رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا تريد إسرائيل من سوريا؟

المُطالع لإصدارات تنظيم داعش فى الماضى، وخصوصًا النشرة التى كانوا يُصدرونها تحت عنوان «النبأ»، يمكنه الاطلاع على أولويات قادته وأعضائه، التى تؤكد أن القضية الفلسطينية، ليست القضية الأولى للمسلمين، بالتالى فإن محاربة إسرائيل وتحرير الأقصى ليست واجبة، بل إن الأهم عندهم، محاربة الشرك وتخليص الدين مما علِق به!!.. هذا إذا جنبنا الدوافع السياسية التى تحكُم مسيرتهم، وتهدف إلى الحكم، وإعلان الإمارة الإسلامية، على طريقتهم.. لذلك، لم أتفاجأ، من إعلان زعيم القوات التى أطاحت بالرئيس السورى، بشار الأسد، أبومحمد الجولانى، إن الحكومات الأجنبية يجب ألا تشعر بالقلق بشأن ما سيحدث فى البلاد، قائلًا إن سوريا «ليست مستعدة» لحرب أخرى، فهذه مخاوف لا داعى لها، كان الخوف من وجود النظام، لكن النظام ذهب الآن، والبلاد تتجه نحو التنمية وإعادة الإعمار، وتتجه نحو الاستقرار.. إن الناس منهكون من الحرب.. بالتالى، فإن البلاد غير مستعدة لحرب أخرى ولن تدخل فى حرب.. مصدر مخاوفنا كان من الميليشيات الإيرانية وحزب الله والنظام الذى ارتكب المجازر.. وإن كان قال الجولانى غير ذلك، لسخر منه القوم، على طريقة الشاعر العربى القديم، الذى قال «زعم الفرزدق أن سيقتل مِرْبَعًا.. أبشر بطول سلامة يا مِرْبَعُ»!.
فبأى شىء يُهدد، وقد جعلت إسرائيل الأراضى السورية بلقعًا من كل أسلحتها العسكرية، التى دمرتها عن بكرة أبيها، حتى أنها لم تترك لها قارب صيد صغير فى موانئها!!، وسط صمت مُذهل من كل الذين فى سوريا الآن، وكأنهم، يُقدمون أوراق اعتمادهم لواشنطن، التى وعدت، على لسان وزير خارجيتها، أنتونى بلينكن، إن الولايات المتحدة «ستعترف وتدعم بشكل كامل» الحكومة السورية الجديدة التى يختارها الشعب السورى، إذا التزمت بأربعة مبادئ أساسية: احترام حقوق الأقليات بشكل كامل، وخصوصًا «الأكراد الموالين لواشنطن».. تسهيل تدفق المساعدات الإنسانية لجميع المحتاجين.. منع استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب أو أن تشكل تهديدًا لجيرانها.. التأكد من تأمين أى مخزونات للأسلحة الكيميائية أو البيولوجية وتدميرها بشكل آمن.. وقد أبدى الجولانى لواشنطن موافقته على ذلك.
لم تكد تمر ساعات قليلة على هروب الرئيس السورى المخلوع، بشار الأسد، من دمشق فجر الأحد الماضى، حتى سارع الجيش الإسرائيلى إلى استغلال الفراغ الأمنى، الناتج عن عملية الانتقال المفاجئ للسلطة فى سوريا، وانسحاب قوات الأسد من مواقعها الحدودية، ليبادر باجتياح الحدود السورية فى المنطقة العازلة، التى سبق أن أنشئت وفقًا لاتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل الموقعة فى الحادى والثلاثين من مايو 1974.. وإن كانت هذه ليست المرة الأولى التى تخترق فيها إسرائيل الحدود المرسومة، فى اتفاقية فك الاشتباك المسماة بخط «يندوف»، إلا أن هذه المرة تختلف كثيرًا عن كل المرات السابقة، ليس فقط فى تزامنها مع رحيل عائلة الأسد عن حكم سوريا، ولكن أيضًا فى حجم واتساع التوغلات البرية والضربات الجوية الإسرائيلية وحتى الهجمات البحرية.. ففى الجو، شن سلاح الجو الإسرائيلى هجمات بأكثر من ثلاثمائة وخمسين طائرة داخل الأراضى السورية، ضربت قواعد عسكرية وطائرات مقاتلة، وأنظمة صواريخ ومنظومات دفاع جوى، ومواقع إنتاج ومستودعات أسلحة، ومخازن أسلحة كيميائية، ضمن عملية وصفت بأنها الأكبر فى تاريخ سلاح الجو الإسرائيلى، وأسفرت عن شبه تدمير  لكامل القدرات العسكرية السورية.. وحتى الأسطول البحرى الروسى، لم يسلم من الهجمات بواسطة الصواريخ التابعة للبحرية الإسرائيلية.
