رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى مديح التجسس

التجسس‭ ‬هو‭ ‬نشاط‭ ‬غير‭ ‬قانونى‭ ‬يتضمن‭ ‬جمع‭ ‬معلومات‭ ‬سرية‭ ‬أو‭ ‬حساسة‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬أو‭ ‬دولة‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مشروعة،‭ ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬إلحاق‭ ‬الضرر‭ ‬أو‭ ‬تحقيق‭ ‬ميزة‭ ‬غير‭ ‬عادلة‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬معرفة‭ ‬أسرار‭ ‬الناس‭ ‬متعة،‭ ‬ولكن‭ ‬فى‭ ‬الحدود‭ ‬التى‭ ‬نظمتها‭ ‬القواعد‭ ‬العامة‭ ‬والتقاليد‭ ‬التى‭ ‬ورثناها،‭ ‬ولا‭ ‬تتم‭ ‬معرفة‭ ‬الأسرار‭ ‬إلا‭ ‬بطريق‭ ‬الخلسة‭ ‬أو‭ ‬اتباع‭ ‬طرق‭ ‬التجسس‭ ‬والتنصت،‭ ‬فأنت‭ ‬عندما‭ ‬تفتح‭ ‬هاتف‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬عائلتك،‭ ‬أو‭ ‬تقوم‭ ‬بالتفتيش‭ ‬ومراقبة‭ ‬أحاديثه‭ ‬خلسة‭ ‬وبدون‭ ‬إذن‭ ‬صاحبه،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬زوجًا‭ ‬أو‭ ‬زوجة،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬درجة‭ ‬القرابة‭ ‬ومهما‭ ‬كان‭ ‬الدافع‭ ‬أو‭ ‬الباعث‭ ‬لتلك‭ ‬الفكرة،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬قمت‭ ‬به‭ ‬يعد‭ ‬جريمة‭ ‬معلوماتية‭ ‬مكتملة،‭ ‬وتصل‭ ‬عقوبة‭ ‬من‭ ‬يقوم‭ ‬بذلك‭ ‬السجن‭ ‬مدة‭ ‬عام‭ ‬كحد‭ ‬أقصى‭ ‬والغرامة‭ ‬500‭ ‬ألف‭ ‬جنيه‭.‬

ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أنها‭ ‬قضية‭ ‬تتعلق‭ ‬بحرية‭ ‬المواطنين،‭ ‬وحقهم‭ ‬فى‭ ‬الإفضاء‭ ‬والحديث‭ ‬إلى‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬وتبادل‭ ‬الأفكار‭ ‬دون‭ ‬حرج‭ ‬أو‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬تنصت‭ ‬الغير،‭ ‬عبر‭ ‬أجهزة‭ ‬الاتصالات‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬تنصت‭ ‬أو‭ ‬كشف‭ ‬لأسرار‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬إفشاءها‭.‬‮ ‬

عندنا‭ ‬نظم‭ ‬القانون‭ ‬حق‭ ‬الدولة‭ ‬فى‭ ‬التجسس‭ ‬على‭ ‬رعاياها،‭ ‬بموجب‭ ‬مذكرة‭ ‬تقدمها‭ ‬الأجهزة‭ ‬المختصة‭ ‬إلى‭ ‬القضاء،‭ ‬وبعدها‭ ‬توضع‭ ‬أجهزة‭ ‬الاتصالات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالفرد‭ ‬المقصود‭ ‬تحت‭ ‬سمع‭ ‬وتصرف‭ ‬تلك‭ ‬الأجهزة‭ ‬لمدة‭ ‬محددة‭.‬‮ ‬

فى‭ ‬مصر‭ ‬تعد‭ ‬قضية‭ ‬التنصت‭ ‬على‭ ‬المواطنين‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التى‭ ‬شملها‭ ‬الدستور‭ ‬والقانون‭ ‬المصرى‭ ‬بعنايته،‭ ‬حيث‭ ‬تنص‭ ‬المادة‭ ‬45‭ ‬من‭ ‬الدستور‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬للمراسلات‭ ‬البريدية‭ ‬والبرقية‭ ‬والمحادثات‭ ‬التليفونية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬حرمة،‭ ‬وسريتها‭ ‬مكفولة،‭ ‬ولا‭ ‬تجوز‭ ‬مصادرتها‭ ‬أو‭ ‬الاطلاع‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬رقابتها‭ ‬إلا‭ ‬بأمر‭ ‬قضائى‭ ‬مسبب‭ ‬ولمدة‭ ‬محددة‭ ‬ووفقًا‭ ‬لأحكام‭ ‬القانون‭.‬‮ ‬

