اشتباك مع أسئلة التحرر والاستقلال فى زمن الاحتلال (1)
بعد أكثر من قرن من الكفاح الفلسطينى، لإنهاء الاحتلال والمظلومية التاريخية، التى وقعت منذ الحرب العالمية الأولى.. أثارت أحداث «طوفان الأقصى»، والحرب الإسرائيلية الأطول على الأراضى الفلسطينية منذ 1948، صدمة ثقافية عالمية واسعة، امتدت إلى مناقشة مصير الإنسان وأسئلة الوجود والحياة، وقضايا الاستعمار والحرية، شارك فيها مفكرون ومثقفون وأدباء وكتاب وفنانون من شتى أنحاء العالم، من خلال حوارات طويلة، اشتبكوا فيها مع أسئلة الحرية والعدالة والاستقلال، فى الزمن الراهن، حيث ينفتح الأفق ثقافيًا على كل الُممكنات، بعد أن أثارت الحرب الإسرائيلية على غزة، موجة كبيرة من الاحتجاج فى مختلف أنحاء العالم، وشملت تلك الاحتجاجات المثقفين والمفكرين، ومنهم أصوات عربية وغربية، متضامنة مع حقوق الفلسطينيين والرافضة الحرب، حيث «الدور الحقيقى للكاتب قائم فى كل ما قدمه من إبداع مُدافع عن الحرية، ومُحتضن القيم الكبرى».
المثقفون والمفكرون والأدباء الموزعون على خرائط الإبداع والجغرافيا، يجمعهم التضامن مع الدم الذى روى أرض غزة، الدم الذى هو «ضحية مشروع إسرائيل الصهيونى الاستيطانى، وضحية مشاريع العنف والظلام التى خلقها هذا المشروع الاستعمارى فى المنطقة وسوغ وجودها»، بحسب وصف الكاتبة والباحثة اللبنانية، هدى فخر الدين، أستاذة الأدب العربى فى جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة، التى شاركت مع أكثر من عشرين مثقفًا ومفكرًا من أكثر من خمسة عشر بلدًا، فى التعبير عن مشهد ثقافى، يحاول مقاربة أهوال ما يحدث فى غزة وفلسطين، إنسانيًا وأخلاقيًا وتاريخيًا وفكريًا، للتأكيد على أهمية دور المثقف فى التحولات التاريخية، حيث تنأى به المعرفة والسلطة الأخلاقية، عن التبعية للسلطة أو الانعزال فى برج عاجى.
● يرى المفكر الفرنسى فرانسوا بورجا، أن حكومات الدول الأوروبية لا تزال ترى المشهد بعيون إسرائيلية فقط، ضاربة بعرض الحائط صور الكارثة التى يتعرض لها سكان غزة ..تحيز صارخ يدهش العالم، ربطه المفكر الفرنسى بتزايد قوة اليمين المتطرف فى هذه الدول، الذى يرغب فى إشباع هواجسه المعادية للإسلام والمسلمين، ويعكس خوف هذه الحكومات من استيراد الصراع العربى الإسرائيلى إلى بلدانها، لذا، فإن دولة مثل فرنسا تمنع المظاهرات المؤيدة لفلسطين.. فيما يراه بورجا، تفاقمًا للخلل العميق فى المواقف مع موجة الكراهية القوية للإسلام فى العقد الماضى، «بداية، اقترب اليمين المتطرف من خط الدعم غير المشروط لإسرائيل؛ لأن هذا التوجه يسمح له بإشباع هواجسه المعادية للمسلمين، أما اليسار، الذى كان صوته قويًا نسبيًا ذات يوم، فقد تخلى عن مواقفه السابقة، وتوقف عن إدانة إسرائيل، منذ أن تحدثت المقاومة الفلسطينية بلهجة إسلامية».. ويعتبر أن الحكومة الفرنسية، التى اختارت التنافس مع اليمين المتطرف على أرضها، تعرف أن معارضتها الانتخابية الرئيسة من اليسار، ولهذا السبب أخذت على عاتقها مسئولية تجريم المقاومة الفلسطينية الإسلامية، من خلال ركوب موجة «الإسلاموفوبيا».. و«بينما تتحدث أوروبا عن وقف المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، تمنع فرنسا المظاهرات المؤيدة لفلسطين؛ لأسباب أمنية مزعومة؛ فيما تزيد من تعبيرها المُعلن لدعم الإسرائيليين».