وعلى الأرض، توغلت إسرائيل فى منطقة حضر باتجاه جبل الشيخ، لتسيطر على منطقة مرتفعة يصل ارتفاعها إلى أكثر من ألفى متر فوق سطح البحر، وتعد أعلى قمة على الساحل الشرقى للبحر المتوسط، وتشرف على الداخل السورى، وصولًا إلى دمشق وكذلك على لبنان، ما يمنح إسرائيل ميزة عملياتية بالغة الأهمية.. كما توغلت القوات فى محافظة القنيطرة باتجاه مدينة البعث.. ما يدفعنا إلى التساؤل: ماذا وراء توسع الهجمات الإسرائيلية على الجبهة السورية فى الوقت الراهن؟.. وما الذى ترغب فى تحقيقه؟.. وهل التدخلات البرية الراهنة فى سوريا مؤقتة كما تدعى إسرائيل؟، وقد باتت قواتها على مشارف العاصمة دمشق؟.. أم إنها مقدمة لتغيير الحدود وخلق وقائع جديدة على الأرض؟.
الحقيقة، أن سوريا لم تغب يومًا عن أذهان القادة الإسرائيليين منذ تأسيس دولتهم، حيث كانت مساحات واسعة من أراضيها جزءًا من الحلم الصهيونى الأكبر.. وبينما احتفل نتنياهو بسقوط نظام بشار الأسد، الذى اعتبره انكسارًا لما يسمى «محور المقاومة» الذى تقوده إيران، يبدو أن جيش الاحتلال الإسرائيلى لم يغب عنه تقدير المخاوف المحتملة من تغيير النظام، الذى حافظ طوال خمسين عامًا على معادلة مفادها، أن «لا سلم ولا حرب مع إسرائيل».. فمع أن سوريا لم توقع اتفاقية للسلام أو لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، إلا أن معادلة الأمر الواقع، كانت التهدئة المُطلقة للصراع على مرتفعات الجولان، مما جعل الجبهة السورية طوال هذه العقود أكثر الجبهات الإسرائيلية هدوءًا واستقرارًا.. ويذهب بعض المحللين إلى القول، إن نظام الأسد، خصوصًا فى عهد بشار الابن، لم يضع المواجهة مع إسرائيل على قائمة أولوياته، لكنه استخدمها ذريعة لتبرير إخفاقاته، ونهج القمع الذى اتبعه النظام لعقود، بالإضافة لمحاولة كسب ود المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، والأهم الحفاظ على دعم إيران، المهتمة بالحفاظ على خطوط إمداد مفتوحة نحو لبنان، مرورًا بالأراضى السورية.