كما‭ ‬وصفت‭ ‬محكمة‭ ‬النقض‭ ‬المصرية‭ ‬مراقبة‭ ‬الاتصالات‭ ‬والمراسلات‭ ‬بأنها‭: ‬عمل‭ ‬مرذول،‭ ‬ويعتبر‭ ‬انتهاكًا‭ ‬لحرمة‭ ‬الحياة‭ ‬الخاصة،‭ ‬وانتقاصًا‭ ‬من‭ ‬الأصل‭ ‬فى‭ ‬الحرية‭ ‬الشخصية‭ ‬التى‭ ‬سجلها‭ ‬الدستور‭ ‬فى‭ ‬المادة‭ ‬41‭ ‬منه‭ ‬باعتبارها‭ ‬حقًا‭ ‬طبيعيًا‭ ‬للإنسان‭.‬‮ ‬

كما‭ ‬يشترط‭ ‬قانون‭ ‬الإجراءات‭ ‬الجنائية‭ ‬للقيام‭ ‬بمصادرة‭ ‬أو‭ ‬مراقبة‭ ‬أو‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬الاتصالات‭ ‬والمراسلات‭ ‬أو‭ ‬تسجيل‭ ‬أحاديث‭ ‬جرت‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬خاص‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬جناية‭ ‬أو‭ ‬جنحة‭ ‬معاقب‭ ‬عليها‭ ‬بالحبس‭ ‬لمدة‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر،‭ ‬وأن‭ ‬تترجح‭ ‬نسبتها‭ ‬إلى‭ ‬متهم‭ ‬معين،‭ ‬وأن‭ ‬تتوافر‭ ‬دلائل‭ ‬جادة،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬لهذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬فائدة‭ ‬فى‭ ‬ظهور‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وأن‭ ‬تستصدر‭ ‬النيابة‭ ‬إذنًا‭ ‬من‭ ‬القاضى‭ ‬الجزئى،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬الإذن‭ ‬مسببًا‭ ‬ولمدة‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬ثلاثين‭ ‬يومًا‭ ‬قابلة‭ ‬للتجديد‭ ‬لمدة‭ ‬أو‭ ‬مدد‭ ‬أخرى‭ ‬مماثلة‭.‬

هذا،‭ ‬وينظم‭ ‬القانون‭ ‬رقم‭ ‬10‭ ‬لسنة‭ ‬2003‭ ‬مرفق‭ ‬الاتصالات‭.‬‮ ‬

كنا‭ ‬نظن‭ ‬أن‭ ‬عصر‭ ‬التنصت‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬أعلن‭ ‬الرئيس‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬فى‭ ‬15‭ ‬مايو‭ ‬1971‭ ‬عن‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬مراكز‭ ‬القوى،‭ ‬التى‭ ‬قيل‭ ‬وقتها‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬مسئولة‭ ‬عن‭ ‬عمليات‭ ‬التجسس‭ ‬على‭ ‬المصريين،‭ ‬وهو‭ ‬النظام‭ ‬الذى‭ ‬ساد‭ ‬مصر‭ ‬فى‭ ‬فترة‭ ‬الستينيات،‭ ‬وفى‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬أصدر‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬قراره‭ ‬الشهير‭ ‬بإحراق‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الملفات‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تحتفظ‭ ‬بها‭ ‬أجهزة‭ ‬المخابرات،‭ ‬والتى‭ ‬كانت‭ ‬تحتوى‭ ‬على‭ ‬الأسرار‭ ‬الشخصية‭ ‬لبعض‭ ‬الفنانين‭ ‬ورجال‭ ‬السياسة‭ ‬المحيطين‭ ‬بالسادات‭.‬‮ ‬

فقد‭ ‬أدى‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجى‭ ‬فى‭ ‬مجال‭ ‬أجهزة‭ ‬الاتصالات‭ ‬خلال‭ ‬الأربعين‭ ‬عامًا‭ ‬الماضية،‭ ‬إلى‭ ‬تقدم‭ ‬كبير‭ ‬فى‭ ‬عمليات‭ ‬التنصت‭ ‬على‭ ‬الناس،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعروا‭ ‬بذلك‭.‬