● لا يستسلم المؤرخ الإسرائيلى المناهض للصهيونية، آفى شلايم، أستاذ العلاقات الدولية فى جامعة سانت أنطونى، التابعة لجامعة أكسفورد، لقراءة ما يحدث فى فلسطين ابتداء من السابع من أكتوبر، بل يُصر على أن ما حدث يجد جذوره منذ سنة 1967.. فالطريقة الوحيدة لفهم الحرب الإسرائيلية على غزة تتلخص فى فهم السياق التاريخى، قبل أن يُبين الأسباب التى تدفعه للاقتناع بأن هذه الحرب «لا معنى لها».. إن مقاربة «الانتقام»، التى تشتغل بها حكومة بنيامين نتنياهو «لن تؤدى إلى أى نتيجة»، حيث ينتمى شلايم إلى نخبة المؤرخين الإسرائيليين الجدد، الذين يعملون على إعادة قراءة نشأة إسرائيل، ومواجهة الروايات التى عملت على ترويجها، ويؤمن بأن إسرائيل بعد عام 1967، أصبحت قوة استعمارية وحشية، مهمة جيشها حماية أمن الاحتلال، وهى تمارس نظام الفصل العنصرى، وقد عبر عن أفكاره فى كتبه، ومنها «سياسة التقسيم» و«تاريخ موجز للحرب والسلام فى الشرق الأوسط»، و«الجدار الحديدى ..إسرائيل والعالم العربى».. وينتقد شلايم الازدواجية الغربية قائلًا، «حتى الآن لا تزال القوى الغربية متحيزة تمامًا لطرف واحد، فهم من جهة يدينون حماس ويصفونها بالمنظمة الإرهابية، لكنهم فى المقابل لا ينظرون إلى ردة الفعل الإسرائيلية، ولا يوجهون لها أى انتقاد، ولهذا فهم متواطئون فى الهجوم على غزة وعلى المدنيين.. عمليًا، لقد منحوا إسرائيل الضوء الأخضر للقيام بأبشع الأشياء، عوض الدعوة إلى وقف إطلاق النار».. ويؤكد أن إسرائيل وأصدقاءها حول العالم يخلطون بين معاداة السامية، ومعاداة الصهيونية، أنا أعرِّف «معاداة السامية» بكونها كراهية اليهود فقط لأنهم يهود، وهذا أمر لا علاقة له بإسرائيل.. أما معاداة الصهيونية، فأمر مختلف تمامًا، فهو انتقاد ومعارضة الأيديولوجية الصهيونية، التى هى الأيديولوجية الرسمية لدولة إسرائيل، خصوصًا فى ما يتعلق بسياسات التعامل مع الفلسطينيين، من احتلال ونظام فصل عنصرى «الأبارتايد»، والاستعمال القاسى والعنيف للقوة كما نعيشه هذه الأيام فى غزة.
ويؤكد المؤرخ الإسرائيلى المناهض للصهيونية، على أن جذور ذلك الصراع تعود إلى بداية الاحتلال، بخلاف ما تروج له الرواية الرسمية لإسرائيل، وأن ادعاء اليهود بمشروعية امتلاك الأرض على أساس دينى، ادعاء باطل تمامًا فى العصر الحديث، وانتقد ما يسميه إرهاب دولة إسرائيل وعقيدة «إذا لم تنجح القوة فاستخدم المزيد من القوة»، بل إنه اعتبر الصهيونية حركة علمانية استحضرت «الوعد الإلهى لليهود بأرض الموعد»، رغم عدم إيمانهم بالله، حيث إن استحضارهم هذه الفكرة الدينية، كان فقط لأجل إيجاد مسوغ، لاغتصاب الأرض من أصحابها الفلسطينيين، «الأشخاص الذين يعيشون تحت الاحتلال، لهم الحق فى مقاومة المحتل بموجب القانون الدولى، وحماس تمارس حق مقاومة الاحتلال الإسرائيلى، وهى العنصر الوحيد داخل المجتمع الفلسطينى الذى يقاوم الاحتلال الإسرائيلى، لأن السلطة الفلسطينية تتعاون مع إسرائيل فى إدامة الاحتلال».. واعتبر «الدعاية الإسرائيلية تجسيدًا لجهاز تجهيل الناس، الذى يتجاهل تمامًا أن حماس تم اختيارها ديمقراطيًا من قِبل الفلسطينيين.. الواقع أكد أن حماس جربت طريق السياسة، لكن إسرائيل أحكمت إغلاقه، ما تتجاهله إسرائيل ولا يريد إعلامها إظهاره، هو أن الفلسطينيين شعب كباقى الشعوب، يحب أن يعيش بحرية وكرامة على أرضه، وإسرائيل هى التى تحول دون ذلك».. وحمَّل الغرب «نصيبًا كبيرًا من المسئولية عن المأزق القائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وذلك لأن الغرب منحاز تمامًا للأطروحة الإسرائيلية».. ومكمن خطر تجريد شعب بأكمله من إنسانيته، كما تفعل إسرائيل للفلسطينيين، هو أنه يمهد الطريق للتطهير العرقى والإبادة الجماعية، وما نشهده اليوم فى غزة تجسيد لعمليات تطهير عرقى تقوم بها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين فى غزة.
