رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القاهرة.. نجاحات اقتصادية وسط دائرة النار

تستهدف المشروعات القومية فى مصر تعزيز الأنشطة الاقتصادية وتحقيق معدلات نمو مرتفعة، فى ظل أزمات اقتصادية عالمية متلاحقة، أثرت سلبًا على الأسواق الناشئة، حيث أسهمت مشروعات مصر القومية فى توفير الملايين من فرص العمل، كما أسهمت فى توفير المنتجات للسوق المصرية، إضافة إلى زيادة القدرات التصديرية للبلاد مما رفع الصادرات، وأسهم بقوة فى توفير الوظائف وفرص العمل للشباب وتعزيز حركة الاقتصاد.. تخيل لو لم تكن مصر نفذت برنامجًا إصلاحيًا ولا مشروعات ضخمة، كيف سيكون وضعنا الاقتصادى أصعب؟.. إن استمرار العمل فى المشروعات القومية الضخمة، خصوصًا الإنتاجية منها، وعدم توقفها رغم التحديات الحالية، أثر بصورة مباشرة على تحقيق معدلات نمو مرتفعة بالقياس لما هو حادث فى الاقتصادات العالمية الحالية.. بل إن النمو المستهدف خلال العام المالى المقبل، مدعومًا بالأنشطة الاقتصادية التى تتعافى، مع تلاشى آثار الأزمة الاقتصادية مثل السياحة والتصدير والصناعات المختلفة، وهذه الأنشطة ستدعم مستهدفات النمو.
لذلك، توقعت وكالة فيتش للتصنيف الائتمانى، فى تقرير حديث، أن يتراجع معدل التضخم الأساسى فى مصر إلى 10.6% خلال يونيو 2026، ومن المتوقع كذلك أن ينحسر إلى 12.5% خلال يونيو 2025، وإن كان ما زال مرتفعًا بحسب التقرير.. ومن المتوقع أن تحقق صناعة السياحة فى مصر أرقامًا قياسية بدءًا من العام الحالى، مما يشير إلى انتعاش ملحوظ للقطاع، وفقًا لتقرير موقع Tourism Review، إذ مع زيارة أكثر من ثمانية ملايين سائح البلاد فى الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، تسير مصر على الطريق الصحيح لتجاوز أربعة عشر مليار دولار من الإيرادات، بحلول نهاية العام.. هذا الانتعاش يأتى على الرغم من التوترات الإقليمية المستمرة والتحديات الجيوسياسية العالمية.. وإذا استمر الاتجاه الحالى، فمن المتوقع أن تجتذب مصر أكثر من خمسة عشر مليون سائح بحلول نهاية العام، مما يضع معيارًا جديدًا لقطاع السياحة فى البلاد، بعدما ركزت الحكومة المصرية على جعل النمو المستدام والتنمية الاستراتيجية محوريًا لمرونة القطاع.. ولا تزال الحكومة ملتزمة بتوسيع عروضها السياحية لجذب المزيد من الزوار الدوليين.
وبالتزامن مع هذا التقرير الإيجابى، وفى إنجاز جديد يُضاف لسلسلة إنجازات الدولة المصرية، شهد الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، احتفالية الإعلان عن إعادة إحياء وتطوير وتحديث خطوط الإنتاج بشركة «النصر للسيارات»، التابعة للشركة القابضة للصناعات المعدنية، وعلامتها التجارية العريقة، من خلال الإعلان عن إنتاج أول أتوبيس جديد بنسبة مكون محلى مرتفعة، ليكون إنجازًا فى توقيت تتعرض فيه مصر لحملات من التشكيك فى إنجازات ومواقف الدولة.. إذ يمثل هذا الإنجاز خطوة نوعية فى مسيرة تطوير الصناعة الوطنية، ويؤكد قدرة مصر على تحقيق الاكتفاء الذاتى فى قطاع النقل.. كما يعكس التزام الدولة تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، بتطوير الصناعات الوطنية الكبرى، والتى تُعَد جزءًا محوريًا من رؤية مصر 2030، إذ تندرج إعادة إحياء «النصر للسيارات»، بعد خمسة عشر عامًا من التوقف، ضمن الاستراتيجية الشاملة للدولة، لتعزيز التصنيع المحلى وتقليل الاعتماد على الاستيراد، مما يسهم فى دعم الاقتصاد الوطنى وخلق فرص عمل جديدة للشباب.
