ترامب والسيسى.. كيمياء السياسة وحسابات المصالح
«الرئيس السيسى أصبح شريكًا بالغ الأهمية لإدارة ترامب، بسبب دور مصر الحاسم فى سلام واستقرار المنطقة»، هكذا وصف وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، خلال ولاية ترامب الأولى، مايك بومبيو، فى كتابه «لا تُعطِ بوصة.. القتال من أجل أمريكا التى أحبُّ» Don›t Give an Inch.. Fighting for the America I Love، الذى صدر فى يناير 2023، طبيعة العلاقة التى جمعت بين الرئيس عبدالفتاح السيسى، ونظيره الأمريكى، دونالد ترامب.. وعقب انتصاره الكبير على منافسته الديمقراطية، كامالا هاريس، فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، حرص العديد من الزعماء العرب على تهنئة ترامب، وعلى رأسهم الرئيس السيسى، الذى اتصل به وأشاد بالإنجازات التى حققها ترامب خلال فترة ولايته الأولى التى شهدت نموًا كبيرًا فى العلاقة بين الرجلين، مؤكدًا تطلع مصر لاستكمال العمل المشترك مع الرئيس ترامب فى فترة ولايته الجديدة، فى ضوء الطابع الاستراتيجى للعلاقات الممتدة على مدار عقود عديدة بين الدولتين، وكذا التعاون المميز بين الجانبين، الذى شهدته فترة ولايته الأولى، وبما يعود على الشعبين المصرى والأمريكى بالمنفعة المشتركة، ويحقق الاستقرار والسلام والتنمية فى منطقة الشرق الأوسط.. ومن جانبه، ثمَّن الرئيس الأمريكى المنتخب اللفتة الكريمة من الرئيس، مؤكدًا اعتزازه بعلاقات الشراكة الاستراتيجية التى تجمع البلدين، وحرص الولايات المتحدة على تعزيزها وتطويرها، بما يحقق المصالح المشتركة، سواءً على المستوى الثنائى أو على صعيد حفظ السلم والأمن الإقليميين.
فى كتابه، حكى بومبيو، أنه التقى الرئيس السيسى لأول مرة فى 2014، حينما كان وقتها لا يزال قائدًا للجيش، أما مايك فكان عضوًا فى مجلس النواب عن ولاية كانساس.. خلال هذا اللقاء، أبلغ السيسى بومبيو ومرافقيه أنه يعتزم الترشح فى الانتخابات الرئاسية المقبلة فى مصر، نزولًا على رغبة الشعب المصرى فى ذلك.. وطلب السيسى من بومبيو، التدخل لدى الرئيس الأمريكى، وقتئذ، باراك أوباما، لإقناعه بتسليم عشر طائرات هليكوبتر من طراز أباتشى، تأجّل تسليمها بعد صيانتها للقاهرة، فى أعقاب عزل الرئيس الراحل، محمد مرسى، من منصبه، وقد جمعت علاقة مضطربة بين أوباما والسيسى، فى أعقاب الإطاحة بمرسى، عن منصبه، إثر ثورة الشعب المصرى على حكم جماعته، فى الثلاثين من يونيو 2013، التى قادتها الملايين من المتظاهرين المصريين، رفضًا لسوء إدارة مرسى البلاد.. بعدها بعدة أشهر، أمر أوباما بتجميد جزءٍ من المساعدات العسكرية لمصر على خلفية عزل مرسى، وهو القرار الذى ظلَّ ساريًا حتى أبريل 2015، وكان مؤشرًا على التدهور الكبير فى العلاقة بين أوباما والسيسي.
