«الحرية».. صوت أنجيلا ميركل العاقل
لمدة ستة عشر عامًا، كانت أنجيلا ميركل، مستشارة لألمانيا وفى طليعة السياسة الأوروبية والدولية.. فى مذكراتها، «الحرية» FREEDOM، أو LIBERTATE بالألمانية، التى تصدر غدًا الثلاثاء 26 نوفمبر الحالى، تستعيد حياتها فى دولتين ألمانيتين- ألمانيا الشرقية حتى عام 1990، ثم ألمانيا الموحدة بعد ذلك.. كيف ارتقت، قادمة من الشرق، إلى قمة الاتحاد الديمقراطى المسيحى، لتصبح أول امرأة تتولى منصب المستشارة؟.. وكيف أصبحت بعد ذلك، واحدة من أقوى رؤساء الحكومات فى العالم الغربى؟.. وما الذى وجهها؟.. تروى أنجيلا ميركل الحياة اليومية فى مكتب المستشارية الألمانية، وكذلك الأيام والليالى الدرامية، عندما اتخذت قرارات بعيدة المدى فى برلين وبروكسل وخارجها.. تتتبع خطوط التغيير الطويلة فى التعاون الدولى، وتكشف عن الضغوط التى يواجهها الساسة، عند البحث عن حلول للمشاكل المعقدة فى عالم مُعوّْلم.. هنا، تأخذنا وراء كواليس السياسة الدولية، موضحة أهمية المحادثات الشخصية، والأهم من ذلك، حدودها.. وفى تأملاتها للسياسة فى زمن المواجهة والانقسام المتزايد، تقدم مذكرات أنجيلا ميركل رؤية فريدة من نوعها فى العمل الداخلى للسلطة، وهى نداء حازم وفى الوقت المناسب من أجل الحرية.
تتحدث بشكل أكثر حميمية من أى وقت مضى، عن طفولتها وشبابها، ودراستها فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وعام 1989 الدرامى، عندما سقط جدار برلين وبدأت حياتها السياسية.. كما تشارك ذكريات ورؤى من اجتماعاتها ومحادثاتها مع أقوى الشخصيات فى العالم.. ومن خلال مناقشة نقاط التحول الوطنية والأوروبية والدولية المهمة، توضح كيف تم اتخاذ القرارات التى شكَّلت عصرنا.. وفى العموم، يقدم كتابها نظرة ثاقبة فريدة من نوعها للعمل الداخلى للسلطة، وهو نداء مقنع من أجل الحرية.
تصف المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، تعاملاتها مع زعماء العالم، مثل الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، ودونالد ترامب، خلال فترة حكمها التى استمرت ستة عشر عامًا، فى مذكراتها الجديدة التى تأتى فى وقت يتعرض فيه إرثها لانتقادات فى ضوء أزمات اليوم.. وفى مقتطفات نُشرت قبل صدور الكتاب غدًا- ومن المقرر أن تُطلقه فى الولايات المتحدة بعد أسبوع، فى فعالية بواشنطن مع الرئيس السابق، باراك أوباما، الذى أقامت معه علاقة سياسية وثيقة- تُبرر ميركل قرارها برفض عرض عضوية حلف شمال الأطلسى المستقبلية على أوكرانيا، فى قمة التحالف الدفاعى عام 2008 فى بوخارست، وهو ما يقول منتقدوها إنه ربما يكون قد ردع روسيا عن غزو أوكرانيا.. وحتى البيان الصادر فى القمة، بأن أوكرانيا وجورجيا ستنضمان فى نهاية المطاف إلى حلف شمال الأطلسى، كان بمثابة «صرخة معركة» لبوتين، حسبما كتبت ميركل، التى تولت منصبها لأربع فترات.. وكتبت فى المقتطفات، التى نشرتها الصحيفة الألمانية الأسبوعية DIE ZEIT، أن بوتين قال لها لاحقًا: «لن تكونى مستشارًا إلى الأبد. وبعد ذلك سيصبحون أعضاء فى الناتو.. وأريد منع ذلك».
