رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إنقاذ علماء سوريا!

قبل‭ ‬حوالى‭ ‬20‭ ‬عامًا،‭ ‬وبعد‭ ‬سقوط‭ ‬حكم‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقى‭ ‬صدام‭ ‬حسين،‭ ‬بدأت‭ ‬عمليات‭ ‬اغتيال‭ ‬العلماء‭ ‬العراقيين‭ ‬واحدًا‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬بقى‭ ‬داخل‭ ‬العراق‭ ‬طالته‭ ‬يد‭ ‬الغدر،‭ ‬وفى‭ ‬الأمس،‭ ‬أى‭ ‬بعد‭ ‬24‭ ‬ساعة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬سقوط‭ ‬حكم‭ ‬الرئيس‭ ‬بشار‭ ‬الأسد،‭ ‬قُتل‭ ‬أول‭ ‬عالم‭ ‬سورى،‭ ‬وهو‭ ‬الدكتور‭ ‬حمدى‭ ‬إسماعيل‭ ‬ندى،‭ ‬عالم‭ ‬الكيمياء‭ ‬المتخصص‭ ‬فى‭ ‬صناعة‭ ‬الأدوية،‭ ‬وبعده‭ ‬بساعات‭ ‬اغتيلت‭ ‬الدكتورة‭ ‬زهرة‭ ‬الحمصية،‭ ‬عالمة‭ ‬الذرة‭ ‬الميكروبيولوجية‭ ‬السورية‭ ‬بمنزلها‭. ‬وهكذا،‭ ‬سوف‭ ‬نشهد‭ ‬يوميًا‭ ‬حوادث‭ ‬اغتيال‭ ‬لعلماء‭ ‬سوريا‭ ‬الواحد‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬وكما‭ ‬دمر‭ ‬العدو‭ ‬سلاح‭ ‬الجيش‭ ‬السورى‭ ‬كاملًا،‭ ‬لن‭ ‬يتهاون‭ ‬فى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬العقول‭ ‬السورية،‭ ‬فهم‭ ‬صُناع‭ ‬المستقبل‭ ‬وأمل‭ ‬سوريا‭ ‬فى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

من‭ ‬أخطر‭ ‬مظاهر‭ ‬الفراغ‭ ‬الأمنى‭ ‬التى‭ ‬شهدها‭ ‬العراق‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬هو‭ ‬سيطرة‭ ‬الجماعات‭ ‬المسلحة‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المناطق،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬القوات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬الأمريكية‭ ‬والبريطانية‭ ‬فى‭ ‬معظمها،‭ ‬مما‭ ‬خلق‭ ‬بيئة‭ ‬فوضوية‭ ‬سهلت‭ ‬لأجهزة‭ ‬المخابرات‭ ‬تنفيذ‭ ‬هذه‭ ‬الاغتيالات‭ ‬دون‭ ‬الخوف‭ ‬أو‭ ‬محاسبة،‭ ‬فلا‭ ‬أمن‭ ‬ولا‭ ‬أمان‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الحكم‭ ‬وتسريح‭ ‬الجيش‭.‬‮ ‬

والعلماء‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬العصور‭ ‬هم‭ ‬ملك‭ ‬للبشرية‭ ‬جمعاء،‭ ‬وليسوا‭ ‬ملكًا‭ ‬لأوطانهم‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬السياسة‭ ‬الصهيونية‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬العلم‭ ‬ولا‭ ‬تهتم‭ ‬بالبشرية،‭ ‬وتضع‭ ‬مصلحتها‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬اعتبار،‭ ‬وبالقطع،‭ ‬يضع‭ ‬جهاز‭ ‬الموساد،‭ ‬الذى‭ ‬يرتع‭ ‬الآن‭ ‬داخل‭ ‬الأراضى‭ ‬السورية،‭ ‬مصلحته‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬اعتبار‭ ‬أيضًا،‭ ‬وهدفه‭ ‬الأساسى‭ ‬هو‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬سوريا‭ ‬وضمان‭ ‬عدم‭ ‬قيامها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬عقول‭ ‬كانت‭ ‬ستفيد‭ ‬البشرية‭ ‬غيبت‭ ‬بالقتل‭ ‬على‭ ‬أيدى‭ ‬أجهزة‭ ‬مخابرات‭ ‬دول‭ ‬الشر‭ ‬المتربصة‭ ‬بالأمة‭ ‬العربية‭.‬

