بعد هدوء العاصمة.. بخيت وخيرت وتجنيات المثقفين!
هل أخطأ عمر خيرت وجمال بخيت خطأ جسيمًا يستأهل كل ما جرى من الصخب المؤسف على صفحات السوشيال ميديا؟ هل خانا فنهما حقًا؟ هل باعا انتماءهما الوطنى بمال وافر حصداه نتيجة لما فعلا؟ وإن لم يكونا؛ فهل أخطآ، ولو خطأ صغيرًا، ولكنه جارح، يستوجب المساءلة ويستحق العتاب الغاضب؟
أغنية «تعرف تتكلم بلدى» التى كتبها جمال بخيت ولحنها عمر خيرت وغنتها لطيفة: «تعرف تتكلم بلدى/ وتشم الورد البلدى/ وتعيش الحلم العصرى/ يبقى إنت أكيد المصرى»؛ هى أغنية تضمنها فيلم يوسف شاهين «سكوت حنصور»، وهى الأغنية التى صارت، بعد ذلك، تذاع بعيدة عن الفيلم فى مناسباتنا الوطنية المختلفة، كواحدة من الأغانى الجميلة المؤثرة الداعية إلى الاعتزاز بالمصرية.
ما جرى أن جمال بخيت كتب على اللحن نفسه كلامًا جديدًا يخص حفلًا عربيًا هو «مبادرة تحدى القراءة»، الموسم الثامن فى الإمارت، وأقره عمر خيرت، ووافقت لطيفة على غناء الكلام الجديد بنفس اللحن القديم: «تعرف تحيا بتحدى/ على كل الصعب تعدى/ إيدك تستقوى بيدى/ يبقى إنت أكيد العربى».
ما إن أذيعت الأغنية الجديدة، وعلم المثقفون، ومن يتبعون خواطرهم، وأخص الأتباع العميان الذين لا يفكرون تقريبًا، بقصتها التى شرح بخيت ظروفها على صفحته فى الفيسبوك باستفاضة، حتى ثار نفر منهم ثورة عارمة، وجرّت الثورة، بالتقليد الأهوج، ثورات، واعتبر الثائرون الزجاجيون «نسبة إلى شاشات الهواتف والكمبيوترات» ما حدث إهانة تسبب فيها بخيت وخيرت لوطنهما الذى منحهما الاسم والشهرة.
كان يمكن أن يعترض المعترض على ما حدث، ذاكرًا أسبابه، ولكن برقى وذكاء يناسب ما يجب أن يكون عند كل خلاف، غايته الوصول إلى الصواب، ويناسب، ابتداء، مقامى الرجلين العلامتين المختلف معهما، إلا أن الوضع كان معقدًا ومريبًا ومنافيًا لآداب الخلاف بالجملة والتفاصيل، ولقد كان الموضوع، فى أدق التأملات، وقد انقطعت أحباله الآن، كمثل زوابع الفناجين؛ فكما اشتعل لاهبًا فجأة انطفأ فجأة، مما قد يشير إلى محرك خبيث كان وراءه، لمصلحة ما، واستغل حالة الالتفاف العجيبة القائمة حول جميع ما بوسعه التحفيز إلى العراك!
التقليل من قيمة الشاعر الكبير وحجم الموسيقى اللامع كان فاضحًا لضحالة الناطقين به فى الحقيقة؛ فقد قيل كلام بائس يحاسب عليه القانون، بالغ المتابعون وتزيدوا، منطلقين من مسلمة واحدة لا رجوع عنها: خطيئة الواقعة التى استبدلت العربى بالمصرى فى أغنية سبق وقرت بالوجدان!
جذر الموضوع، فى تصورى اليقينى، هو تعصبنا الذى ينسحب على علاقتنا بالأشقاء، وتعصبهم المقابل بالمثل، فالمصرى لا يرى للعرب ما للمصريين من الأمجاد، والعربى كذلك، وهو واقع فاسد راسخ آن أن يتغير؛ فنحن عظماء كرماء بما لدينا، والعرب أيضا، ببساطة هكذا، والواجب أن نتجاذب لا نتنافر، وأن ننتبه إلى عدونا المشترك الذى يعطل سيرنا، ولا يريد لنا أن نكون كتلة واحدة البتة، والبديهى أن المصرى والعربى أخوان فى اللغة والدين والثقافة والتاريخ، وهى أواصر عميقة ثابتة، لا تنفصم عراها مهما جد المفرقون الخبثاء واجتهدوا...
لقد أحيت الأغنية، فى ثيابها الكلامية الجديدة، أحيت الكلام القديم فى قلوب الناس ولم تمته كما شاع، ولم يكن الشاعر الكبير، وهو يكتب جديده، يمس قديمه بسوء أو يجور عليه، إنما الظن الغالب عندى أنه كان يستثمر نجاحه استثمارا مشروعا، بل يذكر به الجماهير المصرية التى شغلتها ظروفها الاقتصادية والاجتماعية الصعبة عن سواها مما يجب تذكره... (تركيب كلمات أخرى تغاير الأصل على لحن حفظ الجمهور كلماته الأساسية مسألة معروفة، بالمناسبة، وليست صادمة).
عاملت أنا جمال بخيت مرارا وتكرارا، ووجدتني، باستمرار، أمام إنسان وفى وأمين، ثابت المبدأ برىء الهوى، وإن تكن له عيوب، كسائر الناس، فإنها لا شيء بالنظر إلى مناقبه، وما أكثر المناقب، واتفقت معه، بمدى الأوقات، على أن التربص الثقافى جريمة حمقاء، يجب أن يتنصل منها المثقفون بسرعة، حتى الذين سرقهم جوها المثير المغري، فجراحها شمولية قاسية ولا تندمل.
أخيرًا... بخيت وخيرت فى غنى عن كل ما يشوش نقاء سيرتيهما الطيبتين البديعتين، تاريخاهما الناصعان شاهدان، الذيوع معهما، فليسا بحاجة إليه، والمال بأيديهما فكم عملا وكم ربحا، ومهما يكن قليلًا، قياسًا على أثمان الحاضر الباهظة، فإنهما يعلمان، قبل غيرهما، أن الثراء الحقيقى هو فى المعنى لا المبنى، وما أشد ثراءً معنييهما.. والخلاصة أنهما لم يخونا فنهما الرفيع قط، والدليل القطعى أن الفن الرفيع، بمعيار التقييم الفنى العلمى الموضوعى، لم يخنهما بأطوال المشاوير، وأما من جهة علاقتيهما الوثيقتين بالوطن فليس أدل عليها من نتاجيهما الجزيلين المنتميين اللذين كراية مصر العالية المرفرفة، والتى يحبانها عالية ومرفرفة دومًا. إنهما حتى لم يخطئا ولو خطأ صغيرًا جارحًا، هذا هو الإنصاف، بل المخطئ المدان من رماهما بسهام القتل المعنوى المؤلمة!