رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العقلية الانتقادية فى بلادى

الانتقاد، لغويًا، هو «عملية إظهار العيوب»، وانتقاد التصرف السيئ يعنى تبيين مساوئ التصرف وعيوبه، أما انتقاد الأعمال الأدبية فيعنى إظهار مزاياها وعيوبها «الانتقاد بهذا الشأن= النقد». 

أكثر الناس فى بلادى يملكون عقلية انتقادية، هذه طبيعة لدينا تقريبًا، فالكلام كله ينصب على إظهار العيوب، لا يأخذ معنى الانتقاد الأدبى، وقد بينته آنفًا أى إظهار العيوب ومزاياها، ولو أخذ المعنى لكان انتقادًا موضوعيًا ومطلوبًا، لكنه يمعن فى إظهار العيوب وحدها، غاضًا الطرف عن المزايا، كأن الواقع خلا من الممدوحات! 

لا أقصد هنا حديث المواطن عن الحكومة بالذات، وفيه ما فيه من الانتقاد الشديد اللاذع المشهور، إنما أقصد حديثه عن كل شىء، البيت والشارع والسوق والنادى والمقهى والبشر الذين يعرفهم، والذين لا يعرفهم، وكل ما يحيط به بالجملة.

دومًا ننصح أطفالنا وشبابنا بأن يحرصوا على امتلاك عقلية نقدية؛ فذلك يفتح لهم أبواب المعارف فعلًا، غير أن نقد الأشياء هو تبيان حسنها ورديئها، كما سبقت الإشارة، وليس النقد كالانتقاد الذى يكتفى بذكر النقائص.

الأغلبية فى بلادى انتقادية لا نقدية للأسف، لا ترى فيما يجرى كله، على كل المستويات كما مر، ما يجعلها تتفاءل، وتدعو إلى التفاؤل، بل ترى المثالب فتتشاءم، وتدعو إلى التشاؤم.
من الحياة إلى الموت، كل الأمور والأحداث منتقدة، وبقوة، ميلاد المولود محل انتقاد، وسير النعش بالميت فى الطريق محل انتقاد، وهذه عقلية فشل المربون فى تربيتها على الوجه المراد، الوجه النقدى الذى يظهر الحلو والمر، وقد أنرته، لكنه يركز على المر تركيزًا يمحو كل حلاوة، ويجعل الأيام جحيمية لا تطاق!

لا ريب فى أن الموضوع قديم، وله أسبابه التى أوصلته إلى ذلك المنحنى العجيب، ومن ضمن الأسباب المباشرة: تعليمنا وإعلامنا وثقافتنا؛ فلا ديمقراطية فى التعليم مما يفصل الطلاب عن المدرسين مبنى ومعنى؛ فينفرد كل فريق بزاويته محاربًا الفريق الآخر، والإعلام متطرف فى انحيازه ومتطرف فى عداوته، هكذا تخلق متابعته متطرفين مثله، والثقافة منحرفة عن إبلاغ فحواها للناس عمومًا، من حيث إن التثقيف هو التهذيب، ابتداء، وإنما تحصر نفسها فى جملة من العلوم والفنون والآداب التى لها انحيازاتها الخاصة، ما يدفع المتلقى إلى الانحياز هو الآخر. يضاف إلى تلك الأسباب الراسخة سبب مستمر هو ما يجده كل فرد عندنا فى بيئته من الخلاف والشجار والسخرية.

لقد نجحنا نجاحًا مخجلًا فى صناعة العقلية الانتقادية الهدامة، وأخفقنا إخفاقًا مخزيًا فى خلق عقل نقدى بناء محترم، ولو راقبتم أهالينا فى كل مكان يتواجدون فيه للعمل أو حتى التسلية لتأكد لكم كلامى؛ فحفاوتهم بالحديث الطويل المتشعب عن المذمات والعورات والشوائب زائد تمامًا، وأصحابه سعداء بسيرته، ولا يقابله حديث مماثل عن الطيبات والأفضال والمكارم.
تعليمنا وإعلامنا وثقافتنا بحاجة ماسة إلى تغيير جذرى كبير، وبيئاتنا بنفس الحاجة إلى فرز وتنقية وإصلاح، وإلا كان الاضمحلال والضياع مصيرينا المحتومين!