحن المهم أحرار.)
(شبعنا من المقاومة وحق الرد. نحن صهاينة ورجونا مراجلكم انتو وروحوا على إسرائيل)
(أهل مكة أدرى بشعابها..مبسوطين نحن وجيراننا حاربوا انتو نحن ما بدنا)
(حلو عنا ما حدا سائل عن رأيكم)
(نحن أتباع إسرائيل تفضل يا سيدى ع القدس وحررها انت وجيشك الجرار.)
(نحن رضيانين أنتو شو دخلكم..كلامك صح بتضل إسرائيل أهون من هالنظام المجرم)
(أشوف اللطم بصفحات مصر والعراق أيش دخلكم بأهل سوريا اهتموا ببلادكم)
(4)
خلاصة أكثر من ثمانين بالمائة من آراء المشاركين كانت تسير على هذا المنوال وتتلخص فى نقاط محددة هى:-
هذا شأنٌ سورى خاص بالسوريين فقط. هم راضون ولا يريدون تدخل من أحد. من يهتم بفلسطين من الشعوب الأخرى فليذهب وليحررها. إنكار تام لأى مساعدة قدمتها مصر أو غيرها لشعب سوريا فى السنوات الماضية. على المصريين تحديدا أن يهتموا بشأن بلادهم ولا يتدخلوا فى الشأن السورى. أنهم أحرار فى قراراتهم فيما يخص إسرائيل وليس من شأن أى أحد غير سورى أن يتدخل بالرأى. أنهم غير مهتمين بالشأن الفلسطينى أو غيره، فهم مهتمون فقط بالشأن السورى. لا يمثل ما اقترفته إسرائيل بعد سقوط بشار شأنا محزنا لهم.
حقيقة أسعدتنى هذه الآراء جدا وأرى أننا كمصريين نحتاج فعلا لتسليط الضوء عليها حتى نتعلم مجموعة من الدروس. أولها أننا لا ينبغى أن نحزن إلا على الشأن المصرى والأرض المصرية. وثانيها أننا كمصريين – حكما وشعبا – يجب أن نعيد التفكير فى مجموعة من المعتقدات السياسية التى ورثناها فى العقود الماضية، وأن نضع حدا للكرم المصرى المبالغ به أحيانا تجاه بعض الجيران وأن نطبق المثل المصرى الشائع (اللى يحتاجه البيت يحرم على الجامع)، ومن باب أولى أنه يُحرم على أى غير مصرى.
لأننا باختصار – وفى كل مرة ومحنة - نقدم السبت والأحد وكل أيام الأسبوع وفى النهاية لا نجد غير جزاء سنمار، فلا عرفان بالجميل، أو حتى الانتظار لاكتمال الاستغناء عن مصر قبل الجهر بهذا الجزاء. وثالث الدروس المكررة كثيرا أن قضية فلسطين أصبحت وبشكلٍ واضح مجرد مطية يتم امتطاؤها لأغراض سياسية ثم يتم ركلها بالأقدام حين يتم الغرض من امتطاؤها.
وهنا أنا لا أدعو أن تكون مصر مثلهم جميعا، لكننى أدعو إلى أن يثق المصريون فى بلادهم وأن يتيقنوا أنها لم تتخلّ حتى وهى فى أحلك الظروف وأصعبها عن هذا الشعب، لكن مصر تقوم بذلك بطرق عملية واقعية تتسق مع مفردات التاريخ والقوانين الدولية ودون أن تلجأ إلى الصوت الزاعق الذى يثبت كل مرة أنه مجرد ميكروفون للمتاجرة. مصر تقوم بذلك سرا وعلانية وطوال الوقت، لكن على الشعب المصرى أن يدرك ذلك وأن يتوقف فى أى موقف عن الضغط على دولته استجابة لأصواتٍ غير مصرية وذات أهداف لا علاقة لها لا بفلسطين ولا غيرها.
