رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل يتحول الميليشياوى إلى رجل دولة؟

تخلى زعيم المعارضين السوريين، أبومحمد الجولانى، عن الاسم الحربى المرتبط بماضيه الجهادى، واستخدم اسمه الحقيقى، أحمد الشرع، فى البيانات الرسمية الصادرة منذ يوم الخميس، قبل سقوط حكم بشار الأسد.. هذه الخطوة هى جزء من جهود الجولانى لتعزيز شرعيته فى سياق جديد، حيث أعلنت هيئة تحرير الشام، جماعته الإسلاموية المسلحة، التى تقود فصائل المعارضة الأخرى، عن الاستيلاء على العاصمة السورية دمشق، وتعزيز سيطرتها على جزء كبير من البلاد.. كما أن تحول الجولانى ليس أمرًا حديثًا، ولكنه تطور بعناية على مر السنين، وهو واضح، لا فى تصريحاته العامة ومقابلاته الدولية فقط، ولكن أيضًا فى مظهره المتغير.
تخلى الجولانى تدريجيًا عن ملابس المقاتلين الجهاديين التقليدية، وخلع العمامة التى كانت تميزه خلال بدايات الحرب، ليرتدى بدلًا منها زيًا عسكريًا وأحيانا زيًا مدنيًا، وحدَّث خزانة ملابسه لتصبح «أكثر غربية» فى الفترة الماضية.. والآن، بينما يقود الهجوم، ارتدى ملابس عسكرية ترمز إلى دوره كقائد لغرفة العمليات، متشبهًا بالرئيس الأوكرانى، فولوديمير زيلينسكى، بعد أن قص شعره وخفَّف من كثافة لحيته، وهى أمور تشى بأن هناك مَن يقف وراء الرجل، ويُهيمن على صناعة صورته الجديدة، منذ فترة، استعدادًا لما هو قادم فى سوريا.. فمَن هو الجولانى، أو أحمد الشرع؟.. ولماذا وكيف تغيَّر؟.
كشفت مقابلة مع الجولانى على قناة PBS، عام 2021، أنه ولد عام 1982 فى المملكة العربية السعودية، حيث عمل والده مهندسًا للنفط حتى عام 1989.. وفى ذلك العام، عادت عائلة الجولانى إلى سوريا، حيث نشأ وعاش فى حى المزَّة بدمشق.. وبدأت رحلة الجولانى كجهادى فى العراق، مرتبطًا بتنظيم القاعدة هناك، سلف تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، الذى انضم إليه فى وقت لاحق.. وبعد الغزو الذى قادته الولايات المتحدة عام 2003، انضم إلى مقاتلين أجانب آخرين فى العراق.. وفى عام 2005، سُجن فى معسكر بوكا، حيث عزز انتماءاته الجهادية، ثم تعرف لاحقًا على أبوبكر البغدادى، الرجل الهادئ الذى سيقود تنظيم الدولة لاحقًا.. وفى عام 2011، أرسل البغدادى الجولانى إلى سوريا لإنشاء جبهة النصرة، وهى فصيل سرى مرتبط بتنظيم الدولة.. وبحلول عام 2012، أصبحت جبهة النصرة قوة قتالية سورية بارزة، تخفى علاقاتها بتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة.