وقال المؤرخ ذو الأصول العراقية، «من خلال تجربة عائلتى وتجربة الجالية اليهودية فى العراق، يمكننى أن أفكر فى أفق لمستقبل أفضل لمنطقتنا، لمواجهة الادعاء الصهيونى، بأن العداء اليهودى العربى الإسرائيلى أمر مقدر، وأن الجانبين محكوم عليهما بالعيش فى صراع دائم، وبالنسبة لى مفهوم «اليهودى العربى» يساعدنى فى التفكير فى إمكانية إنشاء دولة ديمقراطية واحدة، يتمتع جميع مواطنيها بحقوق متساوية للجميع، بغض النظر عن الدين والعرق.
● الكاتب والصحفى الإيطالى، فرانتشيسكو بورجونوفو، الذى لا يخشى السباحة ضد التيار ونائب مدير صحيفة «لافيريتا» اليمينية، وصاحب برامج تليفزيونية وإذاعية عدة، والذى ينحدر من تقاليد أقصى اليمين الإيطالي، ويُعد فى الوقت الحالى واحدًا من أبرز الوجوه الإعلامية فى إيطاليا وأكثرهم شعبية، يرى- وعلى عكس وجوه اليسار التى وصفت عمليات حركة حماس بالإجرامية وطالبت بعزلها أن حماس حركة سياسية تمثل شعبها، ولا بد للغرب من أن يجلس معها على طاولة الحوار ،وقد أثارت إطلالته على القناة الإيطالية السابعة، مع إحدى صحفيات «كورييرى ديللا سيرا» كثيرًا من الجدل، إذ وصفته الممثلة عن الصحيفة الليبرالية الأكثر انتشارًا فى إيطاليا، بأنه موالٍ لحركة حماس، بسبب مطالبته بوقف إطلاق النار فى غزة، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، وطالب فى مناظرات تليفزيونية عدة بالحوار مع حماس وعدم ربط الحركة الفلسطينية بتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، بل كان الوحيد فى إيطاليا الذى أذاع- فى البرنامج الذى يقدمه على قناة بيوبلو- حوارًا مع أحد قياديى حماس، أجرته معه فى وقت سابق مجلة «لا لوتشى» ..يقول، إن «تاريخ اليمين الإيطالى فى أغلبه، تاريخ مناصر للقضية الفلسطينية، والانحياز لدولة إسرائيل هو الطارئ.. هناك لحظة حدث فيها تقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية، بدا أن كل شىء تغير معها.. أعتقد أن هناك صورة زائفة تقدم عن الإسلام، أنا أرفضها وأطالب بتصحيحها، يضيف فرانتشيسكو، وأعتقد أن الإسلام دين رائع ينضح بقيم الفروسية، أما الادعاء أنه دين سلام فهو محاولة لتدجينه، والزعم بأن الثقافة الغربية ثقافة سلام، لأنها منحت العالم سبعين سنة من السلام ليس سوى هراء».
● رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، قد يخرج من هذه الحرب أضعف مما كان عليه، هكذا تحدث المؤرخ الإسرائيلى، إيلان بابيه، مُشيرًا إلى قلقه تجاه المجتمع الإسرائيلى اليهودى، غير المستعد لتغيير موقفه تجاه فلسطين والشعب الفلسطينى .. إن التوقعات بشأن الجدل السياسى داخل إسرائيل أو الصراع داخلها، هو أن كل ما رأيناه قبل السابع من أكتوبر سيظل موجودًا حتى نهاية الحرب ..ويؤكد بابيه، أن هناك صراعًا سيستمر بين «دولة يهوذا»، أى دولة الاحتلال التى تريد أن تكون إسرائيل أكثر تدينًا وتعصبًا وثيوقراطية، وبين «دولة إسرائيل»، أى الإسرائيليين الأكثر علمانية، كإيهود باراك مثلًا، التى يعتبرها البعض أكثر ديمقراطية .. إن هاتين الدولتين نموذج «دولة يهوذا»، ونموذج «دولة تل أبيب» ليستا ديمقراطيتين عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، فيما الديمقراطية الممكنة فى حالة «دولة إسرائيل» تكون فقط بالنسبة لليهود وليس تجاه الفلسطينيين.
