الجولانى والسنوار.. شتان بين القائدين!
كالشريط السينمائى.. تزامنت وتتابعت أربعة مشاهد، فى آن، ربما يقرأ فيها المحللون، كيف تبدو سوريا الآن، وماذا ينتظرها؟.. وربما يضعون علامة تعجب، نهاية سطر يقول، إن البلاد عندما تهون على أبنائها، تهون على غيرهم.. وإذا كان البعض يطمح إلى الحرية من قبضة حاكم مُستبد، فلا يكون ذلك بهدم الدولة وتقويض أركانها، وجعلها نهبًا لكل طامع فيها.
فأما المشهد الأول.. فكان لأبو محمد الجولانى، قائد ما يُسمى بهيئة تحرير الشام تنظيم النصرة سابقًا وهو يخطب خطاب النصر فى المسجد الأموى بدمشق بعد فرار بشار الأسد، ويُعلن بداية عهد الدولة الإسلامية!.. وأما الثانى، فلنتنياهو وبعض قادة جيشه، مُنتصبًا بقامته أعلى منطقة الجولان، عند جبل الشيخ، ناظرًا باتجاه الأراضى السورية، وكأنما يحتفل هو الآخر بذلك النصر، وبالتزامن، تضرب طائراته كل الأصول العسكرية السورية فى دمشق وغيرها، بينما تستولى قواته البرية على أراضٍ من الحدود، وهذا هو المشهد الثالث.. وأما الرابع، فكان للرئيس الأمريكى، جو بايدن، يُعلن فى خطاب بواشنطن، أن الولايات المتحدة ستسهم فى التخطيط مع الفصائل السورية التى كان قد أعلنها إرهابية لمرحلة انتقالية فى البلاد!!.
فأى مرحلة انتقالية يريدها بايدن؟.. وأى دولة ينتظرها الجولانى؟!.
شتان بين رجل الجولانى مكَّن إسرائيل من بلاده، ورجل السنوار قيًّد نتنياهو فى محبس غزة، وجعل من تل أبيب كيانًا مُستهجنًا بين شعوب العالم.. حتى إن الصحفى البريطانى المعروف، ديفيد هيرست، قارن بين استراتيجيتى رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، ورئيس حركة حماس، يحيى السنوار.. إذ يعتقد هيرست فى مقاله فى موقع Middle East Eye، أن استراتيجية نتنياهو تتمثل فى أربعة أهداف، فيما تتلخص استراتيجية السنوار فى هدفين، استقاهما هيرست من خطابين، كان قد ألقاهما فى العام الذى سبق «طوفان الأقصى».. وقد خلُص هيرست فى نهاية مقاله، إلى أنه يبدو أن استراتيجية السنوار هى التى تنجح.. وسواء عاش أو مات، فقد بات لتلك الأجندة زخمها الخاص، والذى لا قِبل لأحد بوقفه.
●●●
يقول هيرست، إن أحدًا لم يتوقع «طوفان الأقصى» يوم السابع من أكتوبر من العام الماضى، وأن الحرب ستظل رحاها دائرة على أشدها حتى بعد عام من ذلك.. لم يتوقع أحد أن تخوض إسرائيل قتالًا لفترة أطول من تلك التى استغرقتها عند تأسيس الدولة عام 1948.. فكل الحروب التى خاضتها تل أبيب منذ ذلك الوقت، كانت مجرد استعراضات قصيرة للقوة المُطلقة، وليس لمجرد الرغبة فى المحاولة.
