رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شيخوخة السياسة والرؤساء فى أمريكا!

يكاد الناظر للمناصب السياسية فى الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، أن يسترجع سيرة ومسيرة القادة السوفيت فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، من عند ليونيد بريجنيف، وصولًا إلى ميخائيل جورباتشوف.. فى كتابه المُعنون (حكم العواجيز) Old Age Rule، يصف لنا الرئيس الروسى السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن القومى الحالى، ديمترى ميدفيديف، حال الاتحاد السوفيتى فى ظل سكرتارية الدولة الطاعنة فى السن، والتى تعانى من الأمراض الجُسمانية مرة، والذهنية والنفسية مرات أخرى.
كان بريجنيف فى السبعينيات يقترب من الثمانينيات، يعانى من الوزن الزائد، وأمراض عدة لم يكشف عنها باعتبارها من أسرار الدولة..  أما قسطنطين تشيرنينكو، الذى حل سكرتيرًا للحزب الشيوعى بعد وفاة السكرتير السابق الطاعن فى السن بدوره، يورى أندروبوف، رجل الاستخبارات الروسية KGB العتيد، فلم يطل به المُقام سوى عام واحد فى منصبه، من 1984 إلى 1985، وقد كان يُعانى من الربو المُزمن.. ومن قبله يورى أندروبوف، الذى شغل المنصب من 1983 إلى 1984، وكعهد سابقيه، كان مصابًا بسرطان فى الكُلى، ورحل سريعًا.. كان زعماء الحزب الشيوعى فى نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضى، قد تقدموا فى العمر، إلى درجة أن ميدفيديف يصفهم بقوله (كانوا جميعًا عجائز، لدرجة أنهم كانوا يتعثرون ويسقطون أثناء المشى، ومهمتنا كانت ألا ندعهم يسقطون ويتدحرجون من فوق الدرج).
تبدو الكلمات الأخيرة، رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر، لحال الرئيس الأمريكى الحالى، جو بايدن، الذى يسقط من فوق دراجته الرياضية مرة، ويتعثر فوق سلم الطائرة مرات كثيرة، ناهيك عن حالته الذهنية، ونسيانه للأسماء والأشخاص، للوقائع والأحداث، ما جعل منه أضحوكة، سيما فى أعين مواطنيه من الحزب الجمهورى وقادته.. أما التساؤل الذى يطرحه المفكرون والمؤرخون فى الوقت الحاضر فهو: هل سيكون مصير الولايات المتحدة من جراء شيخوخة رؤسائها، مشابهًا بصورة أو بأخرى، لما حدث مع الاتحاد السوفيتى خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم؟.
خلال كلمة له فى سبتمبر 2021، وفى ظل تصاعد أزمة الغواصات الأسترالية، التى تغير اتجاه شرائها من فرنسا إلى أمريكا، لم يتمكن الرئيس بايدن من تذكُّر اسم رئيس وزراء أستراليا، سكوت موريسون.. فى اليوم التالى خرجت صحيفة (التايمز) البريطانية متساءلة: هل لو كان لدى الأمريكيين رئيس أصغر فى العمر، لكان ارتكب الخطأ نفسه؟.. والمثير أن الرئيس الأسبق، دونالد ترامب، نفسه، حدثت معه أخطاء مماثلة حين كان فى مدينة موسينى، بولاية ويسكونسن، لحضور اجتماع شعبى حاشد.. والأمر نفسه عرفته أمريكا فى زمن رونالد ريجان، حين استقبل الأميرة ديانا مرحبًا بها باعتبارها الأمير (ديفيد)، ولم يكد الرجل يخرج من البيت الأبيض، إلا وأُعلِن عن إصابته بمرض ألزهايمر.. ولو كان بايدن قد استكمل ترشحه لولاية رئاسية ثانية، فإنه يكون لو نجح، فى عمر الثانية والثمانين، وحال شاءت الأقدار أن يُكمل مُدته الثانية، لكان سيرحل عن البيت الأبيض فى عمر السادسة والثمانين، مُسجلًا رقمًا قياسيًا، متجاوزًا رونالد ريجان، الذى رحل فى عمر السابعة والسبعين.. وترامب من جهته، ليس أفضل حالًا، ذلك أنه فاز بدورة رئاسية جديدة للولايات المتحدة، وسيرحل عن البيت الأبيض فى عمر الثانية والثمانين.