وفق كتاب (قواعد المقاومة: نصائح من مختلف أنحاء العالم لعصر ترامب) Rules of Resistance: Advice from Around the Globe for the Age of Trump لميلانى واتشيل، الصادر فى مايو 2023، فإن الحزب الجمهورى بشكل عام تبنّى سياسة مؤيدة للسيسى، وهو ما ظهر خلال المناظرات التمهيدية فى 2016، التى وُصِف السيسى فى إحدى فعالياتها، بأنه «شجاع» و«رجل يجب أن نُصادقه».. فى يوليو 2016، حسم ترامب ترشيح الحزب الجمهورى لصالحه فى انتخابات الرئاسة، ضد مرشحة الحزب الديمقراطى، هيلارى كلينتون.. بعدها بشهرين فقط، التقى الرجلان للمرة الأولى، خلال زيارة السيسى الولايات المتحدة، ليكون السيسى أول زعيم عربى يُقابل ترامب.. وفى هذا الاجتماع، أعرب ترامب عن دعمه القوى للسيسى، ووعده بأن أمريكا ستكون «صديقة وفية لمصر»، حال فوزه بالرئاسة، مؤكدًا وجود «كيمياء كبيرة» بينهما.. وعلى الجانب الآخر، فإن السيسى صرّح فى ظهورٍ له مع شبكة CNN، عقب الاجتماع، بأنه لا يشك أن ترامب «سيكون رئيسًا عظيمًا».
فى يوليو 2018، كشفت سيمونا مانجيانتى، زوجة جورج بابادوبولوس، أحد مستشارى حملة ترامب للشئون الخارجية، أن زوجها لعب دورًا كبيرًا فى ترتيب هذا اللقاء، بصحبة كبير مستشارى ترامب للشئون الاستراتيجية، ستيف بانون، بسبب «اتصالاتهما المباشرة» مع عددٍ من المسئولين المصريين.. وفى نوفمبر 2016، أُعلن فوز ترامب بولايته الرئاسية الأولى، وكان السيسى أول زعيم أجنبى يتصل به ويهنئه على الفوز.. وبحسب واتشيل، فإن أنصار السيسى كانوا «فى غاية السعادة» بعد فوز ترامب، وهو ما ظهر فى احتفاء أجهزة الإعلام الرسمية فى مصر بانتصاره، بعكس هيلارى كلينتون، التى وُصفت عدة مرات بأنها السبب فى وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحُكم.
حكى جاريد كوشنير، زوج ابنة ترامب ومستشاره السياسى فى مذكراته «خرق التاريخ» Breaking History أن التواصل الدبلوماسى مع السيسى بدأ حتى قبل أن يتسلّم ترامب منصبه رسميًا فى يناير 2017.. وكشف كوشنير، أنه فى نهاية ديسمبر 2016، تلقّى إخطارًا إسرائيليًا بأن مصر تعتزم تقديم مشروع قرار للأمم المتحدة، لإدانة الاستيطان الإسرائيلى بالضفة الغربية، باعتباره «انتهاك للقانون الدولي»، خطوة لم تكن إدارة أوباما تنوى الاعتراض عليها فى أيامها الأخيرة، لكنها كانت مرفوضة من فريق عمل ترامب، حفاظًا على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.. بالفعل، أعلنت مصر سحب مشروع القرار، لتدفع ماليزيا والسنغال وفنزويلا إلى تقديمه مرة أخرى.. ورغم جهود كوشنير فى تعطيل القرار، فإنه طُرح للتصويت وأيّده أربعة عشر عضوًا، فيما امتنعت أمريكا للمرة الأولى، عن استخدام حق الفيتو ضد قرار أممى يدين إسرائيل، ليصدر القرار بالأغلبية المطلقة، ويمثّل إحراجًا دبلوماسيًا كبيرًا لإسرائيل.
بحسب أحد تقارير لجنة شئون الاستخبارات بمجلس النواب، التى تشرف على عمل وكالات المخابرات الأمريكية، فإن مستشار الأمن القومى الأسبق، روبرت ماكفارلين، بعث برقية إلى ديريك هارفى، مساعد رئيس اللجنة فى مارس 2017، يخطره فيها أن مصر تعيش أوضاعًا اقتصادية صعبة، بالتزامن مع تدهور الظروف الأمنية فى سيناء وعلى الحدود مع ليبيا، التى تجعل القاهرة فى حاجة ماسة لـ«دفعة من الولايات المتحدة».. وفق البرقية، فإن الشعب المصرى بات «معاديًا لأمريكا»، وأن السيسى اقترح على ماكفارلين خطوات وأفكارًا لإعادة بناء العلاقة بين البلدين بشكلٍ صحي.