ويُفسر صاحب كتاب «الفلسطينيون المنسيون. تاريخ الفلسطينيين فى إسرائيل»، والذى ترك التدريس فى جامعة حيفا عام 2006 بسبب آرائه، قائلًا «أظن أن الصراع الداخلى اليهودى الإسرائيلى سيستمر، من المؤكد أن نتنياهو سينهى هذه الحرب أضعف بكثير مما كان سابقًا، ولكن يجب أن نتذكر أنه لا تزال لديه قاعدة قوية داخل إسرائيل، التى ربما لا تزال داعمة له، وقد يخسر الانتخابات المقبلة، وربما قد يعود مجددًا، فليس هناك شىء مؤكدًا بالنسبة لهذا الرجل».. لكن أساس المشكلة ليس نتنياهو، المشكلة هى أنه لدينا مجتمع يهودى إسرائيلى، ليس مستعدًا لأن يغير موقفه تجاه فلسطين والفلسطينيين، وهذا مقلق جدًا.. لا يمكننا أن نتوقع التغيير من الداخل، ما نحن بحاجة إليه، كما قلت سابقًا وسأردده مرارًا وتكرارًا، نحن بحاجة إلى ضغط قوى من المنطقة ومن المجتمع الدولى، إذا كنا نريد حقًا أن ننهى معاناة الاحتلال والاستعمار.
● وُلِدَ عالم السياسة الفرنسى الشهير، أوليفييه روا عام 1949 فى لا روشيل غرب فرنسا، وعمل أستاذًا فى المعهد العلمى للدراسات السياسية فى باريس، قبل أن يُصبح مدير أبحاث مركز البحوث العلمية ومدير دراسات المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسية، ومستشارًا فى مركز التحليل والتوقع التابع للخارجية الفرنسية ..يقول إن إسرائيل تعيش «جهلًا مقدسًا» إلى حد كبير، كما أنه ليس من قبيل الصدفة، أن تحظى إسرائيل الآن بدعم متزايد من الإنجيليين الأمريكيين، فما هى القواسم المشتركة بينهما؟ .. إنها إعادة بناء الدين خارج التقاليد الثقافية.. ويشرح، «هناك بالطبع تقاليد يهودية دينية وثقافية غنية جدًا.. فمثلًا يهود أوروبا الشرقية كان لديهم دين متجذر فى الثقافة ولغة ومجتمع خاص بهم.. يلاحظ الأمر نفسه مع البروتستانتية فى الولايات المتحدة ..حاليًا، هناك حركات فى كل من العالمين اليهودى والبروتستانتى تؤكد خصوصيتها، باعتبارهما الدين الحقيقى وتركزان على الولادة من جديد، وإبعاد نفسيهما عن الجذور التاريخية التى تعتبرها سلبية».
ومن الجدير بالذكر، يقول أوليفييه، إن بعض المجتمعات اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة، التى تأسست مؤخرًا نسبيًا فى أواخر القرن الثامن عشر، تبدو كأنها جديدة كليًا، لكونها منفصلة عن التقاليد اليهودية التى تعود إلى قرون مضت، كما لو أن الحاخام المؤسس يخلق حقيقة دينية جديدة، وعلى نحو مماثل، يُروج المستوطنون على غرار الإنجيليين فى أمريكا، لسردية مفادها بناء أرض مقدسة جديدة من الصفر، على الرغم من أن هذا تحريف تاريخى.. فمثلًا هم يُطلقون أسماء توراتية على الأماكن، لتبدو قديمة تاريخيًا رغم أنها حديثة كليًا .. ويضيف «فى الجوهر، ما يظهر هو يهودية إسرائيلية ذات تطلعات عالمية، تهدف إلى الاستمرارية التاريخية وتثبيت نفسها بالأرض، لكنها فى صميمها، اختراع لتقليد مجتمع يهودى كان غائبًا منذ ألفى عام، وتعكس هذه الظاهرة شكلًا من أشكال الأصولية، أو انفصال الدين الخالص عن التقاليد والثقافة».