ويُعد خليفة أوباما، دونالد ترامب، الذى فاز فى وقت سابق من هذا الشهر بولاية أخرى فى منصبه، أحد الرجال الذين استهدفتهم أول زعيمة لألمانيا فى الكتاب.. وقد طلبت ميركل النصيحة من بابا الفاتيكان، بشأن التعامل مع ترامب، عندما انتُخِبَ لأول مرة رئيسًا للولايات المتحدة، على أمل إيجاد طرق لإقناع الرجل- الذى رأت أنه يتمتع بعقلية الفائز أو الخاسر كمُطور عقارى- بعدم الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، كما كتبت: «لقد كان يرى كل شىء من منظور المُطور العقارى، الذى كان عليه قبل دخوله عالم السياسة.. كان كل قطعة أرض لا يمكن بيعها إلا مرة واحدة، وإذا لم يحصل عليها، كان شخص آخر يحصل عليها.. هكذا كان يرى العالم».. وكتبت ميركل أنها: «عندما سألت البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، بشكل عام عن النصيحة بشأن التعامل مع الأشخاص ذوى وجهات النظر المختلفة اختلافًا جذريًا»، فهم البابا على الفور، أنها كانت تشير إلى ترامب، ورغبته فى الانسحاب من اتفاقيات المناخ، وقال لميركل، بحسب روايتها، «انحنى، انحنى، انحنى، ولكن تأكدى من عدم كسره».
خلال رئاسة ترامب، أدت استحضارات ميركل المتكررة، لقيم مثل الحرية وحقوق الإنسان، إلى أن أطلق عليها البعض لقب «الزعيمة الحقيقية للعالم الحر»، وهو اللقب الذى كان مُخصصًا تقليديًا لرؤساء الولايات المتحدة.. وقال تورستن أوبلاند، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جينا: «كانت شخصًا يتمتع بالنزاهة وعدم الغرور، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لسياسى».. ويعبر الكتاب، الذى تم تأليفه قبل إعادة انتخاب ترامب لرئاسة الولايات المتحدة ثانية، عن «الأمل الصادق» فى أن تتمكن نائبة الرئيس، كامالا هاريس، من هزيمة منافسها ترامب.
خلال فترة ولايتها الأربع المتتالية، قادت ميركل ألمانيا وأوروبا عبر الأزمة المالية العالمية، وأزمة الديون فى منطقة اليورو، وجائحة Covid-19، ولكنها واجهت منذ ذلك الحين، انتقادات بسبب السماح لألمانيا بأن تصبح أكثر اعتمادًا على الغاز الروسى الرخيص والتجارة الصينية، حتى بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم بالقوة، وتحذيرات الصناعة من الاعتماد المفرط على الصين.. ويُلقى المنتقدون أيضًا باللوم، فى صعود اليمين المتطرف وارتفاع تكاليف الطاقة جزئيًا، على قراراتها بفتح حدود ألمانيا أمام اللاجئين، والتخلص التدريجى من الطاقة النووية.. إنها كانت تفتقر إلى الرؤية، إذ فشلت فى تنفيذ الإصلاحات الضرورية لضمان القوة المستقبلية لأكبر اقتصاد فى أوروبا، والذى يعانى الآن من أزمة فى نموذجه الاقتصادى، كما يقولون.. إلا أن مارسيل ديرسوس، من معهد السياسة الأمنية بجامعة كيل، يؤكد أنه: «خلال فترة ولايتها، كانت ميركل تُعتبر على نطاق واسع، سياسية فعالة للغاية وشخصية موثوقة.. منذ أن تركت السلطة، أصبح العديد من الألمان ينظرون إلى إرثها بقدر أعظم من الانتقاد.. إما لأن سياساتها يُنظَر إليها باعتبارها فاشلة، أو لأن تقاعسها يُنظَر إليه باعتباره حلًا للعديد من المشاكل القائمة فى ألمانيا».
ومع ذلك، فإن العديد من مواقف ميركل، مثل موقفها من روسيا، كانت مواقف ألمانية مُتفق عليها عبر الطيف السياسى.. وكان المستشار الحالى، أولاف شولتز، وزير ماليتها خلال السنوات الأربع الأخيرة من حكمها.. لكن فى السنوات الأخيرة، نأى حزبها المحافظ بنفسه عن زعيمته السابقة، التى لم تُعرب هى نفسها عن ندم يُذكر بشأن تصرفاتها، وظلت بعيدة عن الأضواء إلى حد كبير، منذ تركها منصبها.