نشأت التوترات عام 2013، عندما أعلنت جماعة البغدادى فى العراق من جانب واحد، عن اندماج المجموعتين «دولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة»، معلنة إنشاء الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، وكشفت علنًا- لأول مرة- عن الروابط بينهما.. قاوم الجولانى القرار، لأنه أراد أن ينأى بمجموعته عن تكتيكات دولة العراق الإسلامية، مما أدى إلى الانقسام.. وللخروج من هذا الموقف الشائك، تعهد الجولانى بالولاء لتنظيم القاعدة، وجعل جبهة النصرة فرعها السورى.. ومنذ البداية، أعطى الأولوية لكسب الدعم السورى، ونأى بنفسه عن داعش وأكد على نهج أكثر براجماتية للجهاد.. وفى أبريل 2013، أصبحت جبهة النصرة فرعًا سوريًا لتنظيم القاعدة، مما جعلها على خلاف مع تنظيم الدولة الإسلامية.. وفى حين كانت خطوة الجولانى محاولة جزئية للحفاظ على الدعم المحلى وتجنب تنفير السوريين والفصائل المعارضة، فإن الانتماء إلى تنظيم القاعدة لم يفعل فى نهاية المطاف الكثير لصالح هذا الجهد.. وقد أصبح تحديًا مُلحًا فى عام 2015، عندما استولت جبهة النصرة وفصائل أخرى على محافظة إدلب، مما أجبرها على التعاون فى إدارتها.. وفى عام 2016، قطع الجولانى علاقاته بتنظيم القاعدة، وأعاد تسمية الجماعة باسم جبهة فتح الشام، ثم هيئة تحرير الشام عام 2017.
وبينما بدا الانقسام سطحيًا فى البداية، كشف عن انقسامات أعمق.. واتهم تنظيم القاعدة الجولانى بالخيانة، مما أدى إلى الانشقاقات وتشكيل «حُراس الدين»، وهو فرع جديد لتنظيم القاعدة فى سوريا، والذى سحقته هيئة تحرير الشام لاحقًا عام 2020.. ومع ذلك، ظل أعضاء «حُراس الدين» حاضرين بحذر فى المنطقة.. كما استهدفت هيئة تحرير الشام عملاء تنظيم الدولة والمقاتلين الأجانب فى إدلب، وفككت شبكاتهم وأجبرت بعضهم على الخضوع لبرامج «إزالة التطرف».. وأشارت هذه التحركات، التى تم تبريرها على أنها جهود لتوحيد القوى المسلحة والحد من الاقتتال الداخلى، إلى استراتيجية الجولانى لوضع هيئة تحرير الشام، كقوة مهيمنة وقابلة للاستمرار سياسيًا فى سوريا.. ورغم الانفصال العلنى عن تنظيم القاعدة وتغيير الاسم، استمرت الأمم المتحدة والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى، فى تصنيف هيئة تحرير الشام كـ«منظمة إرهابية»، وحافظت الولايات المتحدة على مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يدلى بمعلومات عن مكان تواجد الجولانى.. واعتبرت القوى الغربية الانفصال مجرد واجهة.
تحت قيادة الجولانى، أصبحت هيئة تحرير الشام القوة المهيمنة فى إدلب، أكبر معقل للمعارضين فى شمال غرب سوريا، وموطنًا لحوالى أربعة ملايين شخص، كثير منهم نزحوا من محافظات سورية أخرى.. ولمعالجة المخاوف بشأن وجود جماعة مسلحة تحكم المنطقة، أنشأت هيئة تحرير الشام جبهة مدنية، تسمى «حكومة الإنقاذ السورية» عام 2017، كذراع سياسية وإدارية لها.. وعملت حكومة الإنقاذ السورية كدولة، مع رئيس وزراء ووزارات وإدارات محلية، تشرف على قطاعات، مثل التعليم والصحة وإعادة الإعمار، مع الحفاظ على مجلس دينى يسترشد بالشريعة الإسلامية.
ولإعادة تشكيل صورته، انخرط الجولانى فى أنشطة تقربه من الجمهور، وزار مخيمات النازحين، وحضر الفعاليات، وأشرف على جهود الإغاثة، وخصوصًا خلال الأزمات، مثل زلازل عام 2023.. وسلّطت هيئة تحرير الشام الضوء على الإنجازات فى الحكم والبنية التحتية، لإضفاء الشرعية على حكمها، وإظهار قدرتها على توفير الاستقرار والخدمات.. وعكست جهود الجولانى فى إدلب، استراتيجيته الأوسع لإظهار قدرة هيئة تحرير الشام، ليس فقط على الجهاد ولكن أيضًا على الحكم بشكل فعال.. ومن خلال إعطاء الأولوية للاستقرار والخدمات العامة وإعادة الإعمار، كان يهدف إلى عرض إدلب، كنموذج للنجاح تحت حكم هيئة تحرير الشام، وتعزيز شرعية مجموعته وتطلعاته السياسية الخاصة.. ولكن تحت قيادته، همَّشت هيئة تحرير الشام الفصائل المسلحة الأخرى، سواء الجهادية أو المعارضة، فى جهودها لتعزيز قوتها والهيمنة على المشهد.