● لم تقف الإدانات لجرائم جيش الاحتلال الإسرائيلى فى قطاع غزة، ضمن حدود العالم العربى، بل وصلت إلى كثير من العواصم الأوروبية ..وهنا، صوت من مملكة السويد، عبَّر عنه الكاتب السويدى، يوران بورين، بانتقاده سياسة حكومة بلاده الحالية «المؤيدة لإسرائيل بقوة».. ولبورين عمل مهم، يكشف انحياز الرأى العام الغربى عمومًا إلى الجانب الإسرائيلى، على حساب الطرف العربى الفلسطينى، إذ شرح فى كتابه «جريمة اغتيال الوسيط الدولى فى فلسطين، الكونت فولك برنادوت»، 2022 الذى صدرت ترجمته العربية حديثًا بترجمة سامح خلف عن اللغة السويدية، قصة اغتيال الكونت فولك برنادوت، الذى ارتبط اسمه بأحداث عام 1948 فى فلسطين، والصراع الذى دار ولا يزال بين العرب الفلسطينيين والمهاجرين اليهود، الذين تدفقوا إلى فلسطين فى العقود القليلة قبل النكبة، وقد انتهت تلك الأحداث بالنكبة والتهجير فى فلسطين، وإعلان قيام دولة إسرائيل.. وفى الحوار الذى أجرته معه الجزيرة، تناول الكاتب السويدى الموقف الغربى تجاه ما يجرى فى غزة من دمار، ووصفه بأنه «غير عادل»، ويؤكد أن «إسرائيل وأمريكا والدول الأوروبية، هى المسئولة عن حالة اليأس والإحباط التى اختمرت فى غزة منذ سنوات عديدة، والتى كان لا بد لها أن تنفجر، عاجلًا أم آجلًا»..
يقول الكاتب، إن الدعم الرسمى لإسرائيل كان قويا دائمًا، خصوصًا خلال حكومتى أولوف بالمه ـ 1927: 1986 1986 وإينجفار كارلسون.. وكان هناك أيضًا كثير من التعاطف مع القضية الفلسطينية، ومنذ مطلع الألفية، أصبح الدعم الرسمى السويدى لإسرائيل أقوى مرة أخرى.. ويعتبر أن الموقف الغربى ليس عادلًا بأى حال من الأحوال، لأنه لا يعترف بأن إسرائيل هى المسئولة عما وصلت إليه الأوضاع فى فلسطين.. وبشكل غير مباشر، الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية نفسها، هى المسئولة عن حالة اليأس والإحباط التى اختمرت فى غزة منذ سنوات عديدة، والتى كان لا بد لها أن تنفجر عاجلًا أم آجلًا، ولذلك، ما قامت به حركة حماس ضد الجيش الإسرائيلى، يعتبر حقًا مشروعًا تكفله القوانين الدولية، وبالمقابل فإننى لا أؤيد قتل المدنيين ..كما يشير إلى أن وسائل الإعلام الغربية عمومًا، تعتبر متحيزة وبدرجات متفاوتة، فى تغطيتها الأحداث الأخيرة فى قطاع غزة، ويظهر فى تغطيتها الأحداث، أن حياة الإسرائيليين أكثر أهمية من حياة الفلسطينيين، مؤكدًا فى الوقت ذاته، أن «نسبة كبيرة من السويديين يشككون فى الادعاء بأن إسرائيل دولة ديمقراطية، نظرًا لواقع الاحتلال والقمع المستمر للفلسطينيين.. أنا شخصيًا أعتبر إسرائيل دولة فصل عنصرى.. و«آمل أن تتعب الولايات المتحدة وبقية العالم من الصراعات التى لا نهاية لها، وأن تُجبر إسرائيل على فرض حكم الأغلبية فى كامل فلسطين، كما كانت تحت الانتداب، لكنْ هناك طريق طويل يجب عبوره».
