رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

( الجزائر الصغرى )

 

في احدى دور العرض التجارية في قلب باريس وتحديدا في الحي اللاتيني شاهدت فيلمًا جزائريًا عنوانه ( barbes little Algeria) ولمن لا يعرف (barbes ) فهي احد الاحياء الشهيرة الموجودة في قلب العاصمة الفرنسية وفيها اكبر تجمع للجالية الجزائرية وكانها -و كما يقر الفيلم - ( الجزائر الصغرى)
و للمنطقة والحي قانونه الخاص وثقافته الخاصة بفعل ذلك الواقع الديمغرافي غير المعتاد وانعدام وجود الفرنسيين في ذلك الحي تقريبا.. فالغالبية العظمى من قاطني الحي من الجزائريين الذين مازالوا محتفظين بثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وممارساتهم وكأنهم لم يخرجوا من الجزائر (بلدهم الام ) حتى بعد حصولهم على الجنسية الفرنسية وبالتالي لا علاقة لهم بالثقافة الفرنسية على الاطلاق وكأنهم معزولون عن الواقع وعن بلادهم وعن فرنسا ذاتها ! بل وكأنهم عزلوا تلك المنطقة عن فرنسا فأصبحت مستعمرة جزائرية عربية مسلمة في قلب باريس وعلى مقربة من كنيسة ( الساكريكير او القلب المقدس ) ومنطقة المومارتر التاريخية ذات الوهج الثقافي والفني والثراء الكوزموبوليتاني ولذلك يحدث في الكثير من الاحيان صدام وتصادم ثقافي وحضاري بين اهل المنطقة وبقية المناطق من حولها فللحي - كما سبق وأوضحت - ثقافته الخاصة وموسيقاه الخاصة فتسمع فيه اغاني للسيدة ام كلثوم ويتحدث قاطنيه باللغة العربية وترتدي فيه النساء الحجاب اما الشباب والرجال فبعضهم يعمل في تجارة المخدرات والاخر عاطل عن العمل او يمارس البلطجة والنصب والتربح من السياح الذين يدخلون للمنطقة وهم لا يعرفون طبيعتها وتركيبتها السكانية المغايرة وأن حي ( باربيس ) حي عربي واسلامي بامتياز وأنه نموذجًا مصغرا للجزائر - كما يقر الفيلم - في قلب باريس التي تقبل الاخر وتضمن للآخر ممارسة شعائره لذلك أظهر الفيلم مشاهد للصلاة وافطار رمضان وطقوس الطهي العربية والاكلات المغاربية بل طقوس غسل الموتى والصلاة عليهم وكل ذلك بفضل علمانية المجتمع الفرنسي  الذي تنصهر فيه كل الملل والنحل ويقبل بجميع المعتقدات والافكار والثقافات حتى المغايرة ولكن يبقى السؤال: هل يقبل سكان الحي ثقافة البلاد وتقاليد الجمهورية الفرنسية وقانونها ؟ والاجابة وللاسف هي لا 
فقاطني الحي وضعوا اياديهم على الحي الباريسي وحولوه لحي ينتمي لهم هم فقط وكانه حي تم احتلاله أو نزعه عن الجمهورية الفرنسية بتقاليدها الراسخة وقانونها وبالتالي مارسوا في الحي كل ما يحلو لهم من فوضى وجرائم وعنف وتحرش وأهله دومًا في صدام مع الشرطة عندما تحاول التدخل لكبح جماح قاطني الحي ومنع الجريمة فيه دون جدوى.. فحي ( باربيس ) الباريسي تحول لواقع  ميئوس منه وعجزت الشرطة عن ضبط ايقاع الامن فيه او السيطرة عليه.. فشباب الحي لا يبيعون فقط المخدرات بل يحملون السلاح الابيض والسلاح الناري وكانت المحصلة التي أظهرها الفيلم جريمة قتل لشاب حضر من الجزائر بعد وفاة جدته ليعيش في باريس ( في حي باربيس ) مع عمه المقيم في هذا الحي منذ سنوات بعد ان ترك الجزائر مخلفًا وراءه أزمات عائلية تسببت له في تروما جعلته يبتعد ويرحل لباريس ليجد