وبالنظر إلى بقية أركان القيادات الأمريكية الحزبية اليوم، الفاعلة تحت قبة الكونجرس، نوابًا وشيوخًا، سيجد الباحث أسماءً وأعمارًا مثيرة للدهشة، وكأن الرحم السياسى الأمريكى، قد عقمت بالفعل عن تقديم وجوه ورموز جديدة..  فعلى سبيل المثال، ميتش ماكونيل، أطول زعيم جمهورى خدم فى مجلس الشيوخ، وزعيم الأغلبية سابقًا، يبلغ من العمر اليوم اثنتين وثمانين سنة.. أما تشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية فى المجلس نفسه، فيبلغ نحو ثلاثة وسبعين سنة، فيما يصل عمر السيناتور بيرنى ساندرز، الذى يحمل لواء اليسار الأمريكى، نحو اثنين وثمانين عامًا.. وبالنظر إلى حال مجلس النواب الأمريكى، وحظوظ المسئولين الديمقراطيين فيه، سوف نجد ثلاثة من الأكبر سنًا بين المسئولين، نانسى بيلوسي، زعيمة الأغلبية فى المجلس السابق قبل انتخابات التجديد النصفى فى نوفمبر الماضي، ثلاثة وثمانين سنة، ومثلها ستينى هوير، ومثلهما جيم كليبيرن.
فى قراءة للأكاديمى العربى الأصل الأمريكى الجنسية، الدكتور مُنذر سليمان، نجد أن قضية تقدم السياسيين فى العمر مسألة تُقلق علماء الاجتماع، الذين أعربوا عن خشيتهم من قُدرة الفرد على التحكم فى زمام الأمور بعد بلوغه عتبة السبعين عامًا.. فالدراسات المتوافرة تشير إلى تراجع قدرة (رؤساء الشركات) على استيعاب القدر الهائل من المعلومات طرديًا مع تقدم العمر.. بالنظر إلى رؤساء الولايات المتحدة منذ أوائل سبعينيات القرن الماضى، وبعد استقالة نيكسون، سنجد أن حظوظ الرئاسة تميل إلى كبار السن، كما الحال مع جيرالد فورد، ثم جيمى كارتر، مرورًا برونالد ريجان، وبوش الأب، وصولًا إلى ترامب، ثم بايدن، ثم ترامب مرة ثانية.. الأمر الذى يطرح تساؤلًا مُعمَّقًا: هل يُفضل الأمريكيون الشيوخ على الشباب فى مقعد الرئاسة؟.
الجواب المثير نجده عبر تحقيق مطول لمجلة Atlantic الأمريكية الشهيرة، تم نشره فى يونيو 2020، وفيه أن فكرة مرشحى الرئاسة الأمريكيين كبار فى السن لهذه الدرجة، أمر سببه، أن الشعب الأمريكى عمومًا مُسِن.. التقرير نقسه يقطع بأنه، غالبًا ما يتوجه الناخبون الذين تزيد أعمارهم على الخامسة والستين عامًا إلى صناديق الاقتراع، أكثر من الناخبين الشباب، فيما وجدت أبحاث العلوم السياسية، أن الناخبين يفضلون عادة المرشحين (الأقرب لهم من حيث العمر).. ربما يكون السر متعلقًا بالشباب الأمريكى، الذى فقد الثقة فى مؤسسات الدولة الأمريكية وأحزابها، وهو ما توقفت عنده صحيفة The Economist البريطانية أخيرًا، معتبرة أن عدد الأمريكيين كبار السن تجاوز عدد الأمريكيين الأصغر سنًا، بهامش أكبر منه فى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية.