● «ليس إمامًا، ولكنه يتمتع بتأثير كبير بين مسلمى إيطاليا، اسمه دافيدى بيكاردو، وهو القائل إن حماس حركة مقاومة».. هكذا وصفه الصحفيان الإيطاليان، كلاوديو أنطونيللى، وسلفاتورى دراجو، بُعيد إعلانه دعمه الكامل لحركة حماس، فى وقفة تنكّر كل «أصدقاء فلسطين» فى إيطاليا لحق الفلسطينيين فى المقاومة المسلحة.. هو ابن مترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإيطالية، روبيرتو حمزة بيكاردو، والرئيس السابق لتنسيقية الجمعيات الإسلامية فى ميلانو.. يدير دافيدى بيكاردو حاليًا مجلة «لا لوتشى»، وقد انفرد مؤخرًا بمحاورة القيادى بحماس باسم نعيم، فى ذروة الحرب الإسرائيلية على غزة، والتحريض على المقاومة الفلسطينية فى وسائل الإعلام الإيطالية، واستضافته الجزيرة، حول قضايا فلسطين والعلاقة بين العالمين العربى والأوروبى.
يقول بيكاردو، إن «النقاش السياسى والإعلامى فى إيطاليا ليس حرًا عكس كل الادعاءات، وهو ما خلق شرخًا بين النُخب والشعب الإيطالى الذى يقف مع الفلسطينيين، على الرغم من الانحياز الإعلامى الكامل لصالح إسرائيل».. إن اعتبرنا المقاومة المسلحة ضد الاحتلال إرهابًا، علينا إذن أن نندد بأثر رجعى، بجميع حركات التحرر الوطنية التى عرفها التاريخ .. وينتقد اليمين واليسار قائلًا: «الأعداء الصريحون لفلسطين، هم ممثلو ذلك اليمين المؤسساتى، الذى يعتقد أن إسرائيل تخوض حربها نيابة عنه وعن الغرب كله، فى إطار نظرية صدام الحضارات.. وفى المقابل، اليسار الإيطالى الذى كان يقف فى وقت من الأوقات فى صف الشعوب المضطهدة ويؤيد حركات التحرر من الاستعمار، أصبح الآن لا يدعم الشعب الفلسطينى، سوى على نحو مجرد، لا يفضى إلى أى شىء ملموس».. ويفصل فى نقده للمنظور اليسارى الأوروبى، قائلًا، «خطورة اليسار الإيطالى اليوم على القضية الفلسطينية، لا تكمن فى أنه اختار بيع الكلام لفلسطين فحسب، بل رفضه المقاومة الحقة للفلسطينيين، خصوصًا إن كانوا مسلمين، وهذا ملمح خطير آخر من سلوك اليسار، الذى لا يريد فلسطينيين سوى على شاكلته، يريد علمانيين، نسويين ومتحولين جنسيًا».. ويضيف، أن «المقاربة الفولكلورية اليسارية لموضوع الهجرة، تريد مسلمين ينخرطون فى السياسة، لاستغلالهم إعلاميًا فقط بأسمائهم العربية والحجاب على رأسهم، لكن ليس قبل أن يتجردوا من تقاليدهم المحافظة، وكل ما يتعارض مع أيديولوجيا الجندر».
● تُوصف رومانا روبيو، بأنها أهم صحفية مختصة بالشأن الفلسطينى فى إيطاليا على الإطلاق، وأشدهم حرصًا على الالتزام بالسردية الفلسطينية.. أثارت بكتاباتها سخط الصحافة الإيطالية الموالية لإسرائيل، منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة، حيث كتبت عنها صحيفة «إل جورنالى» فى مقال بتاريخ 11 أكتوبر الماضى، أنها «تلك الصحفية التى تتحدث على حساباتها فى مواقع التواصل هذه الأيام عن إرهابيى حماس بوصفهم مقاومة، وتلك التى ترفق تعليقاتها باقتباسات على شاكلة، إن النصر لقادم .. إنها روبيو، التى كتبت :قلوبنا مع الشعب الفلسطينى العظيم، الشعب الذى لم يقبل التدجين».. وتعمل روبيو رئيسة تحرير النسخة الإيطالية من صحيفة «بالستاين كرونيكل»، التى أسسها باللغة الإنجليزية ويديرها الصحفى الفلسطينى المقيم فى الولايات المتحدة الأمريكية، رمزى بارود، وهى أيضًا مترجمة كتابه «الأرض الأخيرة» إلى الإيطالية.