وعلى مدى أكثر من عام، قبل الهجوم الذى شنته الفصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام فى السابع والعشرين من نوفمبر الجارى، واجه الجولانى احتجاجات فى إدلب من الإسلامويين المتشددين، فضلًا عن الناشطين السوريين... وربط المنتقدون حكمه بحكم الأسد، واتهموا هيئة تحرير الشام بالاستبداد وقمع المعارضة وإسكات المنتقدين.. ووصف المتظاهرون قوات الأمن التابعة لهيئة تحرير الشام بـ«الشبيحة»، وهو مصطلح يستخدم لوصف أتباع الأسد الموالين.. كما قالوا إن هيئة تحرير الشام تجنبت عمدًا القتال الهادف ضد القوات الحكومية، وتهميش الجهاديين والمقاتلين الأجانب فى إدلب، لمنعهم من الانخراط فى مثل هذه الأعمال، وكل ذلك لإرضاء الجهات الدولية.. وحتى خلال الهجوم الأخير، حث الناشطون هيئة تحرير الشام باستمرار على إطلاق سراح المسجونين فى إدلب بزعم معارضة الهيئة.. وردًا على هذه الانتقادات، بادرت هيئة تحرير الشام إلى إجراء العديد من الإصلاحات على مدار العام الماضى.. قامت بحل أو إعادة تسمية قوة أمنية مُثيرة للجدل كانت متهمة بانتهاكات حقوق الإنسان، وأسسَت «إدارة الشكاوى»، لتمكين المواطنين من تقديم شكاوى ضد الجماعة، فى حين قال منتقدوها إن هذه التدابير كانت مجرد استعراض لاحتواء المعارضة.
ولتبرير ترسيخها للسلطة فى إدلب وقمع التعددية بين الجماعات المسلحة، اعتبرت هيئة تحرير الشام أن التوحد تحت قيادة واحدة أمر بالغ الأهمية، لإحراز التقدم والإطاحة بالحكومة السورية فى نهاية المطاف.. وسارت هيئة تحرير الشام وذراعها المدنية، حكومة الإنقاذ، على حبل مشدود، سعيًا إلى إبراز صورة حديثة ومعتدلة، لكسب تأييد السكان المحليين والمجتمع الدولى، مع الحفاظ فى الوقت نفسه على هويتهما الإسلامية، لإرضاء المتشددين داخل المناطق التى يسيطر عليها المعارضون، وصفوف هيئة تحرير الشام نفسها.. على سبيل المثال، فى ديسمبر 2023، واجهت هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ رد فعل عنيفًا، بعد أن انتقد المتشددون «مهرجانًا» أُقيم فى مركز تسوق جديد باعتباره «غير أخلاقى».. وفى أغسطس من هذا العام، أثار حفل مستوحى من الألعاب البارالمبية، انتقادات حادة من المتشددين، مما دفع حكومة الإنقاذ إلى مراجعة تنظيم مثل هذه الأحداث.. هذه الحوادث توضح التحديات التى تواجهها هيئة تحرير الشام، فى التوفيق بين توقعات قاعدتها الإسلامية، والمطالب الأوسع للشعب السورى، الذى يسعى إلى الحرية والتعايش بعد سنوات من الحكم الاستبدادى فى عهد الأسد.