على أن أمرًا آخر يمكن أن يُضاف فى سلسلة تبريرات اختيار رؤساء متقدمين فى السن، وهو عامل الخبرة السياسية، سيما بعد أن استفاق الأمريكيون على كوارث حلت بمكانة الولايات المتحدة عالميًا، مرة فى ولايتى بوش الابن، الذى قاد البلاد إلى حربين كارثيتين مدمرتين للأوضاع الاقتصادية وللسمعة العالمية الأمريكية، حرب أفغانستان وحرب العراق، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية، فإن سياسات باراك أوباما، التى عُرِفت باستراتيجية (القيادة من خلف الكواليس)، عطفًا على دعمه الواضح والفاضح لحركات الأصوليين، ومساندته جماعات الإسلام السياسى فى الشرق الأوسط.. هذه جميعها خصمت من رصيد القيادات الأمريكية الشابة فى الوصول إلى البيت الأبيض، والبقاء فى مقعد الرئاسة لسنوات طويلة.. فهل يعنى ذلك، أن كبار السن مُنزَّهون عن الأخطاء، وقادرون على استشراف مُقبل الأيام الأمريكية، بصورة أكثر وضوحًا من شباب السياسيين الأمريكيين؟.
يُمكن أن نُعد قصة شيخوخة رؤساء أمريكا، ضمن مُسببات الصراع المجتمعى الأمريكى المتزايد، سيما أن حكم كبار السن، سيؤدى قطعًا إلى تركيز السلطة فى أيدى الأغنياء، وجماعات المصالح من الأغنياء بنوع خاص، على حساب الأقل حظًا من البسطاء.. وإضافة لما تقدم، لا يبدو أن حظوظ رؤساء كبار السن، ستكون طيبة فى مواجهة تحديات العقود المقبلة من القرن الحادى والعشرين، تلك التى تختلف بشكل جذرى عما جرت به المقادير، منذ زمن الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة.. خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر، عصر الرقمنة وتقاطعه وتشارعه مع العملية التعليمية والإعلامية والمعرفية، وكيف تُدار معارك الفكر فى ظل أجيال جديدة، تبدو معطياتها مغايرة لما جرى من قبل.. أضف إلى ذلك، فإن أهم معركة للأمريكيين، ولغيرهم من شعوب العالم، هى معركة البشر مع التغيرات الإيكولوجية ـ وهى فرع من فروع علم الأحياء الذى يدرس التفاعلات بين الكائنات الحية وبيئتها الفيزيائية الحيوية، والتى تشمل كلًا من الكائنات الحية والمكونات ـ وهذه تتطلب نهجًا عملياتيًا لن تتقنه دولة المسئولين الأمريكين كبار السن، بل يتطلب رؤى ومرئيات عصرية، لا يقبض عليها بقوة، سوى تيارات شبابية قادرة على استنقاذ الكرة الأرضية.
ويتساءل الأمريكيون اليوم، كيف أن الطيارين الذين يقودون طائرات تجارية عملاقة، تحمل بضع مئات من المسافرين، يخضعون لتقييمات عقلية وذهنية فائقة الصعوبة، من جراء ائتمانهم على المسافرين معهم، ويُحدَّد لهم عمر افتراضى، لا يُسمح بعده بقيادتهم الطائرات.. وعليه مَنْ يسمح لشخص متجاوز فى السن، أن يقود سفينة البلاد الأمريكية، بمن عليها من غير محددات عمرية؟.. لتأتى الخلاصة، بأن أمريكا تقف فى مواجهة أحد أخطر التحديات، والقضية غير قاصرة على عُمر الرؤساء، إنها ليست شيخوختهم، بل شيخوخة الإمبراطورية، والاختبار الصعب الذى تمر به، وجوابها عليه، يرهن مستقبلها فى الحال والاستقبال دفعة واحدة.