لقد قصفت غزة حتى أعادتها إلى العصر الحجرى، حيث تم إلحاق الضرر بما يزيد على سبعين بالمائة من بيوتها أو دمرت تدميرًا تامًا.. ولا أحد يرفع الراية البيضاء، ولا توجد مؤشرات بارزة على حدوث تمرد بين السكان الذين يعيشون الآن فى الخيام والذى فقدوا قرابة الخمسة وأربعين ألف إنسانًا بسبب القصف المباشر، ويكاد يصل من قضوا نحبهم فى الحرب بشكل غير مباشر، ثلاثة أو أربعة أضعاف ذلك العدد، إذ قالت مجلة، إن العدد الفعلى للوفيات قد يتجاوز المائة وتسعين ألفًا، فيما لو تم أخذ عوامل أخرى، مثل المرض وانعدام الرعاية الصحية، فى الحسبان.. فهؤلاء الناس يتعرضون للتجويع، وانتشرت بينهم الأمراض، وهم يقضون الشتاء الثانى لهم فى الخيام، ويتم قصفهم بشكل يومى، وما زالوا عصيين على الخضوع.. لم يسبق أن حل مثل هذا الحجم من المعاناة على أى جيل سابق.. ما من فلسطينى على قيد الحياة اليوم إلا ويعرف التبعات، ومع ذلك لا تراهم يهربون.. معظمهم يؤثرون الموت على التخلى عن أراضيهم وديارهم للمحتل.
منذ بداية هذه الحرب، كانت هناك استراتيجيتان واضحتان تمام الوضوح، لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، وزعيم حماس الراحل، يحيى السنوار.. وكما قلنا، بعد الهجوم الذى شنته حماس على جنوب إسرائيل، أعلن نتنياهو عن أربعة أهداف: إعادة الرهائن، وسحق كل مجموعات المقاومة فى فلسطين ولبنان، وإنهاء برنامج إيران النووى، وإضعاف محور المقاومة، وإعادة تنظيم المنطقة بحيث تكون إسرائيل هى المهيمنة.. كما أنه غدا جليًا بسرعة لدى عائلات الرهائن، وكذلك لدى فريقه المفاوض وحماس ووليام بيرنز، مدير الـCIA، الذى كان يشرف على المحادثات، لم تكن لدى نتنياهو النية فى إعادة الرهائن إلى ديارهم.. وسعى إلىِ إقناع إسرائيل بأن الضغط على حماس سوف يضمن إطلاقًا سريعًا للرهائن.. كان هذا مجرد هراء، فالغالبية العظمى من الرهائن لم يبق الآن منهم داخل غزة سوى مائة وواحد يموتون بسبب القنابل والصواريخ التى تطلقها إسرائيل.. ثلاثة منهم أُطلقت عليهم النيران بينما كانوا يحاولون الاستسلام.. فتحت لواء حكومة نتنياهو اليمينية، تعتبر حياة الرهائن ثانوية، بالمقارنة مع هدف سحق حماس، وذلك أنه فيما لو عاد الرهائن، لواجه نتنياهو حكمًا طويلًا بالسجن.
ولكنه، وكما غدا واضحًا، فشل فى سحق حماس، ومن هنا جاء توجهه السريع نحو خوض حرب جديدة مع لبنان وحزب الله.. ما زالت حماس تسيطر على غزة، حتى الآن، ورغم محاولتين لاستبدالها كحكومة للقطاع، لم تبرز أى قوة أخرى ذات مصداقية فى القطاع.. وحيثما غابت القوات الإسرائيلية تحضر حماس، بل ويظهر على الساحة خلال ساعات رجال الشرطة، بلباس مدنى لتسوية أى نزاعات طارئة.
فى البداية جربت إسرائيل إبادة قيادة حماس، فقتلت الصف الأول والثانى من المسئولين الذين يديرون الحكومة، حيث قضى معظمهم نحبهم فى المجزرة التى ارتكبت خارج مستشفى الشفاء.. ولكن سنحت فرصة لتكوين فكرة عما يجرى فى غزة، عندما أعلنت إسرائيل أنها قتلت ثلاثة من كبار المسئولين فى حماس روحى مشتهى، رئيس الحكومة ورئيس الوزراء بحكم الأمر الواقع، وسامح السراج، الذى كان يحمل حقيبة الأمن فى المكتب السياسى لحماس، وسامى عودة، قائد جهاز الأمن العام التابع لحماس.. كان ذلك فى الضربة الجوية التى وقعت قبل خمسة أشهر، ومع ذلك لم يلحظ أحد غيابهم.. وما هذا إلا لأن حماس استمرت فى العمل، بغض النظر عمن بقى على قيد الحياة من قادتها ومن قضى نحبه.