لقد أدى الأداء القوى للسياحة المصرية فى 2023، إلى إرساء الأساس لاستمرار نمو القطاع فى العام الحالى.. ففى العام الماضى، استقبلت مصر 14.8 مليون سائح وحققت 13.2 مليار دولار من الإيرادات، بزيادة قدرها 27% عن العام السابق.. وقد غذّى هذا المسار التصاعدى التفاؤل داخل الصناعة، حيث يهدف أصحاب المصلحة إلى تجاوز هذه الأرقام، على الرغم من التحديات المختلفة.. وأسهمت العديد من الأسواق الرئيسية بشكل كبير فى ازدهار السياحة المصرية.. وتقود السوق الألمانية المهمة، مع زيادة بنسبة 10% فى عدد الزوار، مدفوعة بالطلب القوى والمزيد من توافر الرحلات الجوية.. وعلى الرغم من التوترات الجيوسياسية، تمكنت السوق الروسية، ثانى أكبر مُصدِّر للسياح فى مصر، من تحقيق نمو متواضع بلغ نحو 5%.. وشهدت السوق الصينية أكبر ارتفاع، حيث ارتفعت أعداد زوارها بنسبة 60%، مدفوعة إلى حد كبير بزيادة الرحلات الجوية بين الصين ومصر بثلاثة أضعاف.. كما حققت السوق العربية أداءً استثنائيًا، حيث بلغ النمو الإجمالى 17%، وزيادة مذهلة بنسبة 25% فى أعداد الزوار من المملكة العربية السعودية.
هذا التقدم يعكس فعالية استراتيجيات الحكومة، التى أدت إلى تسجيل مصر سبعين مليون ليلة إقامة و6.6 مليار دولار من الإيرادات، خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام. وتؤكد هذه الأرقام على مرونة القطاع وتعافيه وسط التحديات المستمرة، «إن قطاع السياحة المصرى على المسار الصحيح.. وتعكس هذه النتائج نجاح استراتيجيات التنمية التى تهدف إلى جذب مجموعة واسعة من السياح».. إذ نفذت الحكومة سلسلة من المبادرات الاستراتيجية لتعزيز قطاع السياحة، إدراكًا لأهميته الحيوية للاقتصاد الوطنى.. وتشمل هذه المبادرات، حملات تسويقية دولية شاملة، وحضورًا قويًا فى المعارض السياحية العالمية، مما يضع مصر كوجهة رئيسية للسياحة التاريخية والثقافية والتراثية.. وكان من أبرز ما يميز هذه الجهود، ترميم المعالم التاريخية فى مصر، بما فى ذلك الافتتاح الجزئى الذى طال انتظاره للمتحف المصرى الكبير.. وقد اجتذبت هذه التطورات اهتمامًا متزايدًا من السياح، وخصوصًا أولئك المتحمسين للتراث الثقافى الغنى لمصر.
وفى السنوات الأخيرة، حوّلت السلطات السياحية تركيزها نحو جذب السياح الراقين، الذين يسهمون بشكل أكبر فى الاقتصاد.. على سبيل المثال، يُقدر أن الزوار الأمريكيين ينفقون ما بين مائة ومائتين دولار فى اليوم، فى حين يسهم الزوار الخليجيون بنحو ثلاثمائة دولار فى اليوم.. ومن خلال استهداف السياح ذوى القدرة على الإنفاق الأعلى، تهدف مصر إلى زيادة عائدات السياحة، دون الاعتماد فقط على أعداد الزوار.. من المتوقع أن يواصل قطاع السياحة فى مصر مساره التصاعدى، حيث حددت الحكومة هدفًا بخمسة عشر مليون زائر بحلول نهاية 2024.. وستساعد الاستثمارات الاستراتيجية فى البنية التحتية للسياحة، جنبًا إلى جنب مع الجهود المبذولة لتوسيع وتنويع عروض البلاد، فى الحفاظ على هذا النمو.. ويتوقع الخبراء أنه فى حالة تخفيف التوترات الإقليمية، يمكن لمصر تحقيق رقم قياسى يبلغ ثمانية عشر مليون سائح بحلول 2025.