تقول روبيو «مَنْ يحق له تحديد شكل عمليات المقاومة ونوعها وتوقيتها، هو حتما الشعب الذى يرزح تحت نير الاستعمار والاحتلال العسكرى، والآن يتعرض للإبادة الصريحة، وليس تلك التى كانت تتم بالتقسيط فقط، بتعبير المؤرخ إيلان بابيه» وتنتقد اليسار الأوروبى قائلةً، إن بعض الناشطين الإيطاليين قد تحجرت فكرتهم عن النضال الفلسطينى، عند سنوات السبعينيات، أيام النضال الشيوعى ..هؤلاء يريدون فلسطين كما يتخيلونها هم وفقط.. وتُكمل «التغير الثقافى الذى وصفته بدقة داخل اليسار الإيطالى، تسبب فعلًا فى تشويش أيديولوجى كبير، أثر فى دعم القضية الفلسطينية فى إيطاليا، حيث أصبح اليسار يستلهم أفكاره تحديدًا من التوجهات الثقافية الأمريكية الجديدة، وهو ما أنتج أزمة فكرية لدى مثقفى إيطاليا، سببه أن اعتناق النزعة الأمريكية فى هذا الصدد، يجعل من تجارب تاريخية كبيرة فى المقاومة- على غرار التجربة الجزائرية أو الجنوب إفريقية أو حتى الإيطالية نفسها والكوبية - خارج المعايير المقبولة»، وعن دور الدين فى الصراع تقول، «الدين لا يلعب عند الصهيونى الدور ذاته الذى يلعبه لدى الفلسطينيين، وهنا لا بد أن نتذكر أن الأيديولوجية الصهيونية تم تأسيسها على يد مُلحدين، استغلوا اليهودية لإطلاق مشروعهم الاستعمارى ليس غير، فيما الدين بالنسبة للفلسطينيين هو روحانيات وإيمان حقيقى، هو ما يجعلهم يتعلقون بالأمل، ويمدهم بما يبدو وكأنه قدرة تفوق طاقة البشر على التحمل».
● يرى الصحفى والكاتب الفرنسى آلان جريش، أن «المجتمع الدولى خصوصًا العالم الغربى لا يفعل شيئًا لوقف هذه المأساة التى تجرى فى غزة»، منتقدًا «العالم الغربى الذى يدعى الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقرير المصير، لكنه يثبت الآن أنه عالم منافق يُقدم سلسلة من الأكاذيب»، على الرغم من أن الصحفيين فى غزة «قاموا بعمل خيالى، وقدموا لنا كل شىء نريده، فهم بالفعل صحفيون شجعان»..
وجريش صحفى فرنسى مخضرم، وخبير فى شئون الشرق الأوسط، ولد بالقاهرة سنة 1948 لعائلة يهودية مصرية ذات أصول أوروبية، والده هنرى كوريل، أحد مؤسسى الحزب الشيوعى المصرى، وكان لتلك النشأة تأثير فى تكوينه الفكرى والسياسى، إذ غلب عليه التوجه اليسارى واهتمامه بمشكلات الشرق الأوسط والعالم العربى، رغم مغادرته وعائلته القاهرة عام 1962 إلى فرنسا ..ويُعدّ جريش خبيرًا بقضايا الشرق الأوسط، وأحد المتخصصين فى صراعات المنطقة، كما أنه مناصر للقضية الفلسطينية، وازداد اهتمامه بقضايا العالم العربى، مع تسلمه رئاسة تحرير صحيفة «لوموند دبلوماتيك» العريقة لمدة 10 سنوات، وأسس سنة 2013 الموقع الإلكترونى «أوريان 21»، المتخصص فى قضايا العالمين العربى والإسلامى.
يقول إن التغيير فى السياسة الرسمية الفرنسية حدث بعد عام،2001 حيث بدا واضحًا أن نظرة فرنسا إلى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى بدأت تتغير، ولم تعد فرنسا تعتبر أن الصراع هو بين قوة احتلال وشعب واقع تحت ذلك الاحتلال، بل أصبح الصراع ضد الفلسطينيين، جزءًا من الحرب ضد الإرهاب التى قادتها الولايات المتحدة بالتحالف مع أوروبا الغربية وإسرائيل.. ويعتبر جريش المسئولين الفرنسيين اليوم مساهمين فى ما يحدث، وهم مشاركون فى الإبادة الجماعية، ويضيف »بدأت وسائل الإعلام الفرنسية تتحدث عما يجرى فى غزة، لأن الأمر أصبح واضحًا أكثر وأكثر، بوجود تطهير عرقى حقيقى ضد الفلسطينيين لم يجر الحديث عنه مسبقًا، ومن الأسباب، أنهم يقولون إنه ليس لدينا صور عما يحدث فى غزة، ولكن بالطبع لديهم الصور، فمعظم الصحفيين الغربيين يعتقدون أن الصورة التى مصدرها إسرائيل هى المقبولة، أما التى مصدرها الفلسطينيون فيجب أن تخضع للدراسة».