●●●
قبل أكثر من عام، كتب الأستاذ عبدالحليم قنديل، أن ما يحدث فى أمريكا عَرض لمرض، وليس اختناقًا عابرًا.. فنحن بصدد بلد إمبراطورى، تشيخ مؤسساته الظاهرة للعيان، وتعجز باطراد عن التصحيح وصنع البدائل، وتجديد شباب السياسة الأمريكية.. فقد يُقال لك، وهو صحيح، إن عزل كيفين مكارثى، رئيس مجلس النواب يحدث لأول مرة فى التاريخ الأمريكى، وقد صارت عبارة (لأول مرة) عنوانًا على الحوادث الأمريكية الأحدث.. فقبل نحو ثلاثة أعوام، جرى اقتحام مبنى الكونجرس  The Capitol لأول مرة فى السادس من يناير 2021، وكان المقتحمون من أنصار الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، الذى أصر ولا يزال، على أن انتخاب الرئيس الأمريكى الحالي، جو بايدن، كان مزورًا، وقيل وقتها، إن الديمقراطية الأمريكية قادرة على حماية نفسها.. وجرت محاكمات وصدرت أحكام بالسجن المُغلظ، لم تنجح فى وقف الأقوال بتزوير الانتخابات وسرقة الأصوات، بل صار ترامب، رغم عشرات الاتهامات والقضايا والمحاكم المتورط فيها، الشخصية الأشهر والأكثر شعبية اليوم فى الداخل الأمريكى، وكسب الرئاسة الأمريكية مُجددًا فى نوفمبر الماضى، بينما كان العجوز بايدن يريد فترة رئاسة ثانية، قد ينهيها إن طال به العمر، وهو فى سن يفوق الخامسة والثمانين، ولكى تكتمل به صورة بلد شاخ دوره، ورئيس مُوغِل فى الشيخوخة.. كانت أمريكا تفتخر بأنها بلد مؤسسات راسخة، واليوم تضعُف المؤسسات، وتضطرب طرق عملها، وتترك وراءها فجوات، لا يملؤها سوى قبض الريح، وشخصيات شاخت على كراسيها.. انتهى.
ولعل الحديث عن حكم الشيخوخة فى الداخل الأمريكى، بات متجاوزًا لمنصب الرئاسة، وبقية المقاعد السياسية المتقدمة، إلى الإمبراطورية الأمريكية نفسها.. إذ يرتبط حديث التقدم الديموجرافى جذريًا، بالنفوذ الدولى لأى دولة، والقدرة التنافسية مع الآخرين، والوضع الاقتصادى الريادى أو التدهور، وجميعها عوامل تجعل من سؤال العمر فى دولة قُطبية عظمى، أمرًا مهمًا وحيويًا، بات يُزعج الأمريكيين، سيما بعد أن كانت الولايات المتحدة فى عقد التسعينيات، والعقد الأول من القرن الحادى والعشرين، قد حازت ميزة الخصوبة، مقارنة بالدول النظيرة فى العالم الغنى، غير أن هذه الميزة بدأت فى التلاشى منذ الأزمة المالية البنكية الأمريكية عام 2008.
مع بداية العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين، بدت مشكلة الشيخوخة تؤرق العالم، حيث فاق عدد الذين تجاوزوا الستين من عمرهم، نحو سبعمائة مليون نسمة، هذا الرقم مرشح للوصول إلى مليارى نسمة بحلول عام 2050، أى خلال أقل من ثلاثين عامًا من اليوم، ما يجعل عدد المسنين أكثر من عدد الأطفال لأول مرة فى تاريخ البشرية، ما ينبئ بأن العالم يتجه نحو الشيخوخة.. وتطرح ظاهرة (الكهولة) نفسها، كأحد أهم التحديات التى تواجه الحكومات فى القرن الحادى والعشرين، فى البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء.. فهل يمكننا إرجاع تقدم عُمر السكان إلى توافر الرعاية الطبية، وجودة الحياة، والقدرة على مواجهة الأوبئة والأمراض المتوطنة، بل والقضاء عليها؟.. يمكن بالفعل أن يكون كل هذا صحيحًا، غير أن هناك أمرًا آخر لا بد أن يؤخذ فى الحسبان، وهو تناقص النمو السكانى، وتراجع معدلات الزيادة الديموجرافية فى كثير من بقاع العالم، من أوروبا إلى أمريكا، وهو أمر بدأ ينسحب اليوم على الصين، كما تفيد أحدث القراءات الواردة من هناك.