الجزائر حاضرةً ومتجسدةً في الحي الذي يقطن فيه وكأنها تلاحقه ولا فرار منها فالنموذج المصغر منها كائن وقابع في قلب مدينة الثقافة والنور وكأنه لم يترك الجزائر بل حمل هو وغيره الجزائر معهم وجاءوا بها الى العاصمة الفرنسية ( باريس ) وفي احد المشاهد العبثية والمركزية في هذا الفيلم يتباهى احد سكان الحي من كبار السن قائلا (رغم ان فرنسا قد تركت الجزائر وانتهى احتلالها فحي باربيس يحتله الجزائريون الان ولن يعيدوه لفرنسا ) وتلك الدعابة لا تخلو من الحقيقة فهي مزحة حقيقية ! فالواقع المعاش هو بالفعل هكذا ! وعندما حاول العم مساعدة ابن اخيه ليحيا حياة جديدة اكثر تحضر وليكون له مستقبل جديد ومختلف عما يحدث في الديار البعيدة وبالفعل قدم للشاب على منحة للدراسة في الجامعة الفرنسية وقبل الشاب في الجامعة وصار من اصحاب الياقات البيضاء والتلامذة المتعلمين فغار منه ابن جيله و(حومته ) كما يقول الجزائريون وأوصلت تلك الغيرة الامور لحد القتل فالسلاح متوفر وبكثرة في ايادي شباب الحي وهكذا قتل الجزائري الذي يعيش في شوارع باربيس الخطرة صديقه الشاب الجزائري الجديد الذي حضر لبلاد النور ليبتعد عن ظلمة الجهل والعنف والارهاب والقتل ليلاحقه القتل والجريمة في قلب باريس على يد ابن بلاده ودينه فالعرب والمسلمون في الاغلب ما يهتمون بالدين (التدين الظاهري الطقسي الشكلاني ) ويعشقون الطائفية ويحمدون الله على نعمة الاسلام فيقتلون ويرتكبون كل الفواحش التي هي ضد الشريعة التي يتشدقون بها وما يحدث في سورية اليوم خير دليل ! أما العم والذي ترك الجزائر هربًا من الجهل والعنف والارهاب ليلاحقه كل ذلك وها هو  الشاب يقتل وفي ريعان شبابه ويضيع شابًا اخر بعد ان مارس القتل و يفقد الحي في يوم واحد شابين من شبابه القاتل والمقتول الذي كان لابد من اعادة جثمانه لبلاده كي يدفن فيها ويراه أبيه ويودعه لاخر مرة !
فقد ذهب الابن ليتلقى العلم في بلد النور فتلقى رصاصة الغيرة والغدر في صدره الملىء بالاماني والاحلام.. فقتلت الاماني وقتلت الاحلام وتوقف قلب الشاب عن النبض وسرقت منه نبضات الحياة لصالح العدم ولينتصر الجهل والعنف على العلم والحضارة والاخاء في بلاد النور والفن التي قبلت باحتضان الجميع على اراضيها..  و في مشهد النهاية وبعد ان أتم العم جميع مراسم الغسل والصلاة والتشييع لجثمان ابن اخيه الشاب كان عليه ان يأخذه معه ليعودان سويا للجزائر. - التي صار يرهبها العم - وهو بطل العمل وشخصيته المركزية.. وينتهي الفيلم وبطله يتمتم ويدعو الله العلي القدير ان يعينه على رحلته الاضطرارية تلك 
عائدًا ادراجه مرة اخرى للبلاد التي كانت عنصر طرد بالنسبة له في مقتبل حياته وها هو الان مجبر على العودة إليها طالبًا من القدير ان يعينه على ما سيواجهه هنالك !
فالصورة هنالك مبهمة ومخيفة بالنسبة له وما حدث في باريس قد يحدث ما هو اخطر منه هنالك فطلب العون من مجهول يهابه ويترقبه.. وبالمناسبة الفيلم مخرجة جزائري مقيم في باريس وهو المخرج الجزائري الشاب ( حسن قرير ) وكالدي يقدم في هذا الفيلم عمله الروائي الطويل الاول وبالتالي فالفيلم شهادة حية وواقعية وصادقة من اهلها على ما يدور في الحي الباريسي المثير للجدل.