وهنا، قد يتساءل البعض: كيف حافظت مصر على حظوظها السياحية رغم الصراعات الإقليمية؟.
رغم تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والصراعات الإقليمية المتصاعدة بمنطقة الشرق الأوسط، أكد رئيس مجلس الوزراء، مصطفى مدبولى، أن القاهرة استطاعت الحفاظ على «حظوظها السياحية»، محققة «زيادة فى الزيارات والعائدات».. وقال إن: «مصر نجحت، على الرغم من كل الاضطرابات الإقليمية الحالية فى تحقيق جذب سياحى، ولديها قطاع سياحى قادر على الصمود رغم الاضطرابات».. ولم يتجاهل مدبولى، فى تصريحاته مؤخرًا، ما قال إنها «تقارير كثيرة تشير إلى أن المنطقة الإقليمية لم تعد جاذبة للسياحة العالمية، بسبب أنها منطقة صراع»، لكنه أكد أن «هذه التقارير اعتبرت مصر، الدولة الوحيدة فى المنطقة المستثناة من هذه الحالة».. واستقبلت مصر 14.906 مليون سائح خلال 2023، بزيادة سنوية أكثر من 27%، عن عام 2022، وهو رقم يفوق ما تم تحقيقه فى عام الذروة السياحية 2010، حيث زار البلاد 14.731 مليون سائح.. وجاءت الأرقام الرسمية مناقضة لتوقعات المؤسسات الدولية، ومن بينها وكالة «ستاندرد آند بورز جلوبال»، التى توقعت، فى تقرير، نشرته فى نوفمبر الماضى «تضرر قطاع السياحة فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدرجة كبيرة جراء حرب غزة، ولا سيما لبنان ومصر والأردن».. وفى مايو الماضى، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، دراسة قال فيها إنه يتوقع «انخفاض إيرادات السياحة وقناة السويس فى السنتين الماليتين الحالية والمقبلة، بقيمة تتراوح بين 9.9 مليار دولار و13.7 مليار دولار، حسب توسع نطاق الحرب».. لكن على النقيض من ذلك، قال المجلس العالمى للسفر والسياحة، فى يونيو الماضى، إن «مساهمة قطاع السياحة فى الناتج المحلى الإجمالى لمصر نمت بنسبة 24% فى العام الماضى.. وإن القطاع تعافى بالكامل، ووصل إلى مستويات قياسية».
●●●
لقد أردت البدء بالحديث عن النصر للسيارات، والطفرة السياحية فى هذا المقال، لتناول وضع الاقتصاد المصرى فى خضم الصراعات الإقليمية، لأن مثل هذه الإنجازات هى المرآة الحقيقية، التى تعكس وضعية الاقتصاد فى ظل الظروف المحيطة بأى دولة.. وهنا، نشير إلى ما نشره The Washington Institute عما تواجهه مصر، التى تتمتع بموقع استراتيجى فى قلب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من ضغوط اقتصادية كبيرة، تفاقمت بفعل الصراعات الإقليمية وحالة عدم الاستقرار الجيوسياسى، ومع هذا تتعافى وتحقق نجاحات.. لتبيان كم واجهت الدولة المصرية من تحديات للحيلولة دون تفاقم الوضع الاقتصادى للبلاد، بل على العكس من ذلك، تحاول تحقيق نجاحات فى هذا المجال، وسط دائرة النار التى تحيط بها.. وتنتظر من الشركاء والحلفاء المساندة الفعلية، للخروج نهائيًا من آثار هذه الدائرة المدمرة.
لقد أدت الأزمات المتعددة الأوجه الناجمة عن الحرب الإسرائيلية- الفلسطينية، وحرب إسرائيل فى لبنان، والحرب الأهلية السودانية، والأوضاع السياسية المتوترة فى ليبيا، والحرب الروسية- الأوكرانية، إلى تفاقم الضغوط الاقتصادية على القاهرة.. ولا تؤثر هذه التحديات على الاقتصاد المصرى فحسب، بل تهدد أيضًا الاستقرار الإقليمى.. وفى ضوء هذه التحديات التى تواجهها مصر والمنطقة، تتوقع القاهرة من الولايات المتحدة أن تلعب دورًا داعمًا تجاه شريكها الاستراتيجى فى المنطقة.