● قال أستاذ الاقتصاد السياسى فى جامعة كولومبيا الأمريكية، جيفرى ساكس، إن «تصرفات إسرائيل فى قطاع غزة جرائم حرب»، وإن القصف المستمر والحصار الدائم قد يتسببان فى سقوط المزيد من عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء.. ويرى أن إسرائيل لا تستطيع تحقيق الأمن عن طريق الحرب، بل من خلال تسوية تضمن الحقوق السياسية للشعب الفلسطينى، بوصف ذلك جزءًا من حل سياسى شامل وعادل ..وساكس تم اختياره مرتين ضمن «قائمة مجلة التايم»، لأكثر مائة شخصية مؤثرة فى العالم، وله مؤلفات عدة، كانت ثلاثة منها الأكثر مبيعًا وفقًا لصحيفة «نيويورك تايمز»، كما حاز العام الماضى جائزة» تانج» للتنمية المستدامة.
● الأكاديمى والمستعرب الإسبانى، إجناطيوس جوتيريث دى تيران جوميث بينيتا، أستاذ اللغة والأدب العربى والتاريخ المعاصر فى العالم الإسلامى، بقسم الدراسات العربية والإسلامية فى جامعة مدريد المستقلة، يرى أن «القضية الفلسطينية كانت أكثر حضورًا بالمجتمعات الأوروبية، فى وقت ليس بالبعيد، حيث كان هنالك إلمام بخفايا القضية ومتابعة لمجرياتها» .. لذا، فإن «العدوان الجارى على غزة يُشكل صدمة لكثير من الأوروبيين، الذين لا يعرفون جيدًا ما الذى أدى بالمنطقة إلى هذا الوضع الحرج جدًا، الذى ينبئ بنزاع إقليمى لا يمكن لأحد التنبؤ بعواقبه»، مضيفًا أن «المواطن الأوروبى عمومًا متعاطف مع شعب غزة، وما يعانيه من تجويع وتشريد وقصف ممنهج» .. ويعتبر دى تيران، أن «الكثير من الغربيين -وتحديدًا النُخب السياسية- يؤمنون بأن إسرائيل جزء من الغرب، وأنها تمثله فى الشرق الأوسط، وأن الإسرائيليين مثلنا، حتى نعبر عن الوضع بعبارة مبسطة.. ولما كان الإسرائيليون مثلنا فلا بد أن نؤيدهم، بالمقابل الفلسطينى دائمًا يمثل الآخر أو الغير أو المجهول الذى يعارضنا» ..ويتساءل «كيف من الممكن أن نناقض نفسنا بمثل هذه الطريقة البشعة؟.. لأن إسرائيل الآن تمارس سياسة قمعية وقاهرة، لا علاقة لها بالقيم الأخلاقية ولا أخلاق لما تقوم به ..إسرائيل دولة محتلة ومغتصبة، ولكنها لا تريد أن تنظر لهذا الوجه من الحقيقة المرة بالنسبة لها».
«أين نحن من القيم الأخلاقية؟ ..وأين نحن من مفهوم جديد لما هى الحداثة البعيدة عن معنى الاحتلال والاستغلال؟ ..إسرائيل دولة مستعمرة، دولة محتلة، دولة تُهجِّر أصحاب الأرض، حتى إن كان هؤلاء الأصحاب غير حداثيين بالمعنى الذى يريدونه، ولكن لهم حقوقهم ..الحداثة هى أن نحترم هذه الحقوق، الحداثة هى أن أفعل عكس ما فعلنا لمدة قرون، أوروبا دائمًا كانت دولة تمارس الاحتلال وتمارس الاستعمار وتمارس التمييز»... ويعتبر إجناطيوس أن المجتمعات المتوسطية تفهم القضية الفلسطينية بطريقة أخرى، أقصد إسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص ومالطا.. هذه الدول ومجتمعاتها، لها مفهوم مختلف للعالم العربى وللقضية الفلسطينية، الرأى العام الإسبانى معروف عنه تضامنه التاريخى مع القضية الفلسطينية.
ونستكمل بقية الاشتباك مع عدد آخر من المفكرين والمثقفين والأدباء، حول الحرية والاستقلال فى زمن الاحتلال.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين ..آمين.