ونأتى إلى السؤال التالى: هل كانت علامات الشيخوخة بادية على أمريكا، قبل منافسة بايدن وترامب، وتقدم أعمار رجالات الكونجرس وما نحو ذلك؟.
الشاهد أن ذلك كذلك، والدليل، التقرير المعنون (المسنون الأمريكيون فى 2008) American seniors in 2008، أى قبل عقد ونصف العقد من الزمن، وقد أعده باحثون لصالح حكومة الولايات المتحدة، الذى تنبأ بتضاعف عدد المسنين الأمريكيين الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة فى عام 2030، إلى 71.5 مليون نسمة.. فى أواخر ديسمبر 2021، كانت الولايات المتحدة، تشهد تراجع النمو السكانى، إلى 1.%، وهى أقل نسبة نمو سكانى، منذ تأسيس الولايات المتحدة بشكلها الحالى، والعهدة هنا على صحيفة (نيويورك تايمز).. والحقيقة أن تباطؤ النمو السكانى فى الداخل الأمريكي، سابق لانتشار الوباء الفتاك الأخير، كوفيد ـ 19، وهذا ما تؤكده، كريستى وايلدر، الديموجرافية بقسم السكان فى مكتب الإحصاء، إذ قالت (إن النمو السكانى الأمريكى يتباطأ منذ سنوات، فيما نسبة الشيخوخة تتقدم فى البلاد).. أما البروفيسور كينيث جونسون، وهو خبير ديموجرافى فى جامعة نيوهامبشير، فيقطع بأن النمو السكانى الأمريكى، سيظل منخفضًا، لأن شيخوخة السكان من المحتمل أن تُزيد معدلات الوفيات، ولأن الاستقرار فى المواليد يبدو مستمرًا.
هناك لا شك جزئية سوسيولوجية فى هذا الحديث، ترتبط بمناخات الحرية المُنفلتة، وتفضيل الشباب الحياة الحرة، من غير التزام الزواج والإنجاب، وهى ظاهرة تعرفها أوروبا أكثر من أمريكا، ما يجعل الوضع الديموجرافى الأمريكى غير مُبشر.. ولعل التساؤل الواجب طرحه: لماذا يخشى كثير من الثقات الأمريكيين، تراجع معدلات النمو السكانى فى بلادهم؟.. عند الكاتب الأمريكى، هال براندز، فى Bloomberg، أنه على رغم أن أمريكا تحصر تركيزها فى الإنفاق العسكرى وإجمالى الناتج الداخلى، باعتبارهما مؤشرين على وضع أمريكا فى مواجهة الصين وروسيا، تظل الحقيقة أن الصورة الديموجرافية العامة للولايات المتحدة هى الأهم، ذلك أنه ما دامت البلاد قادرة على إنجاب أبناء، وهم أصل قوتها، ستظل قادرة على لعب الدور المنوط بها عالميًا.. براندز يقطع بأن وجود معدل سكان مُتنامٍ، نسبة كبيرة منهم تنتمى إلى سن العمل، أمر يُشكل مصدرًا لقوة عسكرية، ولا يخشى معه من زيادة سكانية فى القوة القطبية المناوئة، لا سيما الصين فى العقود المقبلة.. لكن، ما الذى يمكن أن يُحدِق بالولايات المتحدة، حال تغيرت تلك الحقائق السكانية، وتفاقمت نسب زيادة الشيوخ عن الشباب، والكهول غير القادرين على العمل، عن السواعد الفتية، التى لا تنفك تقيم بنيان أمريكا القوية مالئة الدنيا وشاغلة الناس؟.
