العلاج مجانًا لـ«غير القادرين»
- الاستدامة المالية ضرورة لاستمرار مستشفيات العمل الأهلى التنموى
مؤسسات العمل الأهلى التنموى لعبت دورًا كبيرًا فى رفع كفاءة خدمات الرعاية الصحية فى مصر تباعًا على مدار ربع قرن مضى ولا تزال، لدينا الآن أكثر من مستشفى كبير متخصص تحمل أعباء شريحة كبرى لا يُستهان بها من المرضى، وترفع عن كاهل الدولة تكلفة علاجهم، وتقدم خدماتها على كل مستوياتها مجانًا، ومصادر تمويلها مُحددة فى تبرعات المؤسسات والأفراد، وهى وفقًا لمعايير الاعتماد الدولى مُنافِسة بمستوى بنيتها الأساسية وتجهيزاتها الطبية وأنظمة التكنولوجيا الحديثة بها، وأيضًا كوادرها البشرية المنتقاة بعناية قياسًا فقط على المؤهلات العلمية والأكاديمية والخبرات العملية عالية المستوى، كل هذا يحركه دافع إنسانى من يفتقده يجد نفسه غريبًا فى بيئة عمل إنسانية فى المقام الأول.
فى السنوات القليلة الماضية تعاظمت تحديات هذه المستشفيات، بعدما زادت الضغوط الاقتصادية على المجتمع المصرى بكامله، قلت حصص تبرعات المؤسسات والأفراد تبعًا لارتفاع معدلات التضخم، وأصبحت خدمات مستشفيات العمل الأهلى التنموى على أهميتها مُهَدَّدَة، بعضها اضطر آسفًا إلى الحد من تقديم خدماته، والبعض الآخر راح يبحث عن سبل استدامة مالية تضمن له مجرد الاستمرار، والقوانين المصرية لا ترحم، صحيح أن حوكمة أموال العمل الأهلى التنموى مطلوبة بقوة الضرورة، لكنها لا بد وأن تواكب تحديات العصر وإيقاعه وأدواته، حتى لا تصبح عبئًا إضافيًا على أعباء تفوق الطاقة فى الأساس، منها مثلًا محاسبة هذه الكيانات على استهلاك مرافقها مياهًا وكهرباء وغازًا وخلافه، مثلها كأى منشآت خدمية، وعدم تمتعها بأى إعفاءات من أى نوع تواكب طبيعة عملها فيما تقوم به من وظائف وأنشطة على تنوعها، ضرائب وجمارك وخلافه.
فإذا أتينا إلى شركات التأمين الطبى أو المؤسسات الإنتاجية أو الخدمية التى تتعاقد مباشرة مع المستشفيات لضمان التغطية الطبية للعاملين بها، نجد إما القوانين واللوائح الحاكمة لها وأيضًا تلك الحاكمة لمستشفيات العمل الأهلى التنموى تعوق التعاقد فيما بينها، أو نجد هذه الشركات والمؤسسات تتذاكى حتى لا تُكلِّف نفسها بإحالة مرضاها على المستشفيات الأهلية باعتبار أنها تقدم الخدمة مجانًا، وهو نفسه ما تُصْدَم به هذه المستشفيات من مرضى قادرين يلجأون إليها أملًا فى علاج وفقًا لأحدث النظم العالمية وطمعًا فى مجانيته فى ذات الوقت، وهو أمر جد هزلى إلى أبعد الحدود، ويحتاج مراجعة مع النفس قبل مراجعة الآخرين ولا أقول محاسبتهم، ولا يستقيم هنا منطق أن من هؤلاء من تبرع يومًا أو حتى دائم التبرع لهذا المستشفى أو ذلك، فالمفروض أن تبرعك خالص لوجه الله وليس مقدم صفقة تنتظر ربحك منها.
كل هذا مع الوضع فى الاعتبار أهمية استمرارية دعم مستشفيات العمل الأهلى التنموى حتى تواصل دورها المتعاظم مع الوقت فى رفع كفاءة خدمات الرعاية الصحية، وهو ما لن يتحقق إلا بضمان الاستدامة المالية لها، يفرض علينا جميعًا ضرورة مراجعة مفهوم العلاج المجانى وبهدف التأسيس إلى أنه فقط لـ«غير القادرين» حتى يذهب حقًا إلى من يحتاج إليه ويستحقه، وحتى يرتقى الأمر إلى درجة الثقافة، لا بد وأن تعمل عليه كل فئات المجتمع، الأسرة ودور العبادة والمدارس والجامعات، ومعها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها مقروءة ومسموعة ومرئية، وأيضًا التجمعات الضامة لمختلف فئات المجتمع المصرى، ومؤسسات العمل الأهلى التنموى التى تملك وتدير المستشفيات الخيرية هى الأخرى لا بد وأن تبادر نحو تأسيس هذا المفهوم.
فلا يصح بأى حال من الأحوال أن يتجاهل قادر التبرع بتكلفة علاجه، خاصة أنه يعلم أنها سوف تذهب لعلاج مريض غير قادر، كما لا يصح أن يبادر قادر لسداد تكلفة علاجه ظنًا منه باعتبار مستوى الخدمة أنه فى مستشفى خاص ثم يتراجع بعدما يعرف أن المستشفى يقدم خدماته مجانًا، فكرة أن القادر يسدد تكلفة علاجه حتى يدعم من خلالها مريضًا غير قادر لا بد وأن تكون حافزة، أخذت الخدمة وربنا عافاك وأخذت ثواب مساعدة مرضى آخرين غير قادرين، هكذا يجب أن يكون الدافع فى نفوسنا جميعًا، فالمصريون أهل خير كلٌ على قدر طاقته، وهو ما يجعلنى متفائلًا باستجابتهم واستيعابهم لمفهوم أن العلاج مجانًا لـ«غير القادرين».