كان‭ ‬الانتقام‭ ‬السياسى‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬حكم‭ ‬حزب‭ ‬البعث‭ ‬العراقى‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬التى‭ ‬ساهمت‭ ‬فى‭ ‬عمليات‭ ‬الاغتيال،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬السبب‭ ‬الأقل‭ ‬أهمية،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬العراقيين‭ ‬كانوا‭ ‬مرتبطين‭ ‬بالبرنامج‭ ‬العسكرى‭ ‬وتطوير‭ ‬الأسلحة‭ ‬العراقية،‭ ‬فكان‭ ‬الهدف‭ ‬واضحًا‭ ‬أمام‭ ‬الموساد‭ ‬والـ‭ ‬CIA‭ ‬وغيرهما‭.‬

وبالطبع،‭ ‬حاول‭ ‬بعض‭ ‬الجهات‭ ‬استغلال‭ ‬الظرف‭ ‬العراقى‭ ‬لنقل‭ ‬الخبرات‭ ‬العلمية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬التى‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬العلماء‭ ‬العراقيون‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬البلاد،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬فى‭ ‬مجالات‭ ‬حساسة،‭ ‬مثل‭ ‬الطاقة‭ ‬والصناعات‭ ‬المتقدمة،‭ ‬وقد‭ ‬نجح‭ ‬بعض‭ ‬العلماء‭ ‬العراقيين‭ ‬فى‭ ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬الأمان،‭ ‬مما‭ ‬تسبب‭ ‬فى‭ ‬فقدان‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكفاءات‭.‬

 

بينما‭ ‬طالت‭ ‬الاعتداءات‭ ‬الهمجية‭ ‬للتنظيمات‭ ‬المسلحة‭ ‬أيضًا‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المراكز‭ ‬والمختبرات‭ ‬البحثية،‭ ‬مما‭ ‬ألحق‭ ‬ضررًا‭ ‬جسيمًا‭ ‬بالبنية‭ ‬التحتية‭ ‬للبحث‭ ‬العلمى‭ ‬فى‭ ‬العراق‭.‬‮ ‬

وبالطبع،‭ ‬فشلت‭ ‬الحكومات‭ ‬العراقية‭ ‬فى‭ ‬حماية‭ ‬علمائها،‭ ‬وأصيب‭ ‬المجتمع‭ ‬العلمى‭ ‬بالإحباط،‭ ‬وكاد‭ ‬العراق‭ ‬يفقد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬النهوض،‭ ‬رغم‭ ‬قدراته‭ ‬المالية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التى‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬كثانى‭ ‬أكبر‭ ‬منتج‭ ‬للبترول‭ ‬فى‭ ‬العالم‭.‬

وللسوريين‭ ‬أيضًا‭ ‬خبرات‭ ‬كبيرة‭ ‬فى‭ ‬مجالات‭ ‬حيوية،‭ ‬مثل‭ ‬الطاقة‭ ‬النووية‭ ‬والكيمياء‭ ‬والهندسة‭ ‬والزراعة‭ ‬وغيرها،‭ ‬مما‭ ‬يجعلهم‭ ‬أهدافًا‭ ‬مغرية‭ ‬لأطراف‭ ‬عديدة‭ ‬فى‭ ‬الصراع‭ ‬السورى‭. ‬ولكن‭ ‬للأسف،‭ ‬فإن‭ ‬الوضع‭ ‬الأمنى‭ ‬المنهار‭ ‬فى‭ ‬سوريا‭ ‬يسهل‭ ‬تنفيذ‭ ‬عمليات‭ ‬الاغتيال‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬التهديدات‭ ‬التى‭ ‬يواجهها‭ ‬العلماء‭.‬‮ ‬

بعض‭ ‬الدول‭ ‬الإقليمية‭ ‬تسعى‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬استقطاب‭ ‬الخبرات‭ ‬السورية‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬حمايتهم،‭ ‬ما‭ ‬يرفع‭ ‬من‭ ‬احتمالات‭ ‬استهداف‭ ‬العلماء‭ ‬أو‭ ‬اختطافهم؛‭ ‬للاستفادة‭ ‬منهم،‭ ‬وهذا‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬احتمالية‭ ‬تكرار‭ ‬مأساة‭ ‬العراق،‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬قتامة‭ ‬المشهد‭ ‬السورى‭ ‬فى‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭.  ‬