●●●
مع تطور الهجوم الأخير، ركزت وسائل الإعلام العالمية على ماضى الجولانى الجهادى، مما دفع بعض أنصار المعارضة إلى دعوته إلى التراجع، واعتباره عبئًا.. ورغم أنه أعرب سابقًا عن استعداده لحل مجموعته والتنحى جانبًا، فإن أفعاله الأخيرة وظهوره العام، يحكيان قصة مختلفة.. لقد عزز نجاح هيئة تحرير الشام فى توحيد المعارضة، والاستيلاء تقريبًا على البلاد بأكملها فى أقل من أسبوعين، موقف الجولانى، مما أدى إلى إسكات المنتقدين المتشددين واتهامات الانتهازية.. ومنذ ذلك الحين، طمأن الجولانى وحكومة الإنقاذ الجماهير المحلية والدولية.. ووعدوا السوريين، بما فى ذلك الأقليات، بالأمن، وتعهدوا للدول المجاورة والقوى مثل روسيا بعلاقات سلمية، بل إن الجولانى أكد لروسيا أن قواعدها السورية ستظل سالمة إذا توقفت الهجمات.. ويعكس هذا التحول استراتيجية «الجهاد المعتدل»، التى تنتهجها هيئة تحرير الشام منذ عام 2017، والتى تؤكد على البراجماتية بدلًا من الأيديولوجية الجامدة.. وقد يشير نهج الجولانى إلى تراجع حركات الجهاد العالمية، مثل تنظيم الدولة والقاعدة، التى يُنظر إلى جمودها بشكل متزايد على أنه غير فعال وغير مُستدام.. وقد يُلهم مساره مجموعات أخرى للتكيف، مما يشير، إما إلى عصر جديد من «الجهادية» المحلية المرنة سياسيًا، أو مجرد انحراف مؤقت عن المسار التقليدى، من أجل تحقيق مكاسب سياسية وإقليمية.. لقد نظر البعض سابقًا إلى طالبان، عند عودتها إلى السلطة عام 2021، وأشادوا بها، باعتبارها مصدر إلهام، ونموذجًا لموازنة الجهود الجهادية بشكل فعال مع التطلعات السياسية، بما فى ذلك تقديم تنازلات تكتيكية لتحقيق أهدافها، لكن طالبان عادت إلى سيرتها الأولى، بمجرد الانسحاب الأمريكى من أفغانستان!.
●●●
الذى لا جدال فيه، أن سوريا تعيش اليوم منعطفًا سياسيًا غير مسبوق، مع إسقاط نظام الرئيس السابق، بشار الأسد، بعد فترة حكم استمرت حوالى الربع قرن.. ولا يمكن لأحد، أمام مشهد سوريا بالغ التعقيد، أن يُنكر أو يتجاهل فرحة معظم الشعب السورى.. فبقاء الأسد فى السلطة بعد حراك عام 2011، كلف هذا الشعب بكل أطيافه، الكثير من الأثمان الباهضة إنسانيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.. وفى نظرة مراقبة للمشهد المحفوف بالمخاطر، ترى السوريين مُصرين على «فرحة اللحظة»، وتقرأ على وسائل التواصل الاجتماعى منشورات، مفادها بأن السورى يستحق التغيير، وبأن الفرح حق مشروع لشعب تكبد على مدى سنوات خسائر لا يمكن إحصاؤها.. وفى خضم هذه الحالة نفسها، يمكن رصد المخاوف السورية على مستقبل البلاد، لاسيما أن أمثلة راسخة من دول عدة فى المنطقة، تثير القلق والشك، من إمكانية الانتقال إلى مرحلة مختلفة سياسيًا، قد لا تكون «براقة» كما يحلم الكثر.. فما هو مصدر القلق فى سوريا؟.