بعدها بشهرٍ واحد، التقى الرجلانـ كرئيسين ـ للمرة الأولى، إثر زيارة قام بها السيسى إلى البيت الأبيض، لأول مرة منذ سبع سنوات، حيث قُوبل بحفاوة كبيرة من ترامب، الذى أعلن بوضوح أنه «صديق كبير وحليف كبير»، وأنه يقف «بكل وضوح وراءه».. وبحسب ما ذكره أستاذ العلوم السياسية، محمد الشيمى، فى بحثه «محددات سياسات دونالد ترامب فى الشرق الأوسط للتعامل مع الإرهاب»، فإن أمريكا فى عهد ترامب، أظهرت الرغبة فى دعم مصر خلال حربها ضد الجماعات الدينية المسلحة فى سيناء، دون أى تحفظات، بعكس إدارة أوباما، التى ربطت المساعدات العسكرية بالإصلاح الديمقراطى وملفات حقوق الإنسان.
فى مايو، قام ترامب بزيارة إلى السعودية، حظيت بتغطية إعلامية مكثفة، وخلال القمة العربية الإسلامية الأمريكية، التقى الزعيمان للمرة الثالثة، وحينها أخبر السيسى ترامب بأنه «شخصية فريدة قادرة على فعل المستحيل»، وفقًا لما أورد مايكل وولف، فى كتابه «نار وغضب: البيت الأبيض فى عهد ترامب» Fire and Fury: Inside the Trump White House، الصادر فى يوليو 2021.. بعدها بأشهر، التقى الزعيمان مرة أخرى فى نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وعلى الرغم من إعلان واشنطن تجميد قرابة ثلاثمائة مليون دولار من المساعدات، بسبب ما ادعته واشنطن، من مخاوفها من تردّى أوضاع حقوق الإنسان بمصر، فإن ترامب بادر بالاتصال بالسيسى بعدها بأيام معدودة، للتأكيد على حرصه إبقاء التعاون مع القاهرة مفتوحًا.. ولاحقًا قررت الإدارة الأمريكية الإفراج عن جزءٍ من هذه المساعدات.
بحسب كوشنير، فإن خلافًا وقع مع الإدارة المصرية نهاية هذا العام، عقب تقديم المجموعة العربية مشروع قرار فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدين قرار ترامب باعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها.. ووفقًا لمذكرات صهر ترامب، فإنه بذل جهودًا كبيرة لإثناء الدول عن دعم هذا القرار، أو على الأقل الامتناع عن التصويت، وهو ما أثمر عن امتناع خمسة وثلاثين دولة عن إعلان موقفٍ من القرار، ورفض تسع أخرى للقرار، لم تكن كافية لمنع إصداره، بعد موافقة مائة وثمانية وعشرين دولةـ من بينها مصرـ عليه، رغم أن ترامب هدّد بقطع المساعدات التى تقدمها أمريكا للدول الداعمة لهذه الخطوات.
فى مطلع يناير 2018، زار مايك بنس، نائب ترامب مصر، وكشف فى كتابه «فليساعدنى الرب» May God help me، أن هذه الزيارة شهدت أزمة صغيرة خلال اجتماعه بالسيسى، بعدما رفض رجال الأمن بالقصر الرئاسى المصرى، السماح للصحفيين الأمريكيين بتغطية هذا الاجتماع.. يحكى بنس أن الرئيس السيسى، استجاب لطلبه بالسماح لهم بالدخول.. وكشف مايك، أنه رغم أن السيسى أظهر معارضةً علنية للقرار الأمريكى بنقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس، فإنه كان داعمًا بشكلٍ عام لترامب، ويتطلع للتعاون معه فى عددٍ آخر من القضايا.. أيضًا، حكى نائب ترامب، أنه خلال مأدبة طعام أقيمت بالقصر الرئاسى المصرى، احتفاءً بقدومه، مالَ عليه السيسى وسأله، ما إذا كان رجلًا مؤمنًا، فأجابه بالإيجاب، وهو ردٌّ راقٍ لرئيس مصر وأعرب عن احترامه له.