الشركات‭ ‬التى‭ ‬تسوق‭ ‬تلك‭ ‬الأجهزة‭ ‬ابتكرت‭ ‬أجيالًا‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأجهزة،‭ ‬ذات‭ ‬إمكانيات‭ ‬عالية‭ ‬فى‭ ‬التقاط‭ ‬الأصوات‭ ‬والصور‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬وبدقة‭ ‬متناهية،‭ ‬وقد‭ ‬تنوعت‭ ‬أشكالها‭ ‬من‭ ‬نظارات‭ ‬تسجيل‭ ‬الأصوات،‭ ‬إلى‭ ‬أجهزة‭ ‬التلسكوبات‭ ‬المتقدمة‭ ‬التى‭ ‬تقرب‭ ‬الأجسام‭ ‬وتصورها‭ ‬فى‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬مسافات‭ ‬طويلة‭. ‬وهناك‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬المواقع‭ ‬الآن‭ ‬التى‭ ‬تعرض‭ ‬برامج‭ ‬وطرقًا‭ ‬للتجسس‭ ‬على‭ ‬التليفونات‭ ‬المحمولة‭ ‬للآخرين‭.‬‮ ‬

عندما‭ ‬ظهرت‭ ‬شركات‭ ‬المحمول‭ ‬فى‭ ‬مصر،‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬كل‭ ‬شركة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الشركات،‭ ‬أن‭ ‬تراقب‭ ‬مكالمات‭ ‬خطوطها‭ ‬التى‭ ‬تبيعها‭ ‬للعملاء،‭ ‬ولها‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬إمكانية‭ ‬تسجيل‭ ‬تلك‭ ‬المكالمات،‭ ‬وبالطبع‭ ‬يمكن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تفريغ‭ ‬صوتى‭ ‬كامل‭ ‬لتلك‭ ‬المكالمات‭.‬‮ ‬

وقد‭ ‬اعترف‭ ‬اللواء‭ ‬حبيب‭ ‬العادلى‭ ‬وزير‭ ‬الداخلية‭ ‬الأخير‭ ‬فى‭ ‬نظام‭ ‬مبارك‭ ‬صراحة،‭ ‬بوجود‭ ‬رقابة‭ ‬على‭ ‬التليفونات‭ ‬عندما‭ ‬سئل‭ ‬عنها‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬البرامج‭ ‬وقال‭ ‬بالنص‭ ‬‮«‬اللى‭ ‬يخاف‭ ‬ميتكلمش‮»‬‭.‬‮ ‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬يليق‭ ‬بوزير‭ ‬داخلية‭ ‬أن‭ ‬يصرح‭ ‬بذلك‭ ‬علنًا‭ ‬لتخويف‭ ‬الناس‭.‬‮ ‬

ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬أجهزة‭ ‬الأمن‭ ‬متابعة‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬أعداء‭ ‬الوطن‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬مكان‭ ‬وبأى‭ ‬صورة،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬أى‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬تمتلك‭ ‬أجهزة‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تتنصت‭ ‬على‭ ‬الناس‭.‬‮ ‬

شركات‭ ‬الاتصالات‭ ‬استحوذت‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الشركات‭ ‬التى‭ ‬تقوم‭ ‬بتوريد‭ ‬خدمات‭ ‬الإنترنت‭ ‬للمشتركين،‭ ‬وبالتالى‭ ‬فإن‭ ‬فى‭ ‬مقدورها‭ ‬متابعة‭ ‬ما‭ ‬يجرى‭ ‬على‭ ‬شبكاتها،‭ ‬والوقوف‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬فى‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعى‭ ‬فى‭ ‬أجهزة‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمشتركين‭.‬‮ ‬

نخلص‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أى‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬فى‭ ‬شركات‭ ‬المصرية‭ ‬للاتصالات‭ ‬وشركات‭ ‬المحمول‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يتنصت‭ ‬على‭ ‬مكالمات‭ ‬الناس‭. ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬سماعها،‭ ‬دون‭ ‬مسوغ‭ ‬قانونى‭ ‬لمجرد‭ ‬الفضول،‭ ‬أو‭ ‬حب‭ ‬الاستطلاع‭.‬‮ ‬

وأرى‭ ‬أن‭ ‬توضع‭ ‬أجهزة‭ ‬التنصت‭ ‬فى‭ ‬الجهات‭ ‬التى‭ ‬تمتلكها‭ ‬شركات‭ ‬المحمول،‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬واحد،‭ ‬تحت‭ ‬الرقابة‭ ‬القانونية‭ ‬الصارمة‭ ‬للأجهزة‭ ‬القضائية،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يتمكن‭ ‬أى‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬الأسرار‭ ‬الشخصية‭ ‬فى‭ ‬تليفونات‭ ‬المصريين‭ ‬ومكالماتهم‭.‬