ترتبط الأزمنة الإمبراطورية بمدى القوة والقدرة الاقتصادية للدول والممالك، وهذا ناموس طبيعى، جرت به المقادير منذ آلاف السنين.. ذلك أنه، كلما زاد ثراء شعب ما، وبلغ ناتجه الإجمالى حدًا يفوق احتياجات مواطنيه فى الداخل، فإن القائمين عليه يسرعون تلقائيًا إلى الخارج، ومن هنا تنشأ الهيمنة الاقتصادية أول الأمر والسياسية تاليًا، وكلاهما يقوم فى ظل حماية عسكرية.. ومع مضى السنين، تُصاب الإمبراطوريات بفيروس الاهتراء من الداخل، وتبدأ فى فقدان مقوماتها الاقتصادية، ثم تُعانى من حالة انكماش وعدم مقدرة على الإنفاق على مستعمراتها فى الخارج.. الاقتصاد إذًا يرتبط بمستقبل الدول والقوى العظمى، قبل أن تفعل السياسة فعلها.. ومن هنا، يمكن الربط بين حالة الشيخوخة، ومستقبل الولايات المتحدة، على الأصعدة كافة، وليس على صعيد واحد.
البداية هنا تكون عادة من عند نقص الأيدى العاملة، ما يقود إلى انخفاض فى الإنتاجية، وارتفاع تكاليف العمالة، وتأخر توسع الأعمال التجارية، وكذلك انخفاض القدرة على التنافس مع القوى الاقتصادية الأخرى حول العالم.. وفى حال الولايات المتحدة، ستكون الصين والهند الدول المرشحة للتنافس.. عطفًا على ذلك، فإن نقص الأيدى العاملة يمكن أن يقود إلى استجلاب مزيد من الهجرات ذات الأيدى العاملة الرخيصة، غير أن هذا التوجه سيؤثر فى حضور الرجل الأبيض فى البلاد، ويُصيبه عدديًا، ومن هنا تتحقق مخاوف (الواسب) The Wasp الأمريكى من الاضمحلال.. و(الواسب) مصطلح له عدة معانٍ، فى علم الاجتماع، يُعبِّر عن جزء من سكان الولايات المتحدة، الذين أسسوا الأمة الأمريكية، وجعلوا تراثهم وثقافتهم ثقافة وتراث الولايات المتحدة، وقد أصبح المصطلح اليوم أكثر شمولية.. لكثير من الناس، (الواسب) يشمل الآن معظم السكان البيض، ممن ليسوا أعضاءً فى أى مجموعة أقلية.
الجزئية الثانية التى تترتب على النقص المقبل فى عدد السكان الأمريكيين، مرتبطة بارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، إذ من البديهى القول، إنه كلما ارتفعت أعداد المسنين، زادت الحاجة إلى تعزيز قطاع الرعاية الطبية، ما يقتطع كثيرًا من الناتج المحلى لصالح الإنفاق الذى لا يعود بمردود مقابل، وهو ما يؤثر حُكمًا فى ميزانية بقية قطاعات المجتمع الأمريكى.. ويتصاعد القلق المجتمعى، حين تتزايد نسبة المُسنين، مقابل نسبة الشباب فى أى دولة حول العالم، وذلك باختصار من جراء ارتفاع نسب الضرائب على صغيرى العمر، لتوفير الرعاية للكبار، التى عادة ما تكون مرتفعة التكاليف، بجانب المعاشات التقاعدية، وهو أمر مُزعج للغاية بالنسبة إلى الدول الصناعية المتقدمة بنوع خاص.
●●●
المعضلة التى تواجهها الولايات المتحدة فى اللحظة الراهنة، ربما تتجاوز مجرد المرحلة العمرية للرئيس، أو الحاجة إلى تجديد الدماء، وإنما تتجسد فى عدم قدرتها على تحديث مبادئها بما يلائم المرحلة الدولية الراهنة، والتى باتت مختلفة سياسيًا واقتصاديًا ودوليًا عما سبقها من مراحل، وهو ما يفسر حالة الانقسام فى الداخل الأمريكى، حيث تبدو الأوضاع الاقتصادية فى الوقت الراهن مختلفة إذا ما قورنت بعدة عقود ماضية، بينما كانت الصراعات الدولية شبه محسومة لواشنطن على حساب خصومها، بسبب فارق الإمكانات الكبير على جميع الأصعدة، وبالتالى يبقى الاستمرار على نفس النهج الماضى فى الوقت الراهن، ضربًا من الهراء السياسى، وبالتالى تعميم مبادئ التجارة الحرة، وقبول المهاجرين، والاقتصاد المفتوح، والدعم غير المشروط للحلفاء فى أوروبا، وكذلك التدخلات العسكرية المباشرة، بمثابة سياسات غير مقبولة من قِبل المواطن، رغم جذورها العميقة فى السياسة الأمريكية، وهو ما مثل انعكاسًا لحالة الرفض المُطلق من قِبل مؤيدى ترامب لفكرة خسارته فى الانتخابات الماضية، رغم حالة السلاسة التى هيمنت على التغيير فى مقعد الرئيس، لقرون طويلة، دون أى مشاهد عنف أو حتى احتجاجات فى الشوارع. 