يؤثر التصور الدولى لعدم الاستقرار الإقليمى على الاقتصاد المحلى فى مصر؛ حيث تمثل السياحة أكثر من 24% من الناتج المحلى الإجمالى، ويعمل بها أكثر من مليونين ونصف المليون موظف.. ومع ذلك، أدت المخاوف من انعدام الأمن فى الدول المجاورة، إلى تراجع أعداد الزوار الدوليين، حيث انخفض عدد السياح بنسبة تقدر بين 25- 30% خلال الفترة من 2010 إلى 2022، مقارنة بمستويات ما قبل النزاعات.. وقد تسبب هذا التراجع فى عائدات السياحة، فى زيادة الضغط على احتياطيات مصر من النقد الأجنبى، إذ تعتمد العمالة بشكل كبير على هذا القطاع فى إيرادات النقد الأجنبى والتوظيف.
وأسفرت الحرب الدائرة فى غزة عن تصاعد التوترات الإقليمية، وزيادة حالة عدم الاستقرار الاقتصادى. وتواجه مصر، التى تشترك بحدود مع قطاع غزة وتلعب دور الوسيط الإقليمى، ضغوطًا متزايدة فى النفقات الأمنية والتكاليف الإنسانية.. كما أدى الصراع إلى تعطيل طرق التجارة فى البحر الأحمر وقناة السويس، مما فاقم الضغط على موارد البلاد.. وتنعكس حالة عدم الاستقرار الناتجة عن هذه الأزمة على ثقة المستثمرين فى السوق المصرية، مما يقوض فرص النمو الاقتصادى فى البلاد.
تؤثر الحرب أيضًا بشكل مباشر على قناة السويس، التى تُعد أحد أهم الأصول الاقتصادية الحيوية لمصر وممرًا تجاريًا عالميًا رئيسيًا، وتُدر عائدات كبيرة على مصر من خلال رسوم عبور القناة.. ومع ذلك، أسفر عدم الاستقرار الإقليمى، بما فى ذلك النزاعات والحروب، عن تعطيل طرق الشحن وتشديد الحصار البحرى، مما أعاق حركة التجارة.. وأدت المخاوف الأمنية المتزايدة فى المنطقة إلى زيادة رسوم التأمين على شركات الشحن، مما أثر بشكل جوهرى على حجم التجارة التى تمر عبر القناة.. علاوةً على ذلك، أثرت الحرب على ديناميكية التجارة الإقليمية وعلى أنماط الشحن العالمية، حيث أسهمت فى تحويل مسارات التجارة وتقليص تدفق البضائع من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر. وقد أدى هذا الانخفاض فى حركة المرور إلى انخفاض إيرادات القناة بنسبة 57%، خلال الربع الثالث من السنة المالية- يناير إلى مارس 2024- مما أثر سلبًا على الاقتصاد المصرى، الذى يعتمد بشكل كبير على هذه الإيرادات فى موازنته الوطنية.
وأثرت الحرب الأهلية السودانية بشكل كبير على مصر، خصوصًا فيما يتعلق بإدارة اللاجئين وأمن الحدود.. فمنذ اندلاع النزاع المسلح فى عام 2023، استقبلت مصر أكثر من نصف مليون لاجئ سودانى مُسجل، إضافة إلى نحو مليون ومائتى ألف وافد سودانى جديد بشكل مفاجئ، مما فرض ضغوطًا إضافية على الخدمات العامة والبنية التحتية المصرية.. كما أدى النزاع إلى تعطيل طرق التجارة الحيوية للاقتصاد المصرى، مما أسهم فى نقص السلع الأساسية وارتفاع معدلات التضخم.. وأدى توافد أعداد كبيرة من اللاجئين إلى فرض ضغوط هائلة على سوق الإسكان فى مصر، لا سيما فى مدن كالقاهرة والإسكندرية، التى تزايد فيها الطلب على المساكن ذات الأسعار المعتدلة.. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار الإيجارات، واستقر العديد من اللاجئين فى مناطق مكتظة سلفًا، مما جعل تكلفة السكن باهظة على اللاجئين والسكان المحليين على حد سواء.. وتسهم هذه الزيادة فى الإيجارات، فى تعميق أزمة السكن لأصحاب الدخل المحدود من المصريين، مما يزيد من التكدس السكانى ويعزز التوترات بين اللاجئين والمجتمعات المُضيفة.