فى سبتمبر التقى ترامب والسيسى للمرة الرابعة، خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وفى أبريل 2019، التقى ترامب بالسيسى فى البيت الأبيض مجددًا، وحينها أعلن ترامب أنه لم يسبق وأن أصبحت العلاقات بين أمريكا ومصر أفضل مما هى عليه الآن، وقال ترامب، إن مصر شهدت فوضى عارمة قبل أن يأتى السيسى إلى السلطة، ووصفه بأنه «زعيم حقيقي».. إن الرئيس السيسى نجح فى تحقيق النظام والأمن داخل البلاد منذ توليه السلطة، «عندما وصل الرئيس السيسى إلى سدة السلطة، كانت البلاد فى حالة من الفوضى، والآن ليس هناك فوضى».. وشدد على حرص الإدارة الأمريكية على تفعيل أطر التعاون الثنائى المشترك، وتعزيز التنسيق والتشاور الاستراتيجى القائم بين البلدين وتطويره.. وأكد ترامب أن مصر تعد شريكًا محوريًا فى الحرب على الإرهاب، معربًا عن دعم بلاده الكامل للجهود المصرية فى هذا الصدد.
وقُرب نهاية ذلك العام، طلب السيسى من واشنطن التوسط لحل أزمة سد النهضة، وفق بومبيو، وهو ما استجابت له الإدارة الأمريكية بالفعل، فبدأ ترامب برعاية مباحثات مكثفة بين الطرفين، كادت تُسفر عن اتفاق طال انتظاره فى القاهرة، لولا انسحاب إثيوبيا فى اللحظات الأخيرة منه، وهو أمر أغضب ترامب، فأعلن قطع مائة مليون دولار من المساعدات الأمريكية لإثيوبيا.. وفى أكتوبر 2020، صرّح ترامب، بأن فشل المسار التفاوضى، قد يدفع القاهرة إلى «تدمير السد»، وهو ما انتقدته أديس أبابا حينها، واعتبرت أنه «تحريض على الحرب بين القاهرة وأديس أبابا».
●●●
وأخيرًا، يعود دونالد ترامب ثانية، رئيسًا للولايات المتحدة.. ولأن العالم تعرَّف عليه خلال ولايته الأولى، فإن عودته بعد جو بايدن، تمنح مصر فرصة لم تحدث من قبل مع رئيس أمريكى قادم، لتوقع سياسته الخارجية تجاه القاهرة.. وربما علينا تذكُّر أن القاهرة راهنت على ترامب قبل دخوله البيت الأبيض رئيسًا.. بدا هذا الرهان فى الأشهر التى سبقت انتخابات عام 2016 الرئاسية مُستغربًا.. فرغم العلاقة المتوترة بين إدارة الرئيس الديمقراطى وقتئذ ـ باراك أوباما، والرئيس عبدالفتاح السيسى، فإن عدم إعلان الانحياز تجاه أى مرشح رئاسى أمريكى، كان أحد ثوابت السياسة الخارجية المصرية.. لكن الإدارة المصرية كسرَت هذه القاعدة، فى الانتخابات التى اختار فيها الحزب الديمقراطى وزيرة الخارجية السابقة، هيلارى كلينتون، لتمثله أمام المرشح الجمهورى، دونالد ترامب، ولعل هذا الرهان هو ما جعل السيسى أول رئيس دولة يتحدث مع ترامب هاتفيًا، فور إعلانه رئيسًا قادمًا للولايات المتحدة الأمريكية.. وقتها، أشاد الرئيس المُحب للصفقات السياسية البراقة بالرئيس السيسى، خلال فترة وجوده بالبيت الأبيض، واعتبره شريكًا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق تصورات إدارة ترامب فى الشرق الأوسط، لإحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.. كما بدا ترامب متفهمًا لمخاوف مصر من سد النهضة الإثيوبى وتأثيره المباشر على أمنها المائى، فى الوقت نفسه، لم يكن حريصًا على أجندة سلفه أوباما فى دعم ملفيّ حقوق الإنسان والتحول الديمقراطى فى الشرق الأوسط، أو حتى حريصًا على الأجندة المعلنة للرئيس جورج دبليو بوش، فيما أسماه بدعم نشر الديمقراطية فى الشرق الأوسط.
من المرجح أن يحاول ترامب إعادة ترتيب أولويات العلاقات الأمريكيةـ المصرية.. فهل سيحافظ ترامب على نهجه تجاه مصر، مع دخوله البيت الأبيض للمرة الثانية؟.