وهنا يمكننا القول بأن الحديث المتواتر عن (شيخوخة) الرئيس، فى الولايات المتحدة، ربما تحمل فى طياتها، ليس مجرد عجز المرشحين للمنصب عن تقييم مدى لياقتهم للوفاء بالتزاماتهم فى مثل هذا المنصب، وإنما عجز الإدارات المتعاقبة عن مجاراة الواقع، عبر الإصرار على التلويح بمبادئ الأربعينيات، والتى عززها الانتصار فى الحرب الباردة فى التسعينيات من القرن الماضى، فى ظل مرحلة باتت تحمل إطارًا تعدديًا، مع صعود العديد من القوى الدولية، التى يمكنها مزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولى، بينما شهدت اختلافًا كبيرًا على مستوى الداخل الأمريكى، مع تراجع الأوضاع الاقتصادية، ولو نسبيًا، ومعاناة المواطن، جراء السياسات التى تبنتها الإدارات المتعاقبة، لخدمة أهدافها الدولية.
شيخوخة المبادئ الأمريكية، هى من النقاط التى يجب التوقف أمامها كثيرًا.. فعندما يطلق الرئيس، جو بايدن، عبارة (الإرهاب المحلى)، على الاحتجاجات التى شهدتها الولايات المتحدة، عند خسارة منافسه الرئاسى فى الانتخابات الماضية، دونالد ترامب، والتى انتهت بمشهد اقتحام الكونجرس، تزامنًا مع التصديق على النتائج فى السادس من يناير 2020، فى سابقة ربما لم تحدث من قبل فى تاريخ الديمقراطية الأمريكية، لتكون بمثابة بقعة سوداء فى الثوب الأبيض، الذى طالما سعت الإدارات المتلاحقة، إلى الترويج له لعقود طويلة من الزمن، لتتوالى بعدها السقطات، وأبرزها التحرك نحو عزل الرئيس السابق ترامب، بعدما ترك منصبه، ليكون الإجراء، فى حد ذاته، سابقة أخرى، رغم فشله، على اعتباره محاولة لمنعه من ممارسة حقوقه السياسية، ليكون ضربة أخرى، وربما لن تكون الأخيرة، لثوابت واشنطن.
وعلى الرغم من أن المشاهد التى لخصت الوضع الأمريكى خلال السنوات الأربع الماضية، تقتصر على المستجدات فى الداخل، إلا أن ثمة حالة من الارتباك، باتت تعانيها الدبلوماسية الأمريكية، فى الأيام الأولى لإدارة بايدن، إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن ثوابت واشنطن، وعلى رأسها الديمقراطية، والتى تُعد حرية التعبير، وما تحمله فى طياتها من الحق فى التظاهر والاحتجاج، إحدى دعائمها، هى فى جوهرها إحدى أهم الركائز، التى طالما انطلقت منها الإدارات المتعاقبة، لصياغة سياساتهم الخارجية.. لتجد الإدارة الجديدة نفسها أمام مأزق حقيقى، تحتاج معالجته إلى إعادة صياغة المفاهيم التى طالما بشّرت بها، لتضعها على قمة النظام الدولى.