●●●
فى أعقاب اندلاع ما يُعرف بالربيع العربى، استفاد الأسد من معضلة طهران الجيوسياسية، فتورطت معه فى حرب على شعبه استمرت أربعة عشر عامًا، أنفقت فيها طهران نحو خمسين مليار دولار، حسب ما تشير العديد من المصادر، ومنها مركز كارنيجى لدراسات الشرق الأوسط، وذلك سعيًا لتثبيت دعائم حكم الأسد، كركيزة ضمن ما تسميه طهران بـ «محور المقاومة».. فى المقابل، كانت الاستراتيجية الإسرائيلية بشأن ما يحدث فى سوريا مُركبة، وغامضة أحيانًا، حيث شعرت الدولة الصهيونية بالقلق جراء انتشار القوات الإيرانية وعناصر الحرس الثورى وحزب الله فى الجغرافيا السورية، لكنها فى الوقت نفسه لم يبدُ أنها كانت حريصة على انهيار نظام الأسد.. لذا شنت إسرائيل منذ عام 2013 سلسلة من الضربات الجوية داخل سوريا، بدت من خلالها وكأنها تحاول إضعاف الحضور الإيرانى فى سوريا، وليس المشاركة فى إضعاف النظام ذاته.. استهدفت إسرائيل خلال هذه الضربات، خطوط إمداد إيرانية ومواقع بحوث علمية متفرقة، زعمت أنها تُستغل لصالح تطوير البنية الصاروخية لحزب الله، أبرزها مركز البحوث العلمية فى مِصياف بريف حماة وسط سوريا.. وفى أبريل 2022، أفصح الجيش الإسرائيلى عن تنفيذه أربعمائة غارة جوية على سوريا منذ عام 2017.
تزامنًا مع ذلك، ومنذ عام 2018، طورت كل من إسرائيل وروسيا آلية مشتركة، بغية التنسيق لمنع حدوث أى عمليات تضارب بينهما داخل سوريا.. وبعد ذلك، اتفق الطرفان على إبعاد المليشيات الإيرانية عن حدود الجولان لمسافة ثمانين كيلو مترًا.. وبموجب الاتفاق، ثبَّتت موسكو عدة نقاط عسكرية على طول الخط الفاصل بين سوريا وإسرائيل من جهة الجولان، وكثفت إسرائيل بالتوازى عملياتها ضد أى وجود إيرانى فى تلك المنطقة بالتنسيق مع روسيا، لكن وتيرة عملياتها انخفضت منذ عام 2022، بعد اندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية، والخلاف الروسى الإسرائيلى بشأنها.
فى المجمل، لم يُمانع الأسد من الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة للأجواء والأراضى السورية، بغية استهداف إيران وحزب الله، بل لعله- وفق عدد من التحليلات- وجد فيها فرصة لإضعاف قبضة إيران على نظامه، فى الوقت الذى بدأ فيه يتطلع لاستعادة الاعتراف الإقليمى، وربما الدولى، بنظامه،.. وهذا الأمر كان يتطلب رسم مسار يتعارض مع مصالح طهران وسياساتها الإقليمية.. ظهرت هذه المسارات المتعارضة فى صورتها الأوضح، مع اندلاع «طوفان الأقصى» والارتدادات الإقليمية المصاحبة له، وفى مقدمتها حشد «محور المقاومة» جهوده لمواجهة إسرائيل، حيث التزم نظام الأسد حيادًا نسبيًا- على خلاف رغبة إيران- وآثر البقاء خارج الصراع.. أحد الأسباب وراء ذلك، أن إسرائيل مرَّرت رسائل إلى حكومة الأسد، حذرته من تدمير نظامه، إذا قرر فتح جبهة جديدة للحرب فى سوريا، بل إن تقريرًا أشار إلى أن مقر إقامة ماهر، شقيق الأسد، تعرض لقصف إسرائيلى، رغم عدم صدور تأكيد بشأن ذلك من أى من الطرفين.
كان لدى الأسد أسباب أخرى للبقاء خارج الصراع، حيث كان الرئيس الذى اهتز عرشه بفعل أربعة عشر عامًا من الحرب على شعبه، يرغب فى أن يُكافأ من الغرب على ضبط النفس الذى سيُظهره، من خلال تخفيف العقوبات، وخصوصًا مع تنامى الرغبة فى ترحيل اللاجئين السوريين من أوروبا.. وقد سعت ثمانى دول أوروبية بقيادة إيطاليا، إلى إقامة نوع من التعاون مع دمشق لضمان عودة السوريين، حتى إن المفوضية الأوروبية كانت تدرس، ما إذا كان ينبغى لها أن تُرشح مبعوثًا خاصًا جديدا إلى سوريا.. فى غضون ذلك، أشار موقع «AXIOS» إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة، التى قادت جهود إعادة تأهيل النظام السورى عربيًا وإقليميًا، حذَّرت الأسد من التورط فى الحرب.