ربما تعتمد إجابة هذا السؤال على التحولات العميقة التى تمر بها المنطقة، خصوصًا فى أعقاب الحرب التى تخوضها إسرائيل فى قطاع غزة، تلك الحرب التى أثرت فى خطط الولايات المتحدة للانسحاب من الشرق الأوسط، ونقل ثقلها العسكرى إلى منطقة المحيط الهادى لاحتواء الصين، كما تعتمد الإجابة أيضًا على أجندة المطالب الأمريكية من مصر خلال السنوات المقبلة.
خلال سنوات حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، يقول الكاتب أحمد ذكى، كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ رونالد ريجان وحتى جورج دبليو بوش، تنظر للعلاقة مع مصر من خلال خمسة ملفات.. فى مقدمة هذه الملفات، يأتى الحفاظ على السلام مع إسرائيل، ثم ملف التعاون العسكرى، وملف التعاون الأمنى، وملف قدرة القاهرة على تقديم غطاء سياسى للتحركات الأمريكية فى المنطقة، وآخر هذه الملفات يتضمن الاستثمار فى ربط الاقتصاد المصرى بالشركات الأمريكية وبالسوق الأمريكية، من خلال تسهيل الصادرات المصرية للولايات المتحدة، كضمانة للحفاظ على التحالف السياسي.
من المرجح أن يحاول ترامب إعادة ترتيب أولويات العلاقات الأمريكيةـ المصرية، وفق ملفات المنطقة المشتعلة.. وبالتأكيد عند دخوله البيت الأبيض فى يناير المقبل، ستظل آثار الحرب الإسرائيلية فى غزة مستمرة، حتى وإن توقفت العمليات العسكرية، الأمر الذى سيدفع ترامب لإعلان موقفه من المطالبات الدولية بتنفيذ حل الدولتين، بما يتضمنه من تنازلات إسرائيلية لا يريد أى طرف فى المعادلة السياسية الإسرائيلية الحالية تقديمها.. ومن المؤكد أن ترامب سيحاول تفعيل دولة فلسطينية منزوعة السيادة وخالية من القدس، أو من الأراضى التى تم احتلالها خلال حرب 1967، وهى الصفقة التى ستحتاج لغطاء سياسى من الدول العربية.. ومن المحتمل أن يحاول ترامب تنفيذ رؤية زوج ابنته ومستشاره السابق، جاريد كوشنر، بشأن غزة، عندما قال فى جلسة بجامعة هارفارد، إن الجزء الواقع على الواجهة البحرية فى غزة «قيِّم للغاية» لاستغلاله عقاريًا وسياحيًا، وأنه إذا كان يملك القرار فى إسرائيل، فإنه سيبذل قصارى جهده «لإخراج الناس من غزة وتنظيفها».. إذا تبنت إدارة ترامب رؤية كوشنر لغزة، فإن ذلك سينقل مستوى التوتر السياسى والأمنى فى المنطقة لمرحلة أعلى، وبالطبع سيكون مطلوبًا من القاهرة أن تنخرط فى جهود إثناء ترامب عن تبنى هذه الرؤية الكارثية.
خلال إدارة الرئيس الأسبق، دونالد ريجان، كان الدعم المصرى العسكرى لجهود الإدارة الأمريكية لمساندة المجاهدين فى أفغانستان، إحدى ثمار ملف التعاون العسكرى، بينما كان الغطاء السياسى الذى قدمته القاهرة للحشد العسكرى الأمريكى من أجل تحرير الكويت من الاحتلال العراقى، أمرًا مهمًا لإدارة بوش، وهو ما أدى إلى إعفاء مصر من جزء كبير من ديونها العسكرية.. وخلال إدارتى الرئيس بيل كلينتون والرئيس جورج دبليو بوش، كان التعاون الأمنى بين مصر ومجتمع الاستخبارات الأمريكى ملفًا يوازى فى أهميته ملف الحفاظ على السلام مع إسرائيل، بسبب انخراط الولايات المتحدة فى حربها مع تنظيم القاعدة.