فى الماضى، كانت الاغتيالات تفضى إلى مرحلة من عدم اليقين بالنسبة لحماس، وهذا ما حدث بعد قتل عبدالعزيز الرنتيسى عام 2004.. ولكن لم يعد ينجح ذلك اليوم، ولم يعد يجدى نفعًا مع هذا الجيل من المقاتلين.. جز الرأس عمل تكتيكى وقصير المدى، يمنح القتلة شعورًا بالارتياح.. لا ريب فى أن قيادة حزب الله ترنحت يمنة ويسرة تحت وطأة سلسلة من الاختراقات الأمنية، بدءًا بتفجر آلاف أجهزة المناداة وأجهزة اللاسلكى المفخخة، ولكن ذلك لم يفقده القدرة على الفعل كقوة مقاتلة، كما اكتشفت وحدة الاستطلاع التابعة للواء جولانى الإسرائيلية.. أما على المدى البعيد، فيتم استبدال القادة، كما يتم التزود بالعتاد، ويتم الانتقام للذكريات.
تتحمل إسرائيل المسئولية الأولى عن ذلك، وذلك لأنها ضربت عرض الحائط، عمدًا، بالأعراف السابقة للقتال، حيث بات الآن استهداف شخص واحد يُشَك فى تواجده، مبررًا كافيًا لقتل تسعين شخصًا بريئًا ممن يحيطون به، سواء ثبُت بالفعل تواجده فى الموقع أم لم يثبُت.. وهكذا، أبيدت عائلة بأسرها فى قصف جوى لمقهى داخل الضفة الغربية، حيث قُتل ثمانية عشر فلسطينيًا، بمن فيهم طفلان مُزِقا شر مُمزَّق.. لو كان يُقصد من إطلاق الصواريخ على المقاهى توجيه رسالة ما، فإن ما ينتج عن ذلك هو العكس تمامًا لما كان مقصودًا منها.. إن الشهداء هم أفضل سبيل للتجنيد والأكثر فاعلية.. ويصدق ذلك فى حالة كل جماعات المقاومة، كبرت أم صغرت، سواء القديمة منها أو التى تشكلت لتوها.. فى كل مرة تغادر فيها القوات الإسرائيلية جنين أو طولكرم أو نابلس، تظن أنها تمكنت من القضاء قضاء مبرمًا على المقاومة فيها، ولكن فى كل مرة تعود لتواجه المزيد من المقاتلين.. يُولّد الإرهاب الإسرائيلى مزيدًا من الإرهاب، ولا أدل على ذلك من أن تدمير بيروت الغربية عام 1982، هو الذى حفز أسامة بن لادن على مهاجمة برجى التجارة فى نيويورك عام 2001.
هدف نتنياهو الثالث، وهو القضاء على إيران كقوة نووية وكقوة إقليمية، هدف قديم يسبِق السابع من أكتوبر بعدة عقود.. فالحقيقة التاريخية، هى أن إيران لم تكن يومًا مركزية بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولم تنضم إلى المعمعة إلا بعد ثورتها عام 1979.. على مدى مائة عام، كان الفلسطينيون يقاتلون وحدهم، أحيانًا بمساعدة من الدول العربية، أولها من مصر، ثم سوريا، ثم العراق، ولكن كانوا فى معظم الأوقات وحدهم.. كما أن البرنامج النووى الإيرانى لا يعنى شيئًا بالنسبة للنضال الفلسطينى.. بل إن أكبر عامل على الإطلاق هو، تصميم الشعب الفلسطينى على العيش فى أرضه.. لا يصدر التهديد الحقيقى لإسرائيل عن إيران، وإنما يصدر عن شاب فلسطينى فى جنين أو عن حارس سابق فى الحرس الرئاسى فى الخليل، أو عن فلسطينى يحمل الجنسية الإسرائيلية فى النقب.. كل هؤلاء خلصوا إلى استنتاجات خاصة بهم، بسبب الحالة المأساوية التى يعيشونها تحت وطأة الاحتلال.. لا يحتاج أى من هؤلاء إلى تشجيع أو تحريض من قِبل إيران.