خلف ذلك كله، لا يمكن تجاهل المزاج الشخصى لبشار الأسد، الذى لم ينس بعد لحركة المقاومة الإسلامية، حماس، موقفها بالانحياز إلى الثورة السورية، الذى أدى إلى قطيعة بين الطرفين، انتهت فى صيغتها الرسمية عام 2022، لكنها علاقات ظلت باردة ومجمدة، ولم تأخذ صيغة دبلوماسية جدية من ذلك الحين.. هذه العوامل مجتمعة، رسخت حالة «اللا سلم واللا حرب» التى أثبتت، أنها تخدم مصالح الطرفين، كما أسست لتوافق ضمنى بين بشار الأسد وإسرائيل، على قاعدة «التراشق اللفظى.. والتوافق الضمنى»، حيث تغاضى الطرفان عن أى تصعيد خطابي، مقابل عدم المساس بالخطوط الحمراء على الأرض.. لكن، يُعتقد أن نظام الأسد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فلم يغُض الطرف فقط على الضربات الإسرائيلية لإيران فى سوريا، بل ربما سهَّل حدوثها.. تعمقت شكوك إيران حيال ذلك، فى أعقاب الضربات الإسرائيلية الدقيقة لمسئولى الحرس الثورى فى سوريا، والتى يعتقد بعض المسئولين الإيرانيين، أن الأسد هو من سرَّب المعلومات حول تحركاتهم.. أكثر من ذلك، ما أشار إليه معهد كارنيجى من أن الأسد رفض طلبًا من مسئولى الحرس الثورى، لفتح جبهة جديدة ضد إسرائيل فى الجولان.. والأكثر استفزازًا، أن دمشق بدأت فى الحد من الأنشطة الدينية الشيعية فى مختلف أنحاء سوريا، ما شكَّل تحديًا مباشرًا لجهود إيران، الرامية إلى توسيع نفوذها الأيديولوجى والثقافى فى المنط  لإطلاق يد إسرائيل لقصف أصول طهران واغتيال جنرالاتها، حتى إن إسرائيل طمعت فيما هو أبعد من ذلك.. وقبيل اندلاع عمليات المعارضة السورية تحت اسم ردع العدوان، عقد وزير الخارجية الإسرائيلى، جدعون ساعر مؤتمرًا صحفيًا، قال فيه، إن موسكو يجب أن تعلب دورًا فى وقف إمداد حزب الله بالأسلحة عبر سوريا، وممارسة الضغط على بشار الأسد، لاتخاذ خطوات جادة فى هذا المسار.. ولم يتأخر الرد الروسى على ما قاله ساعر، حيث أعلن مبعوث الرئيس الروسى إلى سوريا، ألكسندر لافرنتيف، أن منع وصول السلاح لحزب الله من سوريا «ليس جزءًا من التفويض الروسى العسكرى فى البلاد».
إذًا.. ماذا تريد إسرائيل؟.
●●●
فى ضوء ما سبق، من غير المرجح أن إسرائيل كانت ترغب فى إسقاط نظام الأسد فى الوقت الراهن، رغم العداء المُعلن بين الطرفين.. فالمعادلة القائمة فى ظل حكم الأسد، حافظت لإسرائيل على هدوء نادر على جبهة الجولان، فى الوقت الذى اشتعل فيه اللهيب حول حدود إسرائيل من كل مكان، كما لم تغُل يدها بفعل ما تشاء فى سماء سوريا وأرضها.. ناهيك عن أن سقوط الأسد سوف يؤدى إلى «سيولة» أو فوضى غير محسوبة.. وهذه الفوضى، من غير المرجح أن تصب فى مصلحة إسرائيل.. فإسرائيل تحب القدرة على التنبؤ وتكره المفاجآت، والأسد يوفر لها ذلك أكثر من غيره.. ورغم أن الرئيس المخلوع ليس صديقًا لإسرائيل، فإنها فى أدنى الأحوال، تعرف ماذا تتوقع منه، وما يمكنه ولا يمكنه فعله، وهو ما لا ينطبق على أى حاكم آخر للبلاد، خصوصًا إذا كانت المؤشرات تشى بأن المعارضة يغلب عليها الطابع الإسلامى.. ولا نبالغ، إذا قلنا إن إسرائيل شعرت بقلق حقيقى تجاه التطورات فى سوريا، والسلطة الجديدة قيد التشكُّل، التى لا يُعرف بعد، ما إذا كانت ستلتزم بالحفاظ على الأمر الواقع فى الجولان، أم قد تفكر -خلال وقت لاحق- فى تدشين جبهة مقاومة لاستعادة المنطقة المحتلة منذ عام 1967.