●●●
بعد وقتٍ قصير من تنصيب دونالد ترامب رئيسًا فى ولايته الأولى للولايات المتحدة، عام 2017، زارت أنجيلا ميركل، التى كانت آنذاك مستشارة ألمانيا، واشنطن.. وبينما كان العالم يشاهد، جلس الزعيمان أمام مدفأة غير مضاءة، فى انتظار مُحرِج وصامت للمصورين للقيام بعملهم.. بعد سماع المصورين يطالبون بـ«المصافحة، المصافحة»، وهو إلحاح تجاهله ترامب، حاولت السيدة ميركل نفسها، كما تروى فى مذكراتها، أن تنبهه إلى «أنهم يريدون المصافحة»، قالتها بنبرة صامتة مسموعة للصحفيين على بُعد أقدام فقط.. «بمجرد أن قلت ذلك، هززت رأسى رافضة صوت عقلى بأن الرجل يريد إحراجى.. كيف يمكننى أن أنسى أن ترامب يعرف بالضبط التأثير الذى يريد تحقيقه؟».. كانت ميركل واضحة بشأن آرائها حول ترامب، الذى كان يريد أن يكون محبوبًا.. لقد «تحدثنا على مستويين مختلفين.. ترامب على المستوى العاطفى، وأنا على المستوى الواقعى».. وقال إنه لا يشاطرها اقتناعها بأن التعاون يمكن أن يفيد الجميع، «كان يعتقد أن جميع البلدان كانت فى منافسة مع بعضها البعض، حيث كان نجاح أحدهما هو فشل الآخر.. لم يكن يعتقد أن ازدهار الجميع يمكن زيادته من خلال التعاون».. ثم أمطرها بأسئلة حول نشأتها فى ظل نظام دكتاتورى.
وتقول ميركل إن ترامب كان مهتمًا «بخلفيتى الألمانية الشرقية وعلاقتى مع بوتين.. وكان من الواضح أنه مفتون بالرئيس الروسى»، مضيفة: «فى السنوات التى تلت ذلك، كان لدىّ انطباع بأنه كان مفتونًا بالسياسيين ذوى الميول الاستبدادية والديكتاتورية».. وتؤكد أن ترامب أمضى بقية اجتماعهما الأول فى انتقادها.. «زعم ترامب أن ألمانيا دُمِرَت بسبب استقبال هذا العدد الكبير من اللاجئين فى عامى 2015 و2016، واتهمنا بإنفاق القليل جدًا على ميزانية الدفاع، وانتقدنا بسبب ممارساتنا التجارية غير العادلة».. وتشير إلى أن «ترامب رأى كل شىء من خلال عيون قُطب العقارات، ولم يبدو أنه يفهم الاقتصاد العالمى المتشابك، ويشتكى من السيارات الألمانية فى شوارع مدينة نيويورك.. وعندما كان ينتبه إلى حججى، كان ذلك فى الغالب بهدف تحويلها إلى اتهامات جديدة.. ولم يكن حل القضايا التى أثيرت هو هدفه على ما يبدو».
وترفض ميركل بوتين، وتصفه بأنه «شخص كان دائمًا على أهبة الاستعداد حتى لا يُعامل معاملة سيئة، ومستعد دائمًا للعنف، بما فى ذلك ألعاب القوة، مع جعل الآخرين ينتظرون»، فى إشارة إلى خوفها من الذى تلاعب بها بشكل مكشوف، فى أحد الاجتماعات عام 2007، من خلال جلب كلب لابرادور أسود كبير، إلى الغرفة خلال محادثات عُقدت فى سوتشى، روسيا، وهو الذى يعرف خوفها من رُهاب الكلاب، ولكنها تماسكت وتحلت بالثبات الانفعالى، والكلب يحوم حولها ويتشمم أرجلها.. تكتب: «يمكنك أن تجد كل هذا الطفولى والمستهجن، يمكنك أن تهز رأسك فى استهجانه.. لكن هذا لم يجعل روسيا تختفى من الخريطة».. وتقول إن روسيا «بترسانتها النووية موجودة، ولا تزال عاملًا جيوسياسيًا لا غنى عنه».. كان بوتين دائمًا مستعدًا للتعامل مع الأمور بعنف.. وإنه كان يصل متأخرًا بانتظام، بغرض جعل الناس ينتظرون، لكن هذا لم يجعل روسيا أقل أهمية على الساحة العالمية.. وتستمر فى وصفه بأنه منشغل بالولايات المتحدة بشكل خاص، وكأنه يتوق إلى أيام الحرب الباردة.
وهى تكرس بعض الوقت لاجتماع قمة حلف شمال الأطلسى عام 2008 فى بوخارست برومانيا، حيث قال الرئيس جورج دبليو بوش خلافًا لنصيحة مجتمع الاستخبارات الخاص به، إنه يريد توسيع مسار عضوية حلف شمال الأطلسى، يسمى خطة عمل العضوية- ليشمل جورجيا وأوكرانيا.. عارضت ميركل وزملاؤها الأوروبيون الآخرون.. كان جوهر ترددها هو أن القيام بذلك من شأنه أن يدفع بوتين بعيدًا جدًا، وأنه سيرُد بقوة لمنع مثل هذه الخطوة.. فى النهاية، أسفرت التسوية فى وقت متأخر من الليل عن وعد غامض، أن تصبح الدول أعضاء فى حلف شمال الأطلسى، ولكن دون أى مسار أو توقيت واضح.. ورد بوتين بتنظيم حرب فى جورجيا بعد أربعة أشهر، ومحاولة إغلاق الباب أمام عضوية أوكرانيا فى الناتو منذ ذلك الحين.