هدف نتنياهو الرابع، هو إعادة تنظيم المنطقة تحت هيمنة إسرائيل.. لكم يعشق المسئولون الإسرائيليون الحديث مع الصحفيين الأمريكيين حول ما يصلهم سرًا من زعماء السُنة المعتدلين فى العالم العربى، من عبارات دعم لإسرائيل وتأييد لأجندتها فرض الهيمنة على المنطقة.. ولكن هنا أيضًا، ترتكب إسرائيل والولايات المتحدة نفس الخطأ، المرة تلو الأخرى، من خلال الخلط بين ما يصلهم سرًا، حتى ولو كان مُحرَّفًا، وبين الشعوب التى يزعم هؤلاء أنهم يمثلونها.. النموذج الساطع لهذا التحريف ولى العهد الأمير السعودى، محمد بن سلمان، الذى نُقِل عنه خطأ على نطاق واسع، تأييده لوجهة النظر التى تقول، إن الحكام العرب فى حقيقة أمرهم لا تعنيهم فلسطين كثيرًا.. كان العنوان الرئيسى الذى اقتُبِس من محادثاته مع أنتونى بلينكن، وزير الخارجية الأمريكى، هو النص التالى، «هل أعبأ شخصيًا بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ».. إلا أن الاقتباس الكامل كان على النحو الذى شرحه الأمير فى حديثه مع بلينكن، قائلًا، «سبعون بالمائة من شعبى هم أصغر منى سنًا، ومعظمهم لم يعرفوا فى الحقيقة الكثير عن القضية الفلسطينية.. ولذلك فهم الآن يتعرفون عليها للمرة الأولى من خلال هذا الصراع، وهذه مشكلة كبيرة.. هل أعبأ شخصيًا بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ، ولكن شعبى يعبأ، ولذلك يجب عليَّ أن أتأكد من أن هذا له معنى».. بل إن وزير الخارجية السعودى، فيصل بن فرحان، أعلن أن المملكة العربية السعودية لن تطبع العلاقات مع إسرائيل إلا بعد إقامة دولة فلسطينية.. يمكن لهذا الأمر أن يذرع المكان جيئة وذهابًا، ولكن حتى الآن، على الأقل، نشهد تبددًا لأثر اتفاقيات أبراهام فى إقامة تحالف إقليمى مُناصر لإسرائيل.
●●●
دعونا الآن ننظر فى أهداف السنوار الاستراتيجية يوم السابع من أكتوبر، ولنرى أيها صمد مع مرور الوقت؟.
كان لديه هدفان استراتيجيان. ما يفكر به يمكن استنتاجه من خطابين، كان قد ألقاهما فى العام الذى سبق هجوم حماس.. قال السنوار فى أحدهما، وكان فى ديسمبر 2022، إنه ينبغى أن نجعل الاحتلال أكثر تكلفة لإسرائيل، «تصعيد المقاومة بكل أشكالها، وجعل سلطات الاحتلال تدفع فاتورة الاحتلال والاستيطان، هو السبيل الوحيد لتخليص شعبنا وتحقيق غاياته فى التحرير والعودة».. وفى خطاب آخر، قال السنوار، إنه يجب على الفلسطينيين أن يعرضوا على إسرائيل خيارًا واضحًا، «إما أن نجبرها على تطبيق القانون الدولى، على احترام القرارات الدولية، أى الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى والسماح بعودة اللاجئين.. أو أننا، نحن والعالم، نجبرها على عمل هذه الأشياء وإنجاز إقامة الدولة الفلسطينية فى المناطق المحتلة، بما فى ذلك القدس، أو أننا نجعل الاحتلال فى حالة من التناقض مع الإرادة الدولية بأسرها، وبذلك نعزلها بقوة وبشدة، ونضع حدًا لحالة اندماجها داخل المنطقة وفى العالم كله».