لذلك، قررت إسرائيل التحرك سريعًا جوًا وبرًا.. جوًا، من خلال استهداف مخزونات الأسلحة الاستراتيجية للجيش السوري، خصوصًا فى الجنوب، مرورًا بالعاصمة دمشق، وصولًا إلى طرطوس، مخافة وقوعها فى أيدى سلطة جديدة تتوجس تل أبيب من توجهاتها.. وبهدف توسيع فارق القوة الهائل بالفعل بين البلدين.. وبحريًا، من خلال استهداف الأسطول السوري، بهدف قص أجنحة أى سلطة جديدة ترغب فى مواجهة إسرائيل.. أما فى البر، فإن السيطرة على المنطقة العازلة، وصولًا إلى المرتفعات فى منطقة جبل الشيخ، داخل العمق السورى بموازاة الحدود اللبنانية، تعطى إسرائيل ميزة تشغيلية فى تنفيذ عمليات القصف المدفعى والاستطلاع والدفاع السلبى، أمام أية قوات قادمة من سوريا، وفى الوقت نفسه، يزيد من تطويقها لجنوب لبنان، ويعطيها فرصة إضافية فى أى توغل برى قادم فى الجنوب اللبنانى، لفتح محور عملياتى جديد، انطلاقًا من هذه المنطقة.
ولا يمكن فى هذا المقام، نسيان الأبعاد السياسية التى تدور فى ذهن المسئولين الإسرائيليين، الذين يتخيلون اللحظة التى سيجلس خلالها الجميع على الطاولة للتفاوض على شكل سوريا الجديدة، ويرغبون فى أن تمتلك إسرائيل أكبر قدر من الأوراق فى تلك اللحظة.. وبالقطع لن تقبل دولة الاحتلال أن يُوضع مصير الجولان المُحتل على طاولة المفاوضات، وأقصى ما يمكن أن تقبل به، هو التراجع مجددًا إلى ما وراء خط التهدئة، مقابل ضمانات بألا تتحول سوريا إلى مصدر للتهديد، سواء من قبل الفصائل السنية أو من قِبل إيران.. لكن المشكلة الأساسية فى هذا الصدد، تكمن فى طبيعة الأطراف التى ستتفاوض معها إسرائيل آنذاك، والتى ستجعل مهمتها أعقد بكثير من نظيرتها فى ظل الأسد الواقع تحت رعاية روسيا.. والحديث هنا ليس عن السلطة السورية الجديدة أيًا كان شكلها، ولكن بالأخص عن تركيا تحت رئاسة أردوغان، الراعى الأكبر للمعارضة السورية، والتى تشوب علاقتها مع إسرائيل توترات يصعُب تجاوزها أو التغلب عليها.