كتبت ميركل أنها لم ترَ أى طريقة لحماية أوكرانيا أو جورجيا من العدوان الروسى، فى الفترة بين خطة عمل العضوية والعضوية الفعلية، والتى استغرقت خمس سنوات مع مرشحين سابقين من أوروبا الوسطى.. خلال ذلك الوقت، لن يستفيدوا من الضمانات الأمنية لمعاهدة الناتو، «سيكون وهمًا أن نفترض أن وضع خطة العمل لأوكرانيا وجورجيا، كان سيحميهما من عدوان بوتين، وأن هذا الوضع كان من الممكن أن يكون رادعًا، لدرجة أن بوتين كان سيقبل هذه التطورات بشكل سلبى».. ثم تتساءل: «هل كان الناتو سيتدخل بالقوات؟.. وهل كان بإمكانها أن تطلب من البرلمان الألمانى، الذى يجب أن يوافق على جميع عمليات الانتشار العسكرى فى الخارج، التوقيع على المشاركة العسكرية الألمانية فى مثل هذه الحملة عام 2008؟.. إذا كان الأمر كذلك، فما هى العواقب؟».. وتقول إنها كانت سعيدة، «لأن الناتو تجنب معركة علنية كبيرة.. لكن فى الوقت نفسه، أصبح من الواضح أننا فى الناتو ليست لدينا استراتيجية مشتركة للتعامل مع روسيا»، وهو ما يجادل الكثيرون بأنه لا يزال صحيحًا حتى يومنا هذا.. لقد واجهت ميركل انتقادات من الأوكرانيين، بسبب عدم تدخلها فى شئون بلادهم. ولكنها كتبت أن السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبى كان بمثابة إشارة واضحة إلى بوتين بشأن موقف الغرب.. إنها ستكون «لعبًا بالنار» إذا تم تجاهل معارضة روسيا لانضمام كييف إلى التحالف العسكرى.
قالت ميركل إن منح الجمهوريتين السوفيتيتين السابقتين وضع العضوية، كان بمثابة وعد بعضوية حلف شمال الأطلسى، وهو أمر لا يمكن التراجع عنه.. وأن السبب الرئيسى وراء منع عضوية أوكرانيا هو حقيقة أن أسطول البحر الأسود الروسى لا يزال متمركزًا فى شبه جزيرة القرم، شبه الجزيرة التى كانت تحت سيطرة كييف حتى ضمها إلى موسكو عام 2014، «لقد كان من غير المسبوق أن يتورط مرشح لعضوية حلف شمال الأطلسى فى مثل هذا النوع من الهياكل العسكرية الروسية.. وعلاوة على ذلك، لم يؤيد سوى أقلية من السكان الأوكرانيين عضوية حلف شمال الأطلسى فى ذلك الوقت: فقد كانت البلاد منقسمة إلى حد كبير».. وفى حالة جورجيا، تشير مذكراتها إلى «النزاعات الإقليمية غير المحسومة فى منطقتى أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، والتى كانت سببًا كافيًا لرفض محاولة عضوية البلاد».
إن مناقشة وضع خطة عمل العضوية لأوكرانيا وجورجيا دون تحليل الوضع من وجهة نظر بوتين، الذى أوضح أنه يريد استعادة مكانة روسيا كقوة عظمى، سيكون بمثابة «لعب بالنار»، وترى ميركل أن أوكرانيا وجورجيا على مسار الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى، وانتهت قمة بوخارست بتسوية.. فلم يتم منح أوكرانيا وجورجيا وضع عضو فى حلف شمال الأطلسى، لكن التحالف وافق على أن «هاتين الدولتين ستصبحان عضوتان فى حلف شمال الأطلسى»، وهنا تقول ميركل إنها سعيدة لأن التحالف لم ينقسم «كما حدث بسبب حرب العراق.. لم يكن هناك خيار سوى التسوية، حتى ولو كانت هذه التسوية، مثلها كمثل أى تسوية أخرى، تأتى بثمن باهظ».. بالنسبة لجورجيا وأوكرانيا، فإن حرمانهما من وضع عضوية الناتو «أحبط آمالهما»، أما بالنسبة لبوتين، فقد كتبت أن حقيقة أن حلف شمال الأطلسى قدم تعهدًا عامًا بعضوية الدولتين، لا تزال بمثابة «إعلان حرب».