تسبب تدفق اللاجئين إلى مصر فى زيادة الضغط على نظام الرعاية الصحية فيها، فى وقت يحتاج العديد من اللاجئين إلى رعاية طبية عاجلة، مما يرهق البنية التحتية التى تعانى أصلًا من نقص التمويل والموظفين.. وتواجه المستشفيات والعيادات العامة عبئًا إضافيًا نتيجة ازدياد أعداد المرضى، مما يؤدى إلى طول فترات الانتظار، وتراجع جودة الرعاية، وزيادة التنافس على الموارد الطبية.. ويترتب على هذا الوضع صعوبة أكبر فى حصول كل من اللاجئين والمصريين على خدمات الرعاية الصحية.. كما يواجه نظام التعليم تحديات متزايدة، مع التحاق أعداد كبيرة من الأطفال اللاجئين إلى المدارس المحلية، مما أدى إلى زيادة الضغط على الموارد التعليمية والمساحات المتاحة، حيث أصبحت الفصول الدراسية، التى كانت تعانى من الازدحام بالفعل، أكثر تكدسًا.. وقد أفضى هذا الوضع إلى تراجع جودة التعليم وأثقل كاهل المعلمين بمهام إضافية.. علاوة على ذلك، تزداد الحاجة إلى موارد مثل الكتب المدرسية والمواد التعليمية، مما يزيد من الضغوط على موازنة التعليم.
ويسعى العديد من اللاجئين إلى إنشاء مشروعات صغيرة أو الانخراط فى العمالة غير الرسمية لتأمين معيشتهم، مما يترك أثرًا كبيرًا على الاقتصاد المحلى.. ورغم أن هذا قد يسهم إيجابيًا، فى بعض الأحيان، فى تحفيز النشاط الاقتصادى، إلا أنه يمكن أن يؤدى أيضًا إلى زيادة المنافسة على الوظائف والموارد.. هذه المنافسة قد تؤدى إلى تراجع الأجور وتفاقم التوترات بين اللاجئين والعمال المحليين.. هذه الضغوط الاقتصادية والتنافس على الموارد تؤدى إلى زيادة التوترات بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة.. وفى هذا السياق، تسهم تحديات الاندماج الاجتماعى والاختلافات الثقافية فى زيادة هذه التوترات، مما قد يسفر عن نزاعات تؤثر على التماسك الاجتماعى.. كما أن المجتمعات المحلية تشعر بأن الموارد تُحوَّل بعيدًا عنها لدعم اللاجئين، مما يولد الاستياء ويعزز عدم الاستقرار الاجتماعى.
وبما أن ليبيا تشهد حالة من عدم الاستقرار السياسى المستمر، فقد أسهم ذلك فى تعطيل التجارة الإقليمية وزيادة عمليات تهريب السلع والأسلحة عبر الحدود، وهو ما يلقى بظلاله على الوضع الأمنى والاستقرار الاقتصادى فى مصر.. كانت ليبيا فى الماضى شريكًا تجاريًا مهمًا لمصر، ومصدرًا كبيرًا للاستثمار وفرص العمل.. ومع ذلك، أدت حالة عدم الاستقرار فى ليبيا إلى تراجع التعاون التجارى والاقتصادى، مما انعكس سلبًا على الاقتصاد المصرى، بإغلاق المعابر الحدودية والموانئ، مما أعاق تدفق السلع والبضائع.. ففى الفترة بين عامى 2018- 2010، تراجعت صادرات مصر إلى ليبيا بشكل حاد، مما أثر على الشركات المصرية التى كانت تعتمد على السوق الليبية.. وأدى انهيار النظام داخل ليبيا، إلى تصاعد نشاط التهريب على الحدود الليبية- المصرية، مما يشكل تهديدات أمنية مباشرة لمصر.. وبالتالى، فقد يؤدى تدفق الأسلحة والسلع المهربة إلى زعزعة استقرار الاقتصاد المحلى، وخلق تحديات كبيرة أمام أجهزة إنفاذ القانون، مما يزيد الضغط على قوات الأمن المصرية، ويثقل كاهل الحكومة بعبء مالى إضافى.. كما أن الموارد الإضافية المطلوبة لمكافحة التهريب وتأمين الحدود تؤدى إلى تحويل الأموال من قطاعات حيوية أخرى، مما يقوض الاستقرار الاقتصادى العام.