من أبوبكر البغدادى فى الموصل إلى أبومحمد الجولانى فى المسجد الأموى فى دمشق، لم يختلف المشهد إطلاقًا.. الرجلان اختارا منابر المساجد كوجهة لإلقاء الخطاب الأول، أو خطاب النصر، متوسطين جماهير أتت مبايعةً الزعيم المُستجَد.. من مسجد الموصل فى العراق، ألقى البغدادى خطابه الأول بعد سقوط المدينة فى قبضة داعش، ومن المسجد الأموى فى دمشق أعلن الجولانى سقوط العاصمة فى يد هيئة تحرير الشام.. أما فى الجوهر، فزعيم داعش السابق، أى البغدادى، كما زعيم هيئة تحرير الشام، الجولانى، ولدا من رحم تنظيم القاعدة.. قد يكون الزعيمان قد اختلفا بالعبارات المختارة فى خطاباتهما، إلا أنهما تطابقا فى المضمون إلى حد كبير، وعكسا الخطاب المعتاد لأى تنظيم متطرف.. البغدادى، كان قد أعلن قبل عشر سنوات دولة الخلافة، أما الجولانى فيعلن حاليًا، أن ما يتم تحقيقه ليس نصرًا لسوريا وحسب، بل للأمة الإسلامية بأسرها، مُسقطًا بذلك الحدود الجغرافية- وتلك صيغة «الأممية»، التى تنادت بها جماعة الإخوان المسلمين، أساس كل هذه التنظيمات- واعتبر أن سقوط نظام الأسد كان بسبب من وصفهم بالمجاهدين.
ومن الأدلة على ذلك الكثير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ظهر أحد قادة الفصائل المسلحة المنضوية تحت إطار هيئة تحرير الشام من ساحة المسجد الأموى فى دمشق، مؤكدًا أن الأمر لن يقف عند دمشق، بل يَعِد بالوصول إلى القدس وغزة والمسجد الأقصى والمسجد النبوى والكعبة.. عبارات تُعيدنا وتُذكرنا إلى حد كبير بالخطاب الجهادى، الذى يُعلى عقيدة التنظيم على فكرة الوطن.. وصورة غياب اليقين المُهيمنة على هوية الدولة، فى ظل وجود تنظيمات متطرفة فى صفوف المعارضة السورية المسلحة، تطرح علامات استفهام عديدة.. علامات استفهام تستتبع المزيد من القلق على مصير المنطقة برمّتها، فى حال فتح سقوط النظام السورى، الأبواب واسعة لعودة صعود الإسلام السياسى.. وتجارب الإسلام السياسى التى لم تُبشر خيرًا فى كل من إيران ومصر، طالت جوانب دقيقة من مفاصل الدولتين، وأخرت تقديم نموذج الحكم المدنى الناجح.
فى إيران، بدأ الخمينى خطابه بشعارات الحرية والعدالة، قبل أن يؤسس نظامًا دينيًا متشددًا، يود الإيرانيون الآن لو سقط هذا النظام اليوم قبل الغد.. وفى مصر، ظهر الإخوان بخطاب سياسى مرن خلال الثورة، زعموا فيه أنهم لا يريدون الحكم، ولكن سرعان ما تحولوا إلى توجهات أيديولوجية مُتشددة تهدف إلى أخونة الدولة.. واليوم، تحاول التنظيمات المتطرفة تقديم نفسها نموذجًا مقبولًا، للإمساك بزمام الأمور السورية.. لكن الدروس المستفادة تحول دون إيمان المنطقة بطرحها، فالجرح السورى النازف منذ أربعة عشر عامًا لا يحتمل أى مجازفة غير محسوبة.. وحرية السوريين لا يجب أن تكون ممرًا لعودة التطرف.. واليوم، يتبنى الجولانى لغة يحاول فيها أن يتبنى نهجًا أكثر اعتدالًا ومرونة، لكن يبقى السؤال: هل سيظل هذا التحول مستمرًا؟.. أم أنه مجرد تكتيك مؤقت سينقلب مع مرور الوقت إلى تشدد أكبر، كما حصل فى تاريخ الحركات الإسلاموية والسلطة من طهران إلى مصر مرورًا بغزة؟.