يُعد كتاب «الحرية: مذكرات 1954ـ 2021» FREEDOM، أو LIBERTATE بالألمانية، الذى طال انتظاره فى ألمانيا، بالقصة الداخلية للمرأة الصامتة، التى اعتبرها الكثيرون مدافعة عن نظام ليبرالى عالمى.. عندما صُدم العالم بتصويت بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبى، والانتخابات الأولى لترامب، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، كانت ميركل تنضح بنوع من الهدوء الصبور والعقلانى، الذى كان ينظر إليه على نطاق واسع، على أنه معقل نظام عالمى قديم يمكن التنبؤ به.. ومنذ أن استقالت عام 2021، تغيرت الأمور بشكل جذرى.. غزت روسيا أوكرانيا، مما دفع ألمانيا إلى فطم نفسها عن الغاز الروسى الرخيص.. استيعاب الاقتصاد الألمانى كل من نقص الطاقة الرخيصة وانخفاض سوق التصدير الصينية، فى ظل الركود.. الجسور والطرق والسكك الحديدية فى البلاد، التى تم إهمالها منذ فترة طويلة، تنهار.. وأدت سياسة الهجرة الترحيبية التى تنتهجها ميركل إلى زيادة فى اليمين المتطرف.. كل ذلك أدى إلى تعاسة واسعة النطاق، وإعادة التفكير فى إرث السيدة ميركل.
ومن المتوقع أن يكون كتاب ميركل، الذى يُنشر أيضًا بترجمة إنجليزية، أكثر من مجرد وجهة نظر رائعة من منظور الشخص الأول من مقر قوة أوروبية عظمى.. إنه أيضًا مُبرر للقرارات التى اتخذتها، والتى ساعدت فى قيادة ألمانيا وبقية أوروبا إلى مكان محفوف بالمخاطر.. فى المقتطفات، تكتب ميركل عن شبابها فى ألمانيا الشرقية الشيوعية، والسياسة الأمريكية- أرادت فوز كل من هيلارى كلينتون وكامالا هاريس- والرئيس الروسى فلاديمير بوتين والأحداث التى تُنذر بغزو روسيا لأوكرانيا عام 2022.
●●●
وُلِدَت أنجيلا ميركل فى هامبورج، فى ما كان يُعرف آنذاك بألمانيا الغربية عام 1954، وأخذ عمل والدها العائلة إلى براندنبورج فى ألمانيا الشرقية السابقة عندما كانت طفلة.. فى كتابها.. تصف طفولتها فى ظل الدكتاتورية فى ألمانيا الشرقية، بأنها «حياة على حافة الهاوية باستمرار.. فمهما كانت بداية اليوم خالية من الهموم، فإن كل شىء قد يتغير فى غضون ثوانٍ»، إذا ما خرج أحد من حولها عن الخط.. وتضيف: «لم تكن الدولة تعرف الرحمة»، إن إدراك الخطوط التى لا يمكن تجاوزها كان مهارة مهمة، حتى بالنسبة للطفل.. «لقد ساعدنى نهجى البراجماتى فى هذا الصدد».. تكتب المستشارة السابقة، أنه على الرغم من محاولات جمهورية ألمانيا الديمقراطية السيطرة الكاملة على مواطنيها، إلا أنها حافظت على موقفها المستهتر، وكانت فى النهاية تحتقر «التفاهة، وضيق الأفق، والانعدام للذوق، وغياب روح الدعابة» للنظام الألمانى الشرقى.
فى الانتخابات الفيدرالية الألمانية عام 2005، تم اختيار ميركل لتمثيل كتلة الاتحاد الديمقراطى المسيحى، الاتحاد الاجتماعى المسيحى من يمين الوسط، على حساب، آخرين، مثل زعيم الاتحاد الديمقراطى المسيحى الحالى، فريدريش ميرز.. تقول إنها وجدت «فرقًا بين النظرية والتطبيق، فى قبول ترشيح امرأة لرئاسة الحكومة.. كانت هناك شكوك حول هذا الأمر، حتى فى أعماق صفوف النساء» فى حزبها.. ثم تشرح ميركل التحدى، المتمثل فى مواجهة المستشار آنذاك، جيرهارد شرودر، وسمعته كشخص «نشيط وذكى.. أى رجل يتحدى المستشار.. كان ليشعر بنفس الشعور.. ولكن كونى امرأة، شعرت بأن هذا لا يشكل ميزة على الإطلاق».
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.