(5)
فى الأعوام الأخيرة وتحديدا منذ الخامس والعشرين من يناير عام 2011م مرت على المصريين أحداث سياسية جسيمة أجبرت الجميع على متابعة الشأن العام، والمشاركة فى القرار حتى بمجرد الاختيار عبر صناديق الاقتراع. فى تلك الأعوام وجد المصريون أنفسهم مطالبين دائما باتخاذ القرار، وكان عليهم دائما أن يبحثوا عمن يعينهم على ذلك من أصحاب أقلام، أو مؤسسات صحفية وإعلامية أو برامج تليفزيونية تقدم هذه الخدمة عبر استضافة خبراء وعلماء سياسة وتاريخ. هذا من طبائع الأمور، فهؤلاء هم قاطرة المجتمع العقلية وهذا هو دورهم الأهم الذى وجدوه فجأة متجسدا أمامهم، ولا أبالغ حين أقول إن هذا تحديدا هو ما قاموا عبر سنوات أعمارهم بالاستعداد له. كثيرون غادروا الحياة دون أن تتاح لهم هذه الفرصة. لكن ما حدث أن كثيرا منهم لم يكونوا على قدر الحدث. فبعضهم كشفوا عن وجوههم الحقيقية وثبت أنهم كانوا مجرد أدوات يتم تحريكها عن طريق جماعات راديكالية أو خلايا نائمة. وهؤلاء هم من دفعوا المصريين لهذا الاختيار المأساوى بانتخاب المليشيا. قليلون هم من قاموا بدورهم فى شجاعة منذ اللحظة الأولى. لأن الذين انقلبوا على الجماعة بعد أن لفظها المصريون لا يمكن أن نعتبرهم من هؤلاء القليلين مهما صرخوا بعد ذلك فى وجه الجماعة، لأن اللحظة الأولى كانت هى لحظة الفرز الحاسمة. سقطت أقنعة كثيرة وفقد كثيرون شرعيتهم تماما حتى بعد أن حاولوا العودة بعد ثورة يونيو، فإنهم قد عادوا مسوخا وفقد المصريون الثقة بهم تماما.
(6)
لكن هناك فئة أخرى أعتقد أنها ربما تكون الأخطر تأثيرا الآن. هؤلاء كانوا فى الظل السياسى. صحفيون من الصف الثانى والثالث وأساتذة جامعة وفنانون أو فنانات..بعض هؤلاء لم يكن يعمل بالسياسة. هؤلاء مخلصون تماما لأفكارهم ولا يمكن اتهامهم بأنهم يعملون لحساب أحد. هم يحبون مصر ويعتقدون أنهم على صواب. وجدوا أنفسهم فى أتون الأحداث السياسية الملتهبة فشاركوا فى توجيه الرأى العام حسبما يعتقدون. أصبح لكل منهم جمهور يصدقه ويعتقد فى صواب حديثه. لكن أزمة هؤلاء بشكل حقيقى هو تهافتهم معلوماتيا وسطحيتهم السياسية الشديدة. أحيانا يتبنون بعض المواقف ويروجون لها وهى أشبه ما تكون (عبطا) سياسيا خالصا تكلفته باهظة جدا. وهذه الكلمة ليست من قبيل التسفيه أو الإساءة الشخصية، لكنها وصف لما يقدمونه من آراء وما يتبنونه من مواقف حين نضع هذه الآراء وتلك المواقف فى مواضعها من الصورة السياسية الكلية مثل ذلك النموذج الذى افتتحت به المقال.
(7)
ولدى نماذج أخرى صارخة جدا مرت بها مصر فى الأشهر الأخيرة. منها مثلا ما حدث على سلالم نقابة الصحفيين حين كانت مصر تواجه ضغوطا محمومة لمحاولة إجبارها على التفريط فى سيادتها الوطنية. فى تلك اللحظة، وبدلا من أن تكون القاطرة العقلية على قدر الوعى الذى يتطلبه الموقف، فلقد فاجأنا بعضهم بهذا الموقف المعرض بموقف الدولة المصرية والمنضم للمعسكر المعادى الصريح لمصر. حين نضع هذا الموقف – الذى تبنته بعض أصوات النخبة – ونضعه وجها لوجه مع ما عرضتُه لموقف مواطنين سوريين يتضح الآن أن ذلك المشهد المصرى وقتها – وبافتراض حسن النوايا – لم يكن إلا (عبطا) سياسيا فى لحظات خطرة.
ومن نفس النوع من المواقف ما حدث حين أراد بعضهم فتح أبواب النقابة الوطنية المصرية لتلقى العزاء فى مقتل شخصية غير مصرية عُرف عنها تورطها فى جرائم ضد مصر. ومن نفس النوع مواقف بعض القيادات الروحية غير السياسية حين تقرر خوض غمار التصريحات السياسية فتأتى بعض تصريحاتها غريبة شاذة عن موقف الدولة المصرية.
أعتقد أن هذه الشخصية الاعتبارية هى من أهم إفرازات الأحداث السياسية الملتهبة التى تعصف بالمنطقة منذ أعوام، والتى نجت مصرُ من فخاخها حتى الآن. وعلينا كمصريين أن نستعد لموجة أخرى قد تكون الأخيرة بعد آخر هذه التطورات. ستكون موجة قوية لأنهم يدركون أنها إن لم تنجح – وهى لن تنجح بإذن الله – فسوف يكون ذلك نهاية تلك الحملة الاستعمارية التى استهدفت دول الشرق فى الألفية الجديدة.