فى ما يتعلق بالنقطة الأولى، لا ريب أن حماس جعلت الاحتلال أكثر تكلُفة بالنسبة لإسرائيل.. فمنذ أن بدأت الحرب، قُتل قرابة ألفين من الإسرائيليين، وبلغ عدد من جرحوا قرابة الثمانية عشر ألفًا، وعدد من أُجبروا على إخلاء منازلهم قرابة المائة وخمسين ألفًا، حسب ما أوردته صحيفة «جيروزاليم بوست».. وبدأ المال يهرب إلى الخارج.. وعلى الرغم من عودة كثيرين من عناصر الاحتياط، الذين يبلغ تعدادهم ثلاثمائة ألف، إلى وظائفهم، نشرت مجلة The Economist تقريرًا جاء فيه، «ما بين مايو ويوليو، تضاعفت كمية الأموال المتدفقة من البنوك فى البلد إلى المؤسسات الدولية، مقارنة بنفس الفترة من العام المنصرم، حيث وصلت إلى مليارى دولار.. ولذا غدا صُناع السياسة الاقتصادية فى إسرائيل أشد قلقًا مما كانوا عليه منذ بدء الصراع».. ولكن أكبر الضربات التى وجهها السابع من أكتوبر، كانت فى المستوى النفسى.. ذلك أن الانهيار المفاجئ والتام للجيش الإسرائيلى قبل أكثر من عام من الآن، شكل صدمة كبيرة لم تتعاف منها إسرائيل بعد، إذ إنه تحدى الدور الأساسى الذى تقوم به الدولة فى الدفاع عن مواطنيها.. جعل ذلك كل الإسرائيليين يشعرون بانعدام الأمان، وهذا هو الذى يفسر، وحده، التوحش الذى يمارسه الجيش الإسرائيلى فى رده، على الرغم من الشكوك العميقة التى تساور قادة الأجهزة الأمنية.
إذا كان ما زال محفورًا فى ذاكرة الكاتب ديفيد إجناتيوس، ذلك المقطع المُصور لأحد مقاتلى حماس وهو يتصل بالبيت مخاطبًا والدته فى غزة، ومفاخرًا بعدد من قتلهم من اليهود، فماذا عن الآلاف من المقاطع المرفوعة على «التيك توك» من قبل جنود إسرائيليين يتباهون بما ارتكبوه من جرائم حرب؟.. ما هو الأثر الذى تتركه هذه المقاطع على الكاتب فى صحيفة «واشنطن بوست»؟، إلا أنها مغيبة تمامًا من قِبله ومن قِبل كثيرين مثله.. لأن تقبل المرء لسردية أن السابع من أكتوبر كان هولوكوست إسرائيل، هو بمثابة وضع الغمامات على العيون.. يعنى ذلك استثناء وتبرير كل ما فعلته إسرائيل بجميع الفلسطينيين، بغض النظر عن العائلة أو العشيرة أو التاريخ.. إنها الهمجية التى لا تضاهيها همجية، ولا إنسانية أكبر مما يمكن أن يخطر ببال أحد من البشر حتى يوم السادس من أكتوبر، أنها يمكن أن تصدر عن دولة فى هذا المستوى من التحضر والتعليم.
وهنا، أخيرًا، نصل إلى أكبر أثر تركه هجوم حماس.. فى السادس من أكتوبر كانت القضية الوطنية الفلسطينية فى عِداد الأموات، إن لم تكن قد دُفِنت بالفعل.. فبعد مرور ثلاثين سنة على اتفاقيات أوسلو، غدت غزة معزولة تمامًا، وبات الحصار المفروض عليها أبديًا، ولم يكن أحد يعبأ بذلك.. وأعلن نتنياهو انتصاره، فى سبتمبر 2023، عندما لوَّح بخريطة فى الأمم المتحدة لا وجود فيها للضفة الغربية.. كان هناك بند واحد فى الأجندة الإقليمية.. إنه التطبيع الوشيك للمملكة العربية السعودية مع إسرائيل.. وكانت المنطقة فى أهدأ أحوالها منذ عقود، كما كتب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومى الأمريكى، فى مقاله الأصلى الذى أعده للنشر فى مجلة Foreign Affairs.. فقد قال فى النسخة الأصلية، التى سرعان ما أُعيد تحريرها وتعديل محتواها، «على الرغم من أن الشرق الأوسط ما زال يواجه تحديات مُعمِّرة، فإن المنطقة الآن فى أهدأ أحوالها منذ عقود».