فعندما تصف إدارة بايدن الاحتجاجات، وإن شابها العنف، بـ(الإرهاب)، ربما تجد نفسها أمام معضلة (الازدواجية)، عندما يهرع مسئولوها، لوصف المُحتجين فى دول أخرى، تضعهم واشنطن، فى قائمة (الخصوم)، بـ(أيقونات) الحرية أو (نشطاء) الديمقراطية، وهو ما يسهم بصورة كبيرة فى تفريغ المبادئ الأمريكية من جوهرها، حيث ستتجلى حالة من التناقض الصارخ بين خطاب الداخل للتعامل مع أنصار المعارضة السياسية، من جانب، والدبلوماسية التى تتبناها أمريكا مع محيطها الدولى من جانب أخر.
ولعل الازدواجية ليست بـ(العِلة) الجديدة التى تعانيها واشنطن، إلا أن أعراضها كانت متوارية خلف الاستقرار السياسى فى الداخل، وما يمكننا تسميته بـ(هشاشة) المعارضة، فى إطار صفقة رسمها آباء أمريكا الأولون، والتى قامت فى الأساس على تداول شبه منتظم للسلطة بين الحزبين الرئيسيين، الجمهورى والديمقراطى، تبادلا فيها مقاعد الرئاسة والكونجرس، بما يضمن قدرًا من التوازن السياسى، لا تسمح لفريق بالاستئثار المُطلق بالسلطة، وهو الأمر الذى شهد اختلافًا جذريًا فى السنوات الأخيرة، مع وصول ترامب للرئاسة، فى ظل الحالة التى صنعها، وخرج من خلالها عن الإطار التقليدى للثوابت السياسية الأمريكية، ليجد دعمًا بعيدًا عن القوالب الحزبية، عبر خروج قطاع كبير من الشارع غير المسيس لتأييده، بعيدًا عن الحسابات التقليدية.
وهنا يصبح الموقف الأمريكى من الاحتجاجات فى دول الخصوم، على غرار ما حدث فى روسيا لدعم المعارض ألكسندر نافالنى، على سبيل المثال، مثارًا للجدل، حيث أضفى خطاب الداخل فى التعامل مع الاحتجاجات المؤيدة لترامب، صفة (الإرهاب) للمحتجين الذين يسعون لإثارة الفوضى، لتلتصق بمفهوم (الديمقراطية) التقليدى الذى طالما روجت له واشنطن، وهنا يصبح الرهان على مواقف أمريكية قوية لدعم النشطاء، يبدو خاسرًا، حيث سيصبح دعم واشنطن مُقيدًا بدرجة كبيرة فى ظل مستجدات الداخل.. والأمر نفسه ينطبق على العديد من المواقف الأخرى، فى الشرق الأوسط، فيما يتعلق بخطط بايدن للتقارب مع إيران، وموقفه من أذرعها الإرهابية، خصوصًا بعدما قررت الإدارة رفع ميليشيا الحوثى من قائمة التنظيمات الإرهابية، برغم ما ارتكبه من انتهاكات صارخة، وتهديدات كبيرة لدول الجوار وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، عبر إطلاق طائراتها المُسيرة على المدنيين، ثم عادت نفس الإدارة لإدراج الحوثيين على قوائم الإرهاب، مرة أخرى، لأنها تهدد إسرائيل هذه المرة.. لتتجلى صورة أخرى للازدواجية، بين المفاهيم التى طالما استهلكتها الإدارات المتعاقبة لتنفيذ رؤيتها فى العديد من مناطق العالم.
مفاهيم واشنطن تبدو فى حاجة إلى إعادة صياغة فى المرحلة المقبلة، خصوصًا ما يتعلق بالديمقراطية والإرهاب، فى ظل اختلاطهما غير المسبوق فى الداخل الأمريكى، عندما وصفت إدارة بايدن أحد مظاهر الديمقراطية، بحسب المنظور التقليدى لأمريكا (الاحتجاجات) بـ(الإرهاب المحلى)، لتخلق ما يمكننا تسميته بـ(إرهاب الديمقراطية)، فى انعكاس صريح لشيخوخة المبادئ الأمريكية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.