ليس مؤكدًا على وجه الدقة، إلى أين يمكن أن تمتد الأهداف العملياتية لإسرائيل داخل سوريا، ومن المحتمل أن تكون هى نفسها لديها خطة مرنة، قد ترتفع أو تنخفض أهدافها حسب التطورات الميدانية والسياسية.. لكن المؤكد أنه لا يمكن الثقة بتعهدات إسرائيل بأن توغلاتها الحالية فى الأراضى السورية مؤقتة، فى الوقت الذى تبحث فيه الحكومة اليمينية الإسرائيلية عن «صورة نصر»، مستغلة الارتباك الحاصل داخل سوريا، فى ظل نهم إسرائيل المعهود للسيطرة على المزيد من أراضى جيرانها بلا توقف.. لكن ذلك النصر الإسرائيلى المتوَّهم لن يكون بلا ثمن، وهو ما أشارت إليه الصحافة الإسرائيلية نفسها.. على سبيل المثال، وصفت صحيفة «هآرتس» فى افتتاحيتها الصادرة صباح الاثنين الماضى التوغل الإسرائيلى على الحدود السورية، بأنه خطأ تاريخى سيكلف إسرائيل غاليًا.. وقالت الصحيفة، إن الجيش الإسرائيلى استطاع دخول المنطقة المنزوعة السلاح على الجانب السورى من مرتفعات الجولان فقط، لأن الجنود السوريين تخلوا عن مواقعهم العسكرية.. لكن هذا التغيير فى الوضع الراهن فى الأراضى المُعترف بها على أنها تابعة لسوريا، يخلق ذريعة جديدة للاشتباكات حتى لو لم تكن فورية.. ولم يصدر حتى اللحظة، أى تعليقات من جانب قوى المعارضة السورية أو حكومتها الجديدة، تتعلق بالعمليات الإسرائيلية، فهى الآن لا تزال تكافح لاستلام المقاليد السياسية والأمنية فى البلاد المفككة، كما أن سلوكها خلال الأيام الماضية، كان حريصًا على الانكفاء على ترميم الوضع الداخلى وتهدئة الصراع مع الأطراف الخارجية، بما فيها روسيا حليف نظام الأسد.. لكن هذا لا يمنع- كما تقول الصحيفة- من احتمال تطور الأوضاع فى اتجاه مختلف، خصوصًا مع وجود فصائل ومجموعات كثيرة مُسلحة، قد لا تكون السيطرة الكاملة عليها متاحة واقعيًا.
على جانب آخر، من المحتمل أن تكون خطوات إسرائيل التالية فى سوريا، هى التنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، المدعومة أمريكيًا والموجودة فى محافظات ومناطق شرق الفرات، لإحكام السيطرة على كامل الجنوب السورى، ما قد يُعزز من موقف الأكراد المسلحين، إلا أن ذلك سيثير بشكل عميق حفيظة تركيا، التى لديها مصلحة كبرى فى تفكيك القوات الكردية فى سوريا، لمنعها من تطوير عملياتها فى المناطق القريبة من الحدود التركية.. وثمة تعقيد آخر تضيفه تحركات الجيش الإسرائيلى، هو موقف الإدارة الأمريكية القادمة من هذا التوغل.. فرغم أن دونالد ترامب خلال فترة رئاسته الأولى، وتحديدًا يوم 25 مارس 2019، كان أول رئيس أمريكى يعترف رسميًا بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، ما مثَّل تغييرًا كبيرًا عن السياسة التى اتبعها قبله، خمسة من الرؤساء الأمريكيين، منهم جمهوريون وديمقراطيون، منذ ضم الاحتلال لها بقانون عام 1981، فإنه من الصعب الجزم بأن ترامب سيظل محتفظًا بهذا الموقف وداعمًا له فى ظل تقلباته السياسية المعتادة.
ربما لهذه الأبعاد، تقول صحيفة «هآرتس»، «إنه من الحكمة لرئيس الوزراء المسئول عن أعظم كارثة فى تاريخ إسرائيل، أن يتخلى عن البحث عن صور النصر السخيفة، وأن يظهر تواضعًا أكبر»، لكن نتنياهو، من جانب آخر، يُراهن على إمكاناته فى القفز إلى الأمام وقدرات جيشه العسكرية، من أجل الاستمرار فى هذه الحرب التى تتوسع وتُضاف إليها الآن جبهة جديدة.. فى غضون ذلك، تبقى المنطقة برمتها مفتوحة على سيناريوهات متعددة ومتداخلة فى المدى القريب، ولكن لا يبدو أن الهدوء سيكون من بينها.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.