●●●
نكرر ثانية، أن سوريا اليوم تقف عند مفترق حاسم فى تاريخها، إذ تواجه مرحلة مصيرية، تتراوح بين احتمالات قيام دولة قادرة على النهوض وفق مشروع وطنى شامل، أو الانزلاق نحو مزيد من الفوضى والصراع الداخلى.. هذه المرحلة تتطلب من جميع الأطراف المعنية اتخاذ قرارات حاسمة، خصوصًا فى ما يتعلق بمؤسسات الدولة، وأبرزها الجيش السورى، الذى يبقى أحد أبرز العوامل المؤثرة فى مستقبل البلاد.. فالجيش السورى، كركيزة أساسية لاستقرار البلاد، هو عامل رئيسى لاستقرار سوريا، ومن الضرورى الحفاظ عليه، وإعادة هيكلته بطريقة تسهم فى خدمة البلاد، على عكس ما سمعت عن النية فى تفكيك الجيش الوطنى السورى، باعتباره من إرث حقبة الأسد.. بل إن الأولى، أن تقوم سوريا الجديدة على مفهوم السيادة الوطنية والاستقلال، مع التخلص من الأذرع المسلحة غير الجيش الوطنى، والحفاظ على مؤسسات الدولة، ومؤسسة الجيش، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من السيادة الوطنية.
أحد أكبر التحديات التى تواجه سوريا فى المرحلة المقبلة، هو التعددية الدينية والثقافية فى المجتمع السورى، والتى تفرض ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية، فتنوع أفراد المعارضة، الذين ينتمون إلى خلفيات دينية وثقافية متباينة، يتطلب بذل جهود إضافية لتعزيز «الوحدة والتفاهم» بين جميع مكونات المجتمع السورى، وبالتالى، أصبحت مسألة تعريف الهوية الوطنية فى سوريا، ذات أهمية كبيرة، هذا التعريف لا بد أن يكون قائمًا على «مبدأ المواطنة وحقوق متساوية لجميع المواطنين»، لضمان تجنب الأزمات والصراعات الطائفية والعرقية.. وفى سياق هذه التطورات، تبرز بشكل واضح اقتراحات بضرورة تشكيل «حكومة وحدة وطنية» تضم جميع الأطراف السورية، كما أن التنسيق مع الحكومة الحالية، سيكون خطوة هامة على طريق الانتقال إلى «حكومة جديدة متفق عليها»، ولحل يحتاج إلى «مشاركة الجميع فى الحلول»، بما يضمن توزيع السلطة والموارد بين جميع المواطنين، من دون تكرار سياسات النظام السابق التى كانت تهمش الهويات المختلفة.
وهنا، أمام السوريين خياران أساسيان: إما الدخول فى فوضى نتيجة التنوع الطائفى داخل الجيش، أو بناء مؤسسات أمنية وعسكرية موحدة.. وعلى الجميع أن يعمل على تأسيس «مؤسسة عسكرية للمرحلة المقبلة»، بدلًا من إفساح المجال للفوضى. كذلك، فإن التوافق حول إنشاء حكومة وحدة وطنية، يشمل ضرورة الاتفاق على هوية الدولة من خلال «دستور مؤقت يحددها كدولة مدنية».. وبما أن سوريا أمام مفترق حساس فى المرحلة المقبلة، فإن ذلك يتطلب، الحفاظ على الاستقرار الوطنى بإرساء قاعدة صلبة من الوحدة الوطنية والسيادة.. وتحديد دور الجيش السورى وإعادة هيكلته.. وضمان حقوق جميع المكونات السورية، وهذا يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، سواء من خلال الحفاظ على مؤسسات الدولة، أو من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة.. فإن هذه المرحلة تتطلب قيادات حكيمة قادرة على تجنب الفوضى، وبناء سوريا جديدة، قائمة على أسس من المواطنة والمساواة.. فهل تجد سوريا مبتغاها؟.. الأيام المقبلة ستُجيب عن هذا السؤال.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.