فى عهد أشد القيادات يمينية فى تاريخها، تم التخلى عن صيغة الأرض مقابل السلام، ومعها تم التخلص من فكرة الانفصال.. من خلال الاستيلاء على الأراضى والتمسك بها، كانت إسرائيل فى ذروة النصر.. بعد السابع من أكتوبر، وصل دعم المقاومة المسلحة فى الضفة الغربية إلى الذروة، فقد وضع هجوم حماس المقاومة المسلحة تارة أخرى على الأجندة، كسبيل لفرض أجندة التحرير.. لو أن اتفاقيات أوسلو نجحت فى إنتاج دولة فلسطينية خلال خمس سنين من التوقيع عليها، لما وُجِدت حركة مثل حماس، أو لو وُجِدت لربما تصرفت كما تتصرف مجموعة منفصلة عن الجيش الجمهورى الإيرلندى، ولما كانت قادرة على تغيير مسار الأحداث.. أما اليوم، فحماس هى التى تُغير مسار الأحداث، لأن الطريق السلمى نحو دولة فلسطينية قابلة للحياة تم سده، وكل حديث عن عملية السلام غدا مجرد سراب.. ولم يقتصر الأمر على فشل أوسلو فى إنتاج دولة فلسطينية، بل لقد أوجدت هذه الاتفاقيات الظروف التى مكَّنت الدولة الإسرائيلية من التوسع والازدهار بشكل غير مسبوق، داخل الضفة الغربية وفى القدس.. وكان هذا هو العامل الأهم والأكبر على الإطلاق الذى أقنع جيلًا جديدًا من الشباب الفلسطينيين ببيع سياراتهم ودكاكينهم وشراء الأسلحة.. وحينما هاجمت كتائب القسام جنوب إسرائيل، لم يحتج هؤلاء الشباب إلى كثير من الإقناع.. بعد أكثر من مضى عام، ها هو جناح حماس المسلح يحظى بالبطولة فى الضفة الغربية والأردن والعراق، وأظن كذلك، فى أجزاء كبيرة من مصر ومن شمال إفريقيا.. ولو سُمح الآن بتنظيم انتخابات لطيَّرت حماس فتح كما فعلت بها عام 2006.
●●●
عادت فلسطين إلى موقعها الصحيح، حيث إنها تضطلع بالدور الأساسى فى حسم أمر الاستقرار فى المنطقة.. ينقُض رد إسرائيل الوحشى على السابع من أكتوبر، عقودًا من الجهود الإسرائيلية والأمريكية، لإقناع العرب بأن فلسطين لم تعد تملك حق الاعتراض على العلاقات الإسرائيلية العربية.. لقد غدا اليوم حق الاعتراض هذا أقوى من أى وقت مضى.. وغدا التغيير أكثر جلاءً على المستوى العالمى.. ولقد ساعد على ذلك، تلك الرغبة الجامحة من قِبل التحالف الغربى فى إيجاد عدو.. كان هذا العدو حتى وقت قريب هو السوفييت، ثم حلت محله كتهديد عالمى، ظاهرة الإسلام الراديكالى.. والآن، يتمثل التهديد فى التحالف بين روسيا والصين وإيران، وكلها تسعى نحو نطاقات من المصالح، من شأنها أن تُقوِّض النظام الدولى، كما ذكر وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، فى مقال أخير له فى مجلة Foreign Affairs.. وكما أن الولايات المتحدة لا تسعى نحو نطاق عالمى من المصالح؟، لا يبدو أن تأكيدات سوليفان أو تأكيدات بلينكن عبر Foreign Affairs تعرف الشيخوخة.. ولكن نتيجة لحربها، تخسر إسرائيل النصف الجنوبى من العالم وجزءًا كبيرًا من الغرب كذلك.. لقد غدت فلسطين قضية حقوق الإنسان العالمية الأولى، وتتصدر الجهود المبذولة لضمان العدالة الدولية، عبر رفع القضايا لدى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.. وهى التى أطلقت العنان لأكبر حركة احتجاجية فى بريطانيا فى التاريخ الحديث.