وفى العموم، أدت حالة عدم الاستقرار السياسى فى ليبيا إلى انخفاض مستوى الاستثمار والتعاون الاقتصادى بين البلدين.. بعد أن كانت ليبيا فى السابق مصدرًا هامًا للاستثمار فى مصر، خصوصًا فى قطاعات مثل البناء والطاقة.. ومع ذلك، أدى الوضع غير المستقر فى ليبيا إلى تعليق أو إلغاء العديد من المشاريع والاستثمارات المشتركة.. على سبيل المثال، تم تأجيل استثمارات ليبية كبيرة فى مجال العقارات والبنية التحتية المصرية، بسبب البيئة الاقتصادية غير المستقرة.. بالإضافة الى ذلك، يؤثر هذا التراجع فى الاستثمار الأجنبى المباشر على آفاق النمو الاقتصادى فى مصر، ويحُد بشكل جوهرى من فرص خلق الوظائف.. ووفقًا لبيانات البنك المركزى المصرى، تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر من ليبيا بأكثر من 75% بين عامى 2010/ 2020 بسبب تدهور الأوضاع الناجمة عن الحرب الأهلية هناك.. وبشكل خاص، تأثرت قطاعات البناء والتصنيع فى مصر، التى كانت تستفيد بشكل كبير من رءوس الأموال الليبية.
أضف إلى كل ذلك، الحرب الروسية- الأوكرانية، التى خلَّفت تداعيات عالمية، وخصوصًا على أسعار الغذاء.. وباعتبارها مستوردًا رئيسيًا للقمح، واجهت مصر ارتفاعًا كبيرًا فى أسعار الحبوب، بسبب اضطرابات سلاسل التوريد العالمية.. فى عام 2023، استوردت مصر حوالى 70% من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا.. وفى سياق متصل، أدى النزاع فى ليبيا إلى زيادة أسعار الخبز بنسبة 20%، مما أسهم فى ارتفاع التضخم الغذائى وزيادة المصاعب الاقتصادية للمصريين، إذ لم يؤثر ارتفاع أسعار القمح على تكاليف الغذاء فحسب، بل أسهم أيضًا فى ارتفاع معدلات التضخم العام فى مصر، وزيادة أسعار الغذاء بوتيرة أسرع من باقى السلع والخدمات.. وأفاد تقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، بأن التضخم الغذائى بلغ نحو 30% فى عام 2024، مما يعكس بوضوح تأثير ارتفاع أسعار القمح على السلع الاستهلاكية.. وقد أدى تفاقم الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن التضخم إلى تراجع القوة الشرائية للأسر المصرية.. وبالنسبة للعديد من المواطنين، أدى ارتفاع أسعار الغذاء إلى تراجع مستوى المعيشة وتفاقم المعاناة الاقتصادية.. وتزداد تلك المصاعب بين الأسر محدودة الدخل، التى تنفق نسبة أكبر من دخلها على الاحتياجات الأساسية. 
لم تقف الحكومة المصرية مكتوفة الأيدى، بل عملت على مواجهة الأزمة الاقتصادية، من خلال اتخاذ تدابير مختلفة للتخفيف من آثار ارتفاع أسعار السلع الغذائية.. شملت هذه التدابير دعم المواد الغذائية الأساسية، والعمل على تنويع مصادر استيراد القمح، وإدارة الاحتياطيات الاستراتيجية.. إلا أن هذه التدابير شكلت أعباءً مالية إضافية على موازنة الحكومة، حيث يتم تحويل الموارد بعيدًا عن قطاعات حيوية.. وبشكل متزامن، أدى ارتفاع تكاليف استيراد القمح إلى زيادة الضغوط المالية على الحكومة، وتسبب فى تصاعد الإنفاق على برامج الدعم، مما يؤثر على الاستقرار المالى وقد يؤدى إلى مزيد من الاقتراض.