وخلال كل مراحل التحالف السياسى بين القاهرة وواشنطن، حرصت الإدارات الأمريكية على عقد اتفاقات اقتصادية لزيادة الصادرات المصرية للولايات المتحدة، من أجل ضمان تحقيق الأهداف الأمريكية من العلاقة مع القاهرة، كما يقول جيسون براونلى، فى كتابه «منع الديمقراطية: سياسة التحالف الأمريكى المصري» Democracy Prevention: The Politics of the U.S.-Egyptian Alliance.. إذ تصاعد التعاون الأمنى بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية خلال حكم كلينتون وبوش بسبب الانخراط فى الحرب على الإرهاب، وتحديدًا تنظيم القاعدة، الذى كان مخترقًا من أجهزة الاستخبارات المصرية بشكل مؤثر.. وخلال إدارة أوباما، تغيرت الأجندة الأمريكية للعلاقة مع مصر. فبعد الإطاحة بمبارك كان من المهم ضمان الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، بينما تراجعت ملفات التعاون العسكرى والأمنى، فى مقابل صعود ملفات جديدة، مثل ملف حقوق الإنسان، وملف التحول الديمقراطى، وهو ما عكسته مضامين البيانات الرسمية وتصريحات مسئولى إدارة أوباما خلال زيارتهم للقاهرة.
أما مع ترامب، فانشغلت السياسة الخارجية لإدارته فى الشرق الأوسط، بملف الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، وبالتخبط حيال الوجود العسكرى الأمريكى شمال سورياـ ثم الأزمة مع الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان.. وبالطبع التورط فى الأزمة الخليجية والتوتر الشديد فى العلاقات بين حلفاء واشنطن فى المنطقة، ومحاولة التسويق لصفقة القرن التى يعتبرها نهاية الصراع وربما تكون الفرصة الأخيرة!.. وخلال ولايته المقبلة، من المتوقع أن يعود ترامب لسياسته الأثيرة فى إجراء الصفقات، التى تتضمن مقايضات بين ما تريده الولايات المتحدة مقابل رغبات الطرف الآخر.. وبالطبع، ستكون القاهرة فى حاجة ملحة لدعم مالى كبير، من أجل الخروج من أزمتها الاقتصادية العميقة.. ومن المرجح أن يحاول ترامب مقايضة دعم إدارته للقاهرة، من خلال المنح والمعونات الاقتصادية، مقابل أن تكون شريكة فى صفقة جديدة فى المنطقة، تتضمن مقاربة «ترامبية» لحل الدولتين.
وخلال العام المقبل، ستظل أزمة سد النهضة الإثيوبى حاضرةً، وهو ما سيجعل القاهرة تطلب من إدارة ترامب دعمًا لها فى هذا الملف، الذى بدأه نهاية ولايته الأولى، وتجاهلته إدارة بايدن خلال سنواتها فى البيت الأبيض.. وبالطبع لن يكون دعم ترامب للقاهرة مجانيًا.. لكن، لن يكون ملف السد الإثيوبى هو الوحيد الذى تنتظر القاهرة موقف إدارة ترامب منه، بل ستنتظر أيضًا موقف ترامب من الأزمة السودانية، وما إذا كان سيلعب دورًا نشطًا فى إنهاء القتال هناك، عبر الضغط على حلفاء القوتين العسكريتين، أم أنه سيُبقى على سياسة إدارة بايدن، التى اكتفت بإصدار البيانات وعقد اللقاءات، دون تحرك جدى لإيقاف القتال، والبدء فى مرحلة إعادة بناء الدولة فى السودان.
ومثلما بدا ترامب خلال سنواته الأربع الأولى فى البيت الأبيض، كإعصارٍ هائجٍ هدفه الإطاحة بكل التقاليد الرئاسية الأمريكية، فإن عودته المرتقبة لن تخلو من إرباكٍ لحسابات حلفائه السابقين فى المنطقة، خصوصًا فى ظل لحظة هى الأكثر توترًا منذ عقود.. وتبدو عودة ترامب بالنسبة للقاهرة، حدثًا تتراوح النظرة إليه بين التفاؤل به بسبب ماضيه كداعم للنظام السياسى، وبين القلق من صفقاته السياسية، التى تبشر بالحل الدائم وقد لا تنتج سوى المزيد من انفجار الأوضاع فى المنطقة.. وتبقى المنطقة فى انتظار القادم.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.