رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اعتلال الجهاز العصبى اللا إرادى: المشكلة وأبعادها

اعتلال الجهاز العصبي اللا إرادي، أو ما يعرف طبيًا بـ«Dysautonomia»، هو حالة طبية تحمل معاناة إنسانية عميقة، تتمثل تلك الحالة فى اضطراب النظام الذي يعمل بصمت لتنظيم حياتنا اليومية، فالجهاز العصبى اللا إرادي هو المسئول عن إدارة الوظائف الحيوية التى قد لا نفكر بها كثيرًا: ضغط الدم، ضربات القلب، التنفس، والهضم. ومع ذلك، فإن هذه الوظائف، التى يبدو أنها تعمل بسلاسة، يمكن أن تتحول إلى تحديات يومية للمصابين بهذا الاعتلال.

تتعدد الأعراض التى يعانى منها المصابون، وتتفاوت شدتها من شخص لآخر. ربما يبدأ الأمر بدوار مفاجئ عند الوقوف، يتبعه إغماء خفيف. يبدو الموقف بسيطًا، لكنه نتيجة انخفاض مفاجئ فى ضغط الدم. هذا العرض الذى قد يظنه البعض عرضيًا قد يكون البداية فقط. مشاكل التبول تظهر أيضًا كواحدة من هذه الأعراض، فالمريض يعانى من صعوبة فى البدء أو حتى إفراغ المثانة بالكامل، وهو ما قد يؤدى في كثير من الأحيان إلى التهابات متكررة فى المسالك البولية، فتزيد المعاناة.

وفى مساحات الحياة الأخرى تتسلل المشاكل الجنسية لتؤثر على العلاقات الشخصية. يعاني الرجال من صعوبات فى الانتصاب أو القذف، بينما تواجه النساء جفافًا فى المهبل أو ضعفًا فى الرغبة الجنسية. كل ذلك يترك أثرًا عاطفيًا ونفسيًا عميقًا يصعب تجاوزه دون دعم.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالجهاز الهضمى، هذا النظام الذى نثق به ليعمل دون توقف، يتأثر بدوره. يشعر المريض بالامتلاء بعد تناول لقيمات صغيرة، وكأن المعدة ترفض التعاون، يترافق ذلك مع فقدان الشهية، غثيان مستمر، وحرقة معدة لا تهدأ. يصبح تناول الطعام ذاته تجربة مرهقة، وهو ما يترك أثره على تغذية الجسم وصحته العامة.

المصاب بهذا الاعتلال يواجه أيضًا تحديات أقل وضوحًا ولكنها لا تقل أهمية، فقد يلاحظ تأخرًا فى تأقلم عينيه عند الانتقال من الضوء إلى الظلام، ما يجعل الرؤية الليلية ضبابية ومربكة. وقد يجد صعوبة فى التعرق بالطريقة التى يحتاجها جسده لتنظيم حرارته، إما بزيادة مفرطة أو قلة مزعجة. حتى الشعور بانخفاض نسبة السكر فى الدم، وهو نظام تنبيه طبيعي فى الجسم، قد يتعطل، ما يضع المريض فى خطر دون أن يدرك.

أعراض اعتلال الجهاز العصبى اللا إرادى

يمكن أن تظهر الأعراض بشكل منفصل، أو مجتمعة، وتتنوع شدتها بين خفيفة، ومتوسطة، وشديدة.. من أبرز هذه الأعراض:

  1. الدوار والإغماء عند الوقوف: يحدث نتيجة انخفاض مفاجئ فى ضغط الدم.
  2. مشاكل التبول: تشمل صعوبة بدء التبول، ضعف التحكم فى المثانة، وصعوبة إفراغها بالكامل، ما قد يؤدى إلى التهابات متكررة فى المسالك البولية.
  3. المشاكل الجنسية: تشمل ضعف الانتصاب ومشكلات القذف لدى الرجال، وجفاف المهبل وانخفاض الرغبة الجنسية لدى النساء.
  4. اضطرابات الجهاز الهضمى: مثل الشعور بالامتلاء سريعًا، فقدان الشهية، الغثيان، القىء، الإسهال، الإمساك، والانتفاخ.
  5. مشاكل التعرق: كالتعرق المفرط أو القليل جدًا، ما يؤثر على تنظيم حرارة الجسم.
  6. صعوبة فى التأقلم مع الضوء: بسبب تأخر رد فعل البؤبؤ، ما يؤدى إلى ضبابية الرؤية ليلًا.
  7. عدم تحمل النشاط البدنى: حيث لا تتأقلم ضربات القلب مع متطلبات النشاط الجسدى.
  8. عدم القدرة على ملاحظة انخفاض نسبة السكر فى الدم: نتيجة غياب العلامات التقليدية مثل الرجفة.

كل هذه الأعراض تجعل المريض أشبه بمن يسير فى معركة يومية لا تنتهى. التشخيص يتطلب دقة ومهارة؛ فالتعامل مع هذه الحالة يبدأ بفحوصات متعددة، من رسم القلب الكهربائى إلى فحص العين، ومن تحليل الدم لتحديد مضادات الالتهاب إلى قياس مستويات الهرمونات الناقلة للإشارات العصبية. هذه الخطوات ليست مجرد إجراءات طبية، بل هى محاولات لفك شفرة معقدة، لعلها تقود المريض نحو استعادة جزء من حياته الطبيعية.

العلاج ليس دواءً واحدًا أو خطوة محددة، بل هو رحلة شاملة. البداية تكون من النظام الغذائى، حيث يُنصح بتناول كميات مناسبة من ملح الطعام لتحفيز ضغط الدم، ولكن دون إفراط. شرب السوائل بكثرة والنوم بشكل كافٍ يمكن أن يكونا مفتاحًا لتحسين الحالة. التمارين العلاجية تحت إشراف متخصص ليست فقط لتحسين الدورة الدموية، ولكن لتدريب الجهاز العصبي ذاته على الاستجابة بشكل أفضل.

لكن العلاج لا يقتصر على الجسد فقط، فالنفس تحتاج إلى الرعاية أيضًا. الابتعاد عن الضغوط العصبية ومحاولة الحفاظ على حالة نفسية مستقرة هما جزء لا يتجزأ من رحلة التعافى. والامتناع عن التدخين والكحوليات، والالتزام بممارسة الرياضة بانتظام، يعيدان للجسد توازنه المفقود.

اعتلال الجهاز العصبى اللا إرادي ليس مجرد حالة طبية، إنه تحدٍ يعيد تعريف العِلاقة بين الإنسان وجسده، ويجعلنا ندرك كم نحن مدينون لأجهزتنا الحيوية التى تعمل فى الخلفية بلا توقف. 

لكل من يعانى، تذكر أن هذه الرحلة ليست طريقًا بلا نهاية، بل هى دعوة لإعادة اكتشاف القوة الكامنة فى الجسد والعقل.. سنستكمل الحديث قريبًا عن التمارين العلاجية التى يمكن أن تكون مفتاحًا جديدًا للتعامل مع هذه الحالة، خطوة بخطوة، نحو حياة أكثر توازنًا وراحة.

  • استشارى ومدرس العلاج الطبيعى بجامعة هليوبوليس للتنمية المستدامة
  • استشارى بمستشفى قصر العينى التعليمى الجديد الفرنساوى