●●●
ويتوقع The Washington Institute دعمًا اقتصاديًا أمريكيًا لمصر، كحليف استراتيجى للولايات المتحدة، إذ يمكن للولايات المتحدة أن تدعم مصر من خلال مبادلة الديون الثنائية ومبادرات الإعفاء من الديون.. واعتبارًا من عام 2024، بلغ الدين الخارجى لمصر حوالى 152.9 مليار دولار.. وقد أدى ارتفاع تكلفة خدمة الدين إلى إثقال كاهل الاقتصاد المصرى، وتقييد فرص الاستثمار فى مشاريع البنية التحتية والخدمات الاجتماعية الأساسية.. وقد تسهم عملية مقايضة الديون، عبر تحويل هذا الدين إلى استثمارات فى مشاريع تنموية محلية، فى تخفيف الأعباء الاقتصادية بشكل فورى ودعم أهداف التنمية المستدامة.. وغالبًا ما ينطوى تخفيف عبء الديون المتعددة الأطراف على منظمات، مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى.. وتتأثر هذه المؤسسات بشكل كبير بالسياسات الأمريكية، ومن ثم، يمكن للولايات المتحدة استخدام نفوذها على هذه المؤسسات المالية الدولية للاستفادة من مبادلة الديون، والتعليق المؤقت لمصروفات خدمة الدين المصرى، مما سيخفف العبء المالى على الموازنة.
من خلال نفوذها الدبلوماسى، يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دورًا محوريًا فى التوسط فى مفاوضات سد النهضة الإثيوبى الكبير.. وينبغى أن يكون الهدف هو إبرام اتفاق مُلزم يعالج مخاوف الدول الثلاثة.. وقد تتضمن هذه الاتفاقية أحكامًا بالتدفق السنوى للمياه، بما يضمن حدًا أدنى من التدفق المائى لمصر، ربما من خلال إطار عمل يعوض أى نقص قد يحدث فى إمدادات المياه.. كما يمكن أن يتضمن وضع جدول زمنى لملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبى، وأن يأخذ فى الاعتبار الأثر على دول المصب، مع تعديلات موسمية لتقليل الانقطاعات فى تدفق المياه.. ويمكن للولايات المتحدة توفير الدعم التقنى، لدعم مشاركة البيانات ورصد تأثير السد الإثيوبى على مصر. ويشمل ذلك مراقبة الأقمار الصناعية، وتحليل البيانات الهيدرومترولوجية، لضمان الشفافية والامتثال للاتفاق.. كذلك، يجب تقديم الدعم المالى أو الحوافز المالية، لتشجيع الامتثال للإطار المتفق عليه بشأن المياه.
خلاصة القول، فإن الموقع الاستراتيجى لمصر يمنحها مكانة تجعلها فى قلب النزاعات الإقليمية؛ كما أن الاضطرابات فى التجارة والضغوط الناجمة عن استضافة اللاجئين، تُبرز التحديات الاقتصادية المتعددة التى تواجهها مصر.. وبالمثل، فاقمت الصراعات الإقليمية من هذه التحديات، من خلال الضغط على الخدمات العامة وتضخيم الأسعار.. وباعتبارها حليفًا استراتيجيًا، يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دورًا حاسمًا فى التخفيف من هذه الضغوط، من خلال عملية مبادلة الديون الثنائية، ومبادرات إعفاء الديون، والتوسط لإبرام اتفاقات شاملة.. وحيث إن التمويل المُقدم من صندوق النقد الدولى لمصر يأتى على شكل قروض، إلا أن هذه الالتزامات المالية الجديدة ستفرض فى نهاية المطاف المزيد من الضغوط على اقتصاد البلاد.. ومن ثم، يمكن للولايات المتحدة أن تساعد فى استقرار الاقتصاد المصرى وتعزيز التنمية المستدامة، من خلال استثمار نفوذها على المؤسسات المالية الدولية، والعمل على مبادلة الديون وإعفائها، وحيث إن الشراكة المصرية- الأمريكية حيوية، فيمكن للولايات المتحدة ان تدعم الاقتصاد المصرى، وضمان الاستقرار الإقليمى فى مواجهة الصراعات والأزمات المستمرة.. وللحديث بقية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.