ومن بين الاستراتيجيتين، يبدو أن استراتيجية السنوار هى التى تنجح.. فقد بات لتلك الأجندة زخمها الخاص، الذى لا قبل لأحد بوقفه.. ولعل نتنياهو، الذى جرأه ضعف بايدن واحتمال مجىء دونالد ترامب، الذى يقول إن إسرائيل صغيرة أكثر من اللازم، يتوهم بأن بإمكانه أن يحتل شمال غزة وجنوب لبنان.. من المؤكد أن ضم المناطق «ج»، والتى تُشكل معظم أراضى الضفة الغربية، سيأتى من بعد.. ولكن، ما لن يكون نتنياهو قادرًا على فعله فى غزة أو فى لبنان أو فى الضفة الغربية هو إنهاء ما بدأه.. لأن الذى أجبر آرئيل شارون على الانسحاب من غزة فى 2005، أو إيهود باراك على الانسحاب من لبنان فى 2006، سوف ينطبق على القوات الإسرائيلية التى يحاول نتنياهو نشرها فى غزة وفى لبنان، وبشكل أعنف بكثير.. إنها مسألة وقت.
لقد نزعت هذه الحرب عن إسرائيل صورة الصهيونى الليبرالى، صورة الغلام الجديد فى الحى السكنى، الذى يدافع عن نفسه فى مواجهة «الحى الصعب».. حلت محل ذلك صورة البُعبُع الإقليمى، الدولة التى تمارس الإبادة الجماعية، بلا بوصلة أخلاقية، مستخدمة الإرهاب من أجل البقاء.. مثل هذه الدولة لا يمكنها العيش بسلام مع جيرانها، فهى تسحق وتهيمن حتى تظل على قيد الحياة.. حرب نتنياهو قصيرة المدى وتكتيكية، بينما حرب السنوار طويلة المدى، هدفها جعل إسرائيل تدرك أنها لا يمكنها أبدًا الاحتفاظ بالأراضى التى احتلتها إذا كانت فعلًا تنشُد السلام.. حرب نتنياهو عمرها أكثر من سنة، ولا يمكنها الاستمرار بنفس الطريقة التى بدأت بها، إلا عبر إلحاق نفس الدمار بجنوب لبنان كالذى ألحقته بغزة.. لا يوجد فيها غيار عكسى.. أما حرب السنوار فقد بدأت لتوها.. من الذى سيكسب؟، يتوقف ذلك على درجة تحمل المُستضعفين.. لن أستغرب أن يكون هناك من يقول، «لقد كفانا ما أتانا، نريد التوقف».. ولكن بعد مرور أكثر من عام، فما زالت روح المقاومة مرتفعة وآخذة فى النمو.. إذا كُنت على صواب، فهذا القتال ما زال فى مراحله الأولى.. لقد تبدلت معادلة القوة فى الشرق الأوسط، ولكن ليس لصالح إسرائيل أو الولايات المتحدة.. ومع أن إسرائيل تُعيث الآن فسادًا فى أرض سوريا، بلا رادع، فلأن ذلك بداعى الخوف، ويتفق مع طبيعة نتنياهو التى تتشابه مع صفات «ابن آوى»، الحيوان النتن، الذى يقتات على الجِيَف!.. ولعل أهل الشام ينتبهون